أحمد لطف الله عن المعرض الفنّي الجماعي“جَسَدٌ لِسانٌ” :حوارات الجسد
“جَسَدٌ لِسانٌ” معرض فنّي جماعي، يستضيف فنانين تشكيليين: سميرة آيت لمعلم، زهرة عواج، بنيونس عميروش، سعاد بياض، شفيق الزكاري. افتَتحُ المعرضُ مساء يوم السبت 02 يوليوز 2022، وسيمتد إلى غاية 30 يوليوز 2022، وذلك بفضاءالرضى، BKHS Center الكائن بـ 52،شارع الزرقطوني، الدار البيضاء.
في تقديمه للمعرض،كتب الناقد الفني أحمد لطف الله:
جسدٌ–لسانٌ /حوارات الجسد
“الجسد كتلةٌ من اللغة؛ كلُّ جوارح الجسد حروفٌ وكلمات وإيماءات. حتى في صمته يتحدثُ جمالا. ولذلك يتم اتخاذه “ناطقا رسميا” باسم الإبداع والفن. فلسانُ الجسد، هو لسانُ مختلَفِ الخطاباتِ الإبداعية الأدبية والفنية والبصرية.كُنْهُ اللسان واحد، هو الكيان الوجودي للجسد وكل ما ينتجه من: أحاسيس، أفكار، رؤى، أحلام، وتمثلاتٍ تعبيرية وجنسية وجمالية، أما الشكلُ فهو اختلافُ ألْسِنَةِ لغةِ الجسدِ وألوانِها.
من أين ينطلق الجسد في تحولاتهالتصويرية؟ أَمِنَ التباهي، أم من التعبير؟ فالجسد،على حد تعبير رولان بارث، “يحمل دائما هذه الازدواجية: فهو من طبيعةٍ تافهة، وفي الآن نفسه، هو فخمٌ ومَهيب”.لذلك فليس التباهي بالجسد، أو التعبير عنه، سوى صيرورة إبداعية، لإعادة خلقه من جديد.
في فن التصوير المغربي الحديث والمعاصر، كان حضور الجسد أمرا بديهيا، لأن الفنان المغربي لم ينطلق في رسوماته من فراغ، بل من ذاكرته البصرية التي تؤثثها مشاهد اللوحات والمنحوتات العالمية المنشغلة بالجسد. ولأن الفنان عموما لا يُلقي بِطَرْفه نحو الخارج إلاّ ويرتدُّ إليه ذاتيةً وجسدانيةً. هكذا تكثفت الأعمال الفنية حول الجسد، منذ شخوص الفطريين، وعلامات الشرقاوي، واستيهامات صلادي، وغيرها.
الجسد عند الفنانة التشكيلية سميرة آيت المعلم، هاجس فني، أو قرين ملازم، يرافقها في ترحالها الإبداعي، بل ويتكوّن داخل مسيرتها الجمالية، من الأمشاجِ إلى اللحم. جميع العناصر البلاستيكية في أعمالها تخدم الجسد: اللون، الشكل، الحجم، والإيقاع… ألوان اللحم والماء (الشفافية)، التي تنبئ بحكايا الخلق الأول، ثم الأشكال والحجوم التي تتخذ لكل هيئة مقامها الخاص، فالأمشاج معلقة، تنبئنا بطور التخلُّق. والأجساد شبه المكتملة تغرق في مصيرها الوجودي، حدَّ ملء اللوحة.ينتقل الجسد في أعمال سميرة من مادة خام إلى فعل جمالي، لكنه ورغم تدخلات الفنانة، يسعى للحفاظ على بعضٍ من أصوله، من طبيعته. فتصارع الفنانة من أجل تشكيله حسب الصورة المستقرة في متخيلها الإبداعي.
في المقابل، تتناسل أجساد زهرة عواج الأنثوية داخل أجواء هلامية متنوعة، ضمن عضوية منطوية تارة، ومنطلقة تارة أخرى، بينما تثير الحركة باستمرار لاستنبات سير حياة مفعمة بذاكرة حية، تخاطب الصمت والأحلام. لطالما تجلت أجسادها المنزوعة التفاصيل بأطياف لا تتردد في تخطي ألوانها، لتحتفظ بمرئيتها الترابية في غالب الأحيان، كأنها تصر على الالتفاف حول أحادية قصدية تعيد كتابة الذات، فيما تبدِّد المادة لتُبْقي على الشكل العام، على هيئة الشبح؛ خط الإحاطة الذي يرسم الإيماء وصور العَدْو، بحيث تنهض الكتلة من فعل المَحْو، بينما تبرز بؤر التكوين من القريب إلى البعيد، هناك حيث ترتب الفنانة طقوس عبورها بضراوة ضربات فرشاتها الماسحة والكاشفة في آن. من ثم، تنتعش أنفاس الأجساد التي تنبعث من كمونها المارق، وفق مزاج مفارق، يمنحنا مشهدية إنسانوية تثير الفضول بقدر ما تبعث على التأمل والتساؤل.
عند الفنان بنيونس عميروش، يبني الجسد طقوسه الخاصة، وهي طقوس غير بعيدة عن الفن بمعناه العام. فالفضاء الجمالي للوحات، مسنودٌ بالبلاغة المتوهِّجة بتعابير الفنون: الموسيقى، السينما، الفوتوغرافيا، مما يضاعف من القيمة الفنية لحضور الجسد، حيث تمزج فرشاة الفنان التي تتدخل من حين لآخر بين جمالية الجسد،وجماليات الفنون، وتمنح الفنان مساحات استطيقية متميزة للاشتغال، فنرى المعالم الموسيقية للأزمنة الجميلة ذائبة على القماشة، وعمالقة السينما العالمية يراودون الشكل واللون، بينما يتمفصل الجسد المصوَّر فوتوغرافيا ليخلق رقصاته الساحرة داخل إطار اللوحة، ويَعرض توليفة ضوئية تشِعُّ جمالا. ترغب أجسادُ بنيونس في هذه الأعمال أن تذكرنا بفنون الزمن الجميل، بل وأن تُسمِعنا صرختها: ما أضيق الذاكرة، لولا فسحة الفن!
عندما يصرخ الجسد، ويكشف لنا عن أنينه، فصرخاته ليست صادرة عن الروح، كما هو سائد في الاعتقاد. بل هي صرخات الجسد نفسه، فالروح من أمر الفكر، بينما الجسد من جوهر الفن. لذلك فصرخات أجساد الفنانةسعاد بياض،هي تجليات لمكابدة الجسد، داخل سياق يُخندِقُه في الرغبة، ويُؤدْلجُه في منازع دينية وسياسية.تستفيد هذه التمثلات للجسدوالمعالجة الفنية له، منالتجربة الجماليةللفنانة سعاد، وخبرتها في فن التصميم. فتبدو في أعمالها براعة ملحوظة في التركيب، فهي تمنح الجسد أوضاعاً مذهلة، أوضاعا حركية ضاجّةً بقلق الوجود، في محاولة للتخفي والانسحاب من الواقع، حيث تفعلُ اليدُفعلتَها بحَجْبَ صفحة الوجه. كما أنها أعمالٌ تحتفي باللون، خاصة عندما يكون الجسد أنثويا. اللون الذي يتجاوز الجسد، إلى الهالات التي تحيط به، والتي قد تكون في بعض الأحيان كتلة من الضوء يغرق الجسد في نورها الناعم.
لم يكن انتقال شفيق من الأسطورة إلى الواقع، تحوّلا جذريا في مساره التشكيلي، بل ظلّ عمله الفني محايثا للأسطورة، غير بعيد عن ضفافها، تؤكد ذلك أجسادهُ المينوتورية، بأعلاها الحيواني وأسفلها الآدمي، كاشفة على أن الواقع أشد غرابة من الأسطورة، وأن التيه أقسى عقاب يتلقاه الإنسان. لم تأت هذه الأجساد على شاكلة الكانتاوور الإغريقي، الذي كان نصفه العلوي آدميا، وأسفله جسم حصان يركض بحرية، ولذلك حوّل التيه إلى منبع للذة. كثيرا ما توقفتُ بإحساسي ووعيي البصري أمام مخلوقات شفيق، وما أثار حواسي وذائقتي الجمالية في هذه الأعمال، ليس مجرد انتماؤها للامألوف. بل تعبيرها عن اغتراب غني الدلالات، فالأقنعة تُغادر وظيفتها المعهودة، والتي هي الحَجْبُ أساسا، لتؤسس لتجربة بصرية جديدة تجعل من القناع أصلا وجِذرا للحقيقة، وجوه لحيوانات وجوارح ونرود وغيرها، هي حقيقة الوجه، “سقطَ القناعُ عن القناع” ”
أحمد لطف الله
الدار البيضاء 2022