من التشاركية المعلنة إلى السردية الأمنية: أي حكامة للقرار العمومي في السياق المغربي؟

مصطفى المنوزي
حين يُحتكر القرار وتُنكث الالتزامات، لا تتقادم فقط آراء المواطنين بوصفها تعبيرات ظرفية، بل يُمسّ في العمق جوهر العلاقة بين الدولة والمجتمع. فالتشاركية، التي يُفترض أن تشكل أحد أعمدة الحكامة الديمقراطية، تتحول في كثير من الحالات إلى آلية شكلية لتدبير الانطباع العام، بينما تنقلب الثقة من رابطة تعاقدية قائمة على الالتزام والمساءلة إلى مجرد خطاب تبريري يُستعمل لاحتواء التوتر أو تأجيل المساءلة.
من زاوية حقوقية، لا يمكن التعامل مع هذا الوضع باعتباره خللًا عرضيًا أو سوء تواصل. نحن أمام مساس مباشر بمبادئ دستورية وكونية، في مقدمتها الحق في المشاركة في تدبير الشأن العام، ومبدأ حسن النية في ممارسة السلطة، والأمن القانوني، الذي يفترض استقرار القواعد واحترام الالتزامات المعلنة. فالمشاركة التي لا أثر لها، والالتزامات التي لا تُحترم، تُفرغ الحقوق من مضمونها وتحوّلها إلى امتيازات خطابية لا أدوات تمكين فعلي.
سياسيًا، يتقاطع هذا المسار مع تصاعد السردية الأمنية باعتبارها الإطار المهيمن على تبرير القرار العمومي. فبدل أن تُقدَّم السياسات باعتبارها اختيارات قابلة للنقاش العمومي والتقويم الجماعي، يُعاد تأطيرها ضمن منطق “الضرورة”، و“الاستعجال”، و“حماية الاستقرار”. وهنا يحدث التحول الحاسم:
من قرار عمومي قابل للمساءلة إلى قرار أمني محصَّن سرديًا.
في هذا السياق، لا تُلغى التشاركية رسميًا، بل يتم تحييدها عمليًا. يُستدعى الفاعل المدني أو الحقوقي بوصفه شاهدًا أو مُزكّيًا، لا شريكًا في صناعة القرار. كما تُختزل الوساطة المؤسستية في وظيفة امتصاص الغضب بدل تفكيك أسبابه. وهو ما يخلق مفارقة خطيرة: مؤسسات وُجدت لبناء الثقة، تُسهم – دون قصد أحيانًا – في إعادة إنتاج فقدانها.
حقوقيًا، تُطرح هنا مسألة حدود الأمننة:
متى يتحول الأمن من وظيفة حمائية للحقوق إلى ذريعة لتعليقها؟
ومتى تصبح السردية الأمنية أداة لتقليص النقاش العمومي بدل تنظيمه؟
إن الإشكال لا يكمن في حضور البعد الأمني في السياسات العمومية – وهو أمر مشروع – بل في تحوله إلى سردية مهيمنة تُقصي السرديات الحقوقية والاجتماعية، وتُقدَّم باعتبارها الحقيقة الوحيدة الممكنة. وهنا يصبح الخلاف ليس حول القرار، بل حول مشروعية مساءلته أصلًا.
ومن هذا المنطلق، يفرض سؤال الحكامة نفسه من جديد:
هل الحكامة في السياق المغربي تُفهم كتحسين تقني للإجراءات، أم كاختيار سياسي وأخلاقي يعترف بالمواطن كفاعل كامل الأهلية؟
وهل يمكن الحديث عن حكامة حقيقية في ظل اختلال ميزان السرديات لصالح منطق أمني غير خاضع للتداول العمومي؟
أما الوساطة المؤسستية، فهي اليوم أمام اختبار حاسم. فإما أن تعيد تموقعها كفضاء مستقل لنقل التظلمات، وتفكيك النزاعات، وربط القرار بالحق، أو تتحول إلى حلقة إضافية في سلسلة التدبير العمودي للأزمات. الوساطة، في معناها الحقوقي، ليست تقنية تهدئة، بل ممارسة مساءلة واقتراح، وبدون هذا الدور تفقد مبرر وجودها.
خلاصة القول، إن ما نعيشه ليس أزمة مشاركة فحسب، بل أزمة حكامة وسرديات:
سردية تعِد بالتشاركية وتمارس الإقصاء، وتُبشّر بالثقة بينما تُراكم أسباب تآكلها،
وتستدعي الأمن لتدبير السياسة بدل أن تُسيّس الأمن في أفق حقوقي.
إن إعادة بناء الثقة لا تمر عبر مزيد من البلاغات ولا توسيع واجهات التشاور، بل عبر إعادة التوازن بين السرديات، وردّ الاعتبار للحق في المساءلة، وترسيخ حكامة تجعل من الأمن وسيلة لحماية الحقوق، لا غطاءً لتعليقها.


