ثقافة و فن

النجاح: قصة سوء فهم طويلة- عبد اللطيف أجدور

 

 “اِكتشِفِ الأمر بنفسِك” بإيجازٍ عَجِل، وفي عبارة وفّرت علينا تُرّهاتٍ مُسْتفيضة في وَصفات النّجاح، ورَحِمتْنا من محاضراتٍ رتيبةٍ كاملةٍ عن طَبائع القيادة واستراتيجيات التّميُّز، ردّ الممثل الهولْيوديّ بطلُ أَيْقونةِ Gladiator (المُصارِع) ونجم التُّحفةِ الفنيّة A beautiful mind (عقلٌ جميل)؛ ردّ راسل كْرو Russell Crow خلال ندوةٍ صحفية عن سؤال: ما هي وصْفتكَ للنّجاح؟.

هل تتّبِع طريقة ستانكولافسكي في التّمثيل؟ عاد الصحفي ليستفسر؛ رد راسل بأن كل ما تلقاه من تعليم عن التمثيل لا يتجاوز ثلاثة أسابيع في دراسة النصوص الكلاسيكية خاصة في الدراما.

سؤال الصّحفيّ الذي يُعد من صَميم عمله على كُلّ حال، يَخْتزِل سَذاجةً واضِحة؛ فالحديثُ عَنٌ “وَصْفةٍ” إلى النّجاح، قدْ يصِحّ في سياق الطبخ لا بصدد النُّبوغ والإبداع. لوْ كانتْ لِطريقِ العبْقرية “وصفة” نجاحٍ على منطق السّائل، لكان العالم يعُجُّ بأمْثال آيْنشْتاين وهِمنْغواي وبِرتْراند راسْل ودافِنْشي.

في التّمْثيل كما في الحياة كما في الكتابة كما في الجِنس؛ كما في الطّبخ أيضا، ليس حتْمِيّا اعْتناقُ أفكارٍ مَوْروثة، وتَبني أَنْماط سائدة أوْصلت بعض النّابِغين إلى مُعانقة الخُلود عبْر نحت أسمائهم في الذّاكرة الجمْعيّة الإنسانية؛ بل إنّ التاريخ أثْبت إن أغلب العباقرة إنّما في لحظة فارِقة، قرروا التّخلي عن المّسَلّمات. وقاموا بثورة على أنفُسِهم أولا، وعلى مُحيطهِم الذي سَهِر لسنين من أجل قوْلبة التفكير في الأنْساق نفسِها.

هكذا َمضى أولئك الجَسورون بجُنونيّة إلى أبعد الحُدود، في السّياق المجتمعي والعلمي الذي كانوا يعيشون فيه. ولأنّ الإنسان عَدوّ التغْيير؛ صادَرَ جَلادو الإبداع تلك الخَطوات المُباركة، ودفع كُثُر حَيَواتِهم ضَريبةً غاشِمة لهذا الإقْدام؛ جورْدانو بْرونو وسقراط وجاليلي جاليلو أمثلة من أخرى كثيرة ترتّبتْ عن تضحياتها آفاق رحْبة جديدة لا عهْد للبشرية بها.

تشارلز بوكوفسكي مِثال آخر على قصّة سوء الفهم الطويلة بين الإنسان والنّجاح؛ بدأ بوكوفسكي بمُحاولة نشْر قصص في صُحف ومجلات هنا وهناك، على خُطى الكتّاب المُبتدئين في العادة. لكنه فَشِل في اقْتِحام عالم الأدب، وانْقطع عن الكتابة لعِقْد من الزمن.

اشْتغلَ في مَصنع لفترة قصيرة، وعمل في عدة وظائف بشكل مُتقطّع، وأقام في أحياء فقيرة رخيصة. انتهى به الأمر في وظيفة بمكتب البريد؛ غير أنه اسْتقال بعد ثلاثة سنوات. وفي عام 1955م دخل المَشْفى للعلاج من قرحة مَعِديّة شبه مُميتة.

تزوّج تشارلز أكثر منْ مرة، واتّسمتْ غالبًا علاقته بالنساء بالفشل أيضا، مرّ بالكثير من التّجارِب، تزوّج عام 1957م من باربرا فْراي وانْفصلا عام 1ُ959؛ إثْرها انْتكَس إلى تَعاطي الكحول والقمار، وواصل تصْريف مَآسيه على الورق.

بيّنٌ أنّ طريقَ الفشلِ الطّويلة التي سَلَكَها تشارلز بوكوفسكي هي التي أوْصلتْه في النّهاية إلى كتابة نصوصٍ رائعةٍ، سَحَرَتْ مَلايينَ القُرّاء عبْر العالم وما تزال؛ إنَّ “وَصْفة” النّجاح التي انْتهتْ به اسْما لامعاً ضِمن الكتّاب العالميّين الذين يتذكّرُهم التّاريخ، طريق مَريرة مُتْخنة بسنوات من الفشل، بعلاقاتٍ مَبْتورَة مع النساء، باضْطرابات مهنيّة، بالعجزِ عن بناء علاقاتٍ إنسانية صِحيّة والتأقلمِ في المحُيط، وباليأْس من الحصول على حياةٍ مُستقرّةٍ بعيدة عن إدمان الكحول والقمار.

إنَّ النّجاح شأْنُهُ شأنُ الكثيرِ مما يتعلقُ بحياة الإنسان، يَتَحدّد بظروفٍ وعناصر يتداخل فيها ما يُتحكَّمُ فيه وما هُوَ خارِجٌ عنْ طوْعِ اليد؛ لا يَسَعُ المرءَ سِوى أن يحلم بضَراوَة، وأنْ يُحاول ويُعيد المُحاوَلات بكثافة، دونَ جَزَعٍ أو اسْتِعجالٍ أو ضيْق.

والأهمّ أن يسمح لِنفسِه بأن يَتوه ويُجرّب، وبأنْ يفشل، وعندما يتعلّقُ الأمر بالنّجاح “أن يِكتشِف الأمر بنفسِه”.

عبد اللطيف أجدور

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى