حميد قاسمي تنوير-
في زمنٍ تتشابك فيه الخطابات السياسية بالشعارات الحقوقية، وتُرفع فيه اللافتات باسم الكرامة والمساواة، تبرز أحياناً مواقف تكشف هشاشة الوعي الإنساني لدى من يُفترض فيهم أن يكونوا حماة لهذه القيم، لا عثراتٍ في طريقها. هكذا أثار تصريح النائبة البرلمانية عن حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، عائشة الكرجي، خلال جلسة برلمانية بتاريخ الثامن والعشرين من أكتوبر 2025، موجة استنكارٍ واسعة في صفوف جمعيات المجتمع المدني، بعدما تضمن عباراتٍ اعتُبرت مهينةً للأشخاص في وضعية إعاقة.
هيئاتٌ مدنية عديدة، بلغ عدد توقيعاتها مائةً وسبعة عشر توقيعاً، عبّرت في بيانٍ مشترك عن استيائها العميق مما صدر عن النائبة من أوصافٍ تمسّ الكرامة الإنسانية، معتبرةً أن تلك العبارات تُرسّخ لثقافة الوصم والإقصاء المتجذّرة في الوعي الجمعي، والتي تسلّلت حتى إلى مؤسسةٍ يُفترض أن تكون حصناً للقيم والمواطنة وحقوق الإنسان. الجمعيات ذاتها أوضحت أن موقفها لا يستهدف الحزب أو الفريق البرلماني، بل يوجَّه حصراً إلى الخطاب التمييزي الذي يناقض مبادئ المساواة والإنصاف، داعيةً البرلمان إلى اتخاذ موقفٍ صارمٍ يكرّس ثقافة احترام الإنسان في اختلافه، ويؤسس لخطابٍ جامعٍ يليق بالفضاء العام.
غير أن ما يثير الاستغراب في هذه الحملة العارمة، أن الغضب انصبّ على الألفاظ دون أن يمتدّ إلى واقعٍ أشدّ قسوةً وأعمقَ جرحاً. فبينما تسارع هذه الجمعيات إلى تجريم كلماتٍ دارجة في التداول الاجتماعي، تغضّ الطرف عن معاناةٍ يوميةٍ يواجهها آلاف الأشخاص في وضعية إعاقة، يتسولون في الشوارع و أمام المساجد، محرومين من أبسط شروط الكرامة. لم تُثر هذه الصور فيهم الغضب نفسه، ولم تُحرّك فيهم الحمية الحقوقية ذاتها.
إن كلماتٍ مثل عرجاء، عوجا، أو ما عندهاش الرجلين، في السياق الكلامي الدارج المغربي، ليست دائماً تعبيراً عن احتقارٍ أو تنقيص، بقدر ما تُستعمل أحياناً في مجازاتٍ لغوية أو أمثالٍ دارجة، لا يُقصد بها الإيذاء، وإن كانت قد تجرح السمع في مقامٍ رسمي. لكن الخطأ لا يُقاس بحدة الانفعال، بل بميزان المقاصد والنتائج. وإذا كانت النائبة قد زلّت في التعبير، فإن ما يُقال في الشارع، وفي الأعمال التلفزيونية الرمضانية، وفي النكت اليومية التي تتخذ من الإعاقة مادةً للتهكم، أدهى وأمرّ.
نحن، المكفوفين مثلاً، كم نسمع من العبارات التي تستبيح كرامتنا في المزاح والحديث العابر. من مثل شدّك شدة الأعمى في الظلمة، أو بينا للاعمى، أو كل نهار كسية الأعمى في الما. ومع ذلك لم نرَ هذه الجمعيات تنتفض، ولم نقرأ بياناتها الغاضبة حين يُهان المكفوف في الشارع، أو حين يُترك بلا دخلٍ ولا رعايةٍ ولا فرصة عملٍ تحفظ له ماء وجهه. لم تُصدر بياناً حين صُوّرت الإعاقة في الدراما المغربية على أنها مادةٌ للتندر والتفكه أو وسيلةٌ لإثارة الشفقة.
إن الدفاع عن حقوق الأشخاص في وضعية إعاقة لا يكون بردودٍ انفعاليةٍ عابرة، بل بإرادةٍ مجتمعيةٍ صلبةٍ ومستمرة، تتأسس على الفعل لا على القول، وعلى الوعي لا على الضجيج. كما قال فيكتور هوغو إن الكلمة قد تجرح، لكن الإهمال يقتل. ومن قبله قال تولستوي إن أعظم الشرور هي اللامبالاة، لأن الصمت أمام الظلم هو مشاركة فيه. أما نيتشه فقد حذّر من أن الأخلاق التي تُمارَس بالانتقائية لا تُنقذ أحداً، بل تفضح ضعف المجتمع أمام نفسه.
البرلمان، بصفته مؤسسةً دستوريةً تمثل ضمير الأمة، مدعوٌّ إلى ترسيخ ثقافةٍ جديدةٍ في الخطاب السياسي، تتجاوز المحاسبة اللفظية إلى التأسيس لقيمٍ حقيقيةٍ في احترام التنوع والاختلاف. أما الجمعيات المدنية، فإن صدقيتها تُقاس بمدى انخراطها في الدفاع الميداني عن هذه الفئات، لا بانتقائية المواقف واصطياد الزلات.
إنّ ما جرى يجب أن يكون مناسبةً لمراجعةٍ شاملةٍ للمنظومة الحقوقية، لا لإدانةٍ لغويةٍ عابرة، بل لإعلاء صوت من لا صوت لهم، وردّ الاعتبار إلى الإنسان المغربي في هشاشته وقوته، في إعاقته وقدرته، في إنسانيته الكاملة غير المنقوصة. فالأمم لا ترتقي بخطاباتها، بل بضميرها الحي، وصدق ممارساتها في خدمة أبنائها جميعاً بلا تمييزٍ ولا استثناء.