ذ. عبد الواحد حمزة :المشروع والرقمنة والبيئة والعمل من أجل ” عالم أفضل”(الجزء الرابع)
ثانيا -أيهما في أزمة: العمل المأجور أو العمل الإنساني في حد ذاته؟ وإلى أي أفق؟
أن يعلن اليوم أمام الأشكال المتعددة من “العمل اللامادي” وتفتيت كتلة الأجراء وتعاظم القطاع الثالث وتدويل الاقتصاد المالي واحتكاره من طرف طغمة/ أقلية، عن طلائع لـ”نهاية العمل”، على الأقل كما عرفناه في القرن 19 و20، لهو حماقة، بامتياز. “فالإنسان – فابر” يعمل على تحويل محيطه الحيوي، باستمرار. وهو بهذا يعمل على تحويل نفسه. كما انه لا ينتهي من عملية التعلم، أبدا. وهو في عمله ولعمله مسار فريد وخاص به. إذ لا يكمن أن يفصل أبدا عمله عن مجاله الحيوي، أي عن إيكولوجيا محددة.
نفترض إذا كان لعمل “ما” أن ينقرض، فهو الشكل الذي سيأخذه في مرحلة تاريخية محددة. إن المُهدّد – اليوم – بالتجاوز، لهو “العمل المأجور”، حيث وصل إستيلاب “قوة العمل ” مداها مع “العمل عن بعد” ومع العمل اللامادي المكتبي المُشتت والمجرد (…). أما العمل، فكان دائما ولا يزال مرتبط بالإنسان، أينما حل وارتحل. إنه من صميم تصور الإنسان للأشياء وللعالم وللإنسان نفسه (بيرغسون).
الملاحظ اليوم أن النموذج المتبع في الغرب – كما عندنا – يكون قد وصل إلى الباب المسدود. وهو ما يتطلب التفكير الجماعي لحل معضلات العمل ومحيطه ومستقبله، وخاصة من طرف القوى الحية، الحريصة على صحة الطبيعة والمجتمع والإنسان.
وبديهي أن نفترض إذا كان العمل مدرسة لتشكيل العقل الإنساني، فإن فرضه بالقوة والقوة الناعمة والقوانين (!) هو مدرسة لـ”اللاعقل”. إذ أصبحت “اللإنسانية” “تتنكر للفكر، تماما كما تم مع التايلورية، بالذات، وغيرها من المناهج الصارمة – الميكانيكية للعمل. لنتذكر ما يكتب على أبواب المصانع: “عقلك، اتركه في الخارج”!، ليصبح الإنسان – مع الثورة الصناعية – حيث الآن تأخذ مكان “الصانع – المعلم التقليدي – المانيفاكتروي”، قلنا ليصبح الإنسان ملحقا بالآلة، وفي خدمتها الصماء، “قطعة غيار” في – ومن بين دواليبها، بل أكثر من ذلك، يتم تصوير الإنسان على منوال ونموذج الآلة – الماكينا.
وسيصل “التنكر للواقع” مداه مع الثورة الرقمية الزاحفة مع العولمة. فـ”المخيال السيبراني” يتصور الكائن البشري على أنه “حاسوب” يمكن برمجته. فالآلات الذكية قادرة حتما على تحقيق برامج محددة، بالتفاعل مع المحيط. فإذا كانت ساعة الحائط الكبيرة للقرون الوسطى في الغرب مثبتة من على فوق أبواب الكاتدرائيات، مؤشرة على تصور للعالم – تماماً كما تؤشر السبحة لدى المسلمين عن توافق “ما” مع الكون وعلى اطمئنان “مريح” لفهمه، فلقد حل اليوم الأيفون والحاسوب والبرمجة محل الساعة الحائطية الكبرى – والسبحة – شيئا فشيئا -، وأصبح الكائن البشري نفسه “موضوع برمجة”، حيث تحدد الأهداف والمؤشرات – الكمية – وتتم مواءمة النتائج مع الأهداف، عبر التسيير بالخوارزميات.
إننا صراحة أمام “تصور أحمق” للكائن البشري ولعمله ولواجباته – قبل حقوقه – يدفع بجنون البشرية – عموما – والعاملين والأطر – خصوصا إلى “نكران الواقع” والاستخفاف بقيمة تجارب العمل الملموسة. فـ”التهافت السيبراني” يقتحم اليوم أغلب الأنشطة الإنسانية – صناعة وتجارة وخدمات، ونرى له مؤشرا في تعاملنا مع شبابيك الأبناك، وفي تعامل أخرق لأطباء، مثلا، مع مؤشر إنجاز أصم أكثر من الاهتمام الحقيقي بالمرضى (…) وهو ما يؤشر – حتما – على تدفق العته والألم وغياب المعنى لدى العمل والعاملين والأطر، وفي المؤسسات الخاصة، كما العامة (…)!
لا يمكن أن نقف حتما ضد التطور ولا يمكن لأحد أن ينازع في قدرة الآلات الجديدة – والرقمية منها – على التحرير، وان تعفي الإنسان – عموما – من أي شغل آلي – روتيني، هكذا، ليتفرغ إلى ما هو أجمل و”أكثر شعرية” في العمل: الخلق والتخيل، وخاصة الاهتمام بالآخرين، بالعلاقات الاجتماعية – الإنسانية (…). ومن البديهي أن الآلة الصماء – مهما بلغت ترقيتها – فهي لا يمكن أن تتفطن إلى كذا اهتمام؛ وقد أوكل لها أن لا تهتم مثلا، بما ليس ذو مردودية أو ربحية، فيضيع في ركاب صدئها المحتاجون حقا لكذا اهتمام (معوزين، أطفال في طور التربية والتعليم – الصحة، الخ)، وهو ما في العمل الإنساني – عكس ذلك – من عمق، وبالضرورة.
لا يمكن اعتماد النموذج الإنساني البديل (عالم أفضل، اشتراكية اجتماعية مختلطة، شيوعية، ديمقراطية…) دون تجاوز التصور الآلي – التايلوري – للعمل، تصور الإنسان على نموذج الآلة. ومعلوم أن إخضاع العمل لحكامة الأرقام الصماء وللبرمجة الدقيقة سيصيبه في مقتل، وخاصة سيقضي نهائيا على الخلق والإبداع وابتكار الجديد. ومما أصبح ملحوظا، اليوم، قبل البارحة – هو إخضاع العمل الفكري – الثقافي العلمي إلى تقسيم العمل المنتج، لا ريب في ذلك، لكن ذو الانعكاسات الذهنية والنفسية والاجتماعية الخرقاء! (انظر القلق والانتحار عند دوركايم…!).
لا يجادل أحدا اليوم في أهمية التخصص وجدوى التمهير (أو المهارة أو التمهين (…))، وما لهذا من رافعة للإنتاج العلمي والثقافي والتقني – اليوم – أعلاما للتفكير والحكمة، من فلاسفة وعلماء كبار، لم يخضعوا يوما إلى العمل بحوكمة المؤشرات البحثية (سنوات البحث، نتائج البحث، مؤشرات الإنجاز…)، ولا كان همهم الأول النشر بسرعة في مجالات/ دوريات علمية دولية محكمة، وإنما كانوا ينطلقون من مراكز اهتماماتهم البحثية، ومنهم من كان عصامياً، بالرغم من صعوبة هذا الاختيار.
إن العمل بـ”تايلورية العمل الفكري” – قد يكون ذو مردودية – وهو أمر يناقش لدى الجامعيين والبحاث في المختبرات (جودة البحوث – منهجية العلوم… تسلل البحث الغيبي والخرافي للجن المناقشة ولمؤطري الدكتوراة، الخ…)، لكنه لن يعطي أبدا أعلام فكر من عيار الجابري أو العروي، أو نيتشه أو ماركس، الخ. ثم أن النسبة الهزيلة لما تُخصِّصُه الدولة – بلادنا للبحث العلمي وخوصصة التعليم لن ولم يعملا إلا على الإجهاز – اليوم – على ما تبقى من شأن البحث والتنقيب والجرأة لدى الباحثين الشباب.
وإذا كان من الضروري تخصيص ما يمكن برمجته للآلات، فالتاريخ الطويل والمتعرج للبشرية يُنبهنا إلى أن عمر الرأسمالية قصير – بالرغم من ما يمكن أن تأخذ أشكال تطورها وتميزاتها من ألوان (المركز، المحيط، دول النمور…)، ولعل المطلوب اليوم من القوى الحية، وفي مقدمتها اليسار هو “فك البرمجة الآلية” والتفكير الصحي في ما يمكن أن يكون عليه “ما بعد الرأسمالية الاحتكارية المعممة”، في مراكزها، كما في المحيطات، بالذات واستقصاء بعض ملامح ما يمكن أن تكون عليه غدا اشتراكية القرن 21، أو أي شكل آخر مبدع لسعادة الإنسانية.
ومعروف لدى مؤرخي البنيات الاقتصادية في المدى البعيد، أن العمل الإنساني شرط للإنتاج ولا يمكن أن يكون سلعة (بولانيي)، ولا يمكن أن يكون “موضوع بضاعة”! أما وأن يتم التفريق بين “قوة العمل” والشخص – حاملها – نفسه/ العامل، في ما يسمى شكلا “عقد الشغل”، فلا يغدو الأمر أن يكون سرابا وتجنيا. بل ويمكن أن نستشف نفس الهراء من تحرير العبيد، مثلا، (أمريكا أثناء تحرير العبيد، انظر أيضا العروي في نفس الموضوع). إنها آلية لتخفيض كلفة قوة العمل لمالكيها – الأسياد الجدد، حيث يتحول العبد إلى “إنسان حر”، لكنه يعمل للآخرين، بمحض إرادته. إنه بهذا يعتبر عبدا لنفسه، يبيع ذاته عبر عقدة عمل، ليفقد العمل معناه وماهيته: فهو بِبَيعه لعمله لمن يستعمله ليس له الحق أن يتدخل ليُسائِل مالك/ مستعمل قوة عمله، لا بأي طريقة عمل سيُستعمل ولا ما يمكن لعلمه أن يخلّفه من أثر على البيئة، مثلا؛ الخ. ولم تستطع النقابية، ولا ما يمكن أن ينتج عنها من “اتفاقات جماعية”، أن تغير من جوهر معادلة التبادل الأجري اللامتكافئ، ولا أن تعطي معنى لعقد الشغل – “السراب”.
ويمكن أن نسدي الأمثلة الكثيرة لغياب المعنى/ أو لتغييب المعنى في ما آل إليه التحول الرقمي من انزلاقات لا تخدم في الأول والأخير إلا مصلحة الرأسمالي المالي – العولمي. فالعمليات البورْصويّة للمقاولات/ المجموعات الرأسمالية – الطغمات المالية – في بحثها المحموم عن المال الصرف – لا تضع نصب اهتماماتها “طبيعة المنتوج” في ذاته أبدا.
وهو ما يلاحظ أيضا في العلاقات الاقتصادية الدولية، حيث يكتفي العالم المتطور/ المقاولات المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات – في آسيا – الصين واليونان وغيرها – من دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية، يكتفي بعمليات وإجراءات التنسيق، وكذا الحرص الدقيق على تحويل صافي الأرباح إلى المراكز المالية – الرأسمالية؛ فيما يوكل للشعوب/ الدول المستضعفة – الكادحة مهام العمل الفعلي والإنتاج بالمناولة.
وقد لاحظ سمير أمين بهذا الصدد، أنه إذا كانت أغلبية العمال (ألمانيا – إثيوبيا وإنجلترا- الهند…) تساهم في تكوين فائض القيمة، في الحقبة الاحتكارية المعممة للرأسمالية، وإن بنسب مختلفة، باستغلال مفرط لثلثي العمالي في الهوامش الرأسمالية، فإنه توجد فئة من العمال المفترض كونها “فائقة المهارة” (وقد يكونوا كذلك فعلا) يستهلكون فائض قيمة أكبر مما يُسهمون في تكوينه. (ص 112 نفس المصدر). وهناك نقاش بين الاقتصاديين في من يتحمّل أقصى الاستغلال: الأجراء في المراكز الرأسمالية أم من هم على الهوامش (شارل بتلهايم (1982)، إمانويل أريغي (1969…)؟
فالتفاوت الجوهري في توزيع الدخول المميز للرأسمالية، يقوم بشكل أساسي على التناقض الذي يواجه سلطة ملاك رأس المال في محاولتها إخضاع بائعي قوة العمل. فالنظام الرأسمالي المعاصر للاحتكارات المعممة يقوم على مركزة متطرفة للسلطة على رأس المال، يرافقها تعميم العمل المأجور. وفي ظل هذه الظروف، يتنكر جزء كبير من الربح في شكل “أجور” أو “أشباه أجور” للشرائح العليا من الطبقات الوسطى، التي تعمل أنشطتها كخدم لرأس المال، ليصبح الفصل بين تكوين القيمة واستخلاص فائض القيمة، وتوزيعه، على أوسع نطاق. (ص 115، نفس المصدر).
ولعل هذا ما سيعمل – في المدى المنظور – على إفقاد تلك المراكز صحوة تراكم/خبرة الكفاءات دون أن يخلقها نهائيا في المحيطات، وهو ما يعني دخول الكوكبية في تناقضات عالمية قاتلة. وهو ما يعني – فوق كل شيء – فقدان المعنى لنشاط الإنسان الإنتاجي المعولم وتردي محيطة؛ مما تكون قد تدفع إليه اليوم الأنظمة العالمية المسيطرة – وسيتفاقم غياب المعنى مع ما ستؤول إليه ميكانيزمات “الدولة الاجتماعية” عند الغرب، عموما، وفي بلدان الهامش، في أسوء تقدير. ويمكن اعتبارها – عن حق وفي الأصل – شكل متحضر للرأسمالية المتطورة – المتضامنة، ومن أجمل ما أنتجت لتجاوز بعض تناقضاتها في القرن 20/21؛ لحد أصبح التمييز – على ضوئها – يتم اليوم تفريقا بين الدول الديموقراطية والدول الدكتاتورية، ضبطا وتشخيصا لصعود الاختلالات الاجتماعية والمناطقية (…). وستأتي “السنوات 30 المجيدة”، بأوروبا بعد الحرب، لتعيد صياغة عقد العمل، حيث الاتفاق بين الفرقاء الاقتصاديين – الاجتماعيين، تحت ضبط الدولة، فهناك المزيد من الإنتاجية في العمل، من جهة، ورفع الأجور، من جهة أخرى.
هكذا ستتم مقايضة الاستهلاك الفاحش بالخضوع واستحسان السلطوية (نموذج الصين الشمولي، مثلا) التام لأهل الأمر والنهي/ الاستبداد. ولم يطرح، قط، صراحة، سؤال كل ذلك من اجل ماذا؟، من أجل أي عالم؟ ومن دون تحديد سليم للحاجيات (!)، ولو اقتضى الأمر جر العالم برمته إلى أزمات إيكولوجية خطيرة، وبدون طرح إشكالية استدامة النموذج التنموي. وهو ما يطرح السؤال المركب: التحدي التكنولوجي والتحدي البيئي، لارتباطهما الوثيق.
يرى سمير أمين أن تعميق العولمة لا يعني أن الرأسمالية لم تكن إمبريالية منذ يومها الأول، فهي كذلك طوال تاريخها، تفاقم التفاوتات بقوانين التطور اللامتكافئ والاستقطاب والاستتباع الكامنة فيها. كما أن تلك العولمة المعززة للامبريالية كرست الوصول غير المتكافئ للموارد الطبيعية للكوكب، مما ينتج من ناحية رافدا آخر لما يسميه بـ”الريع الإمبريالي” (الناتج عن السطوة على الأرض والمناجم)، فضلا عن أساس إضافي لتخلف التخوم بتعميق اختلالاتها ضمن إطار التبعية، ومن ناحية أخرى مشكلة “تدمير البيئة”، كنتيجة لعقلانية الرأسمالية المشوهة (اللاعقلانية من وجهة نظر اجتماعية أوسع أفقا)، القائمة على القيم التبادلية لا الاستعمالية، والمحدودة، من ثم، باعتبارات الربح قصيرة النظر (انظر مقدمة مجدي عبد الهادي لكتاب سمير أمين، نظرية القيمة(…)، ص 11، مرجع سابق).
تنجرف البشرية بخطى متسارعة نحو كارثة بيئية عالمية لديها القدرة على تدمير أسس الوجود البشري، بأكمله. تقع مسؤولية هذا التطور بشكل أساسي على عاتق الاحتكارات الدولية الكبرى، التي تسيطر اليوم على مجمل الإنتاج العالمي والتجارة الدولية وكذلك على حقول السياسة والاقتصاد والعلوم في جميع البلدان. (انظر ستيفان إنجل (2015)، الصراع الطبقي والصراع من أجل وحدة الإنسان والطبيعة (ترجمة أديب ع. السلام وآخرون، ضمن كتاب إنذار بالكارثة، المغرب).
لقد ظهر جليا أنه من الممكن لدولة القانون والمؤسسات أن تقدم الإجابة. وهو ما يعني استحداث نظام جديد و”جيد” للتكنولوجيا، عوض المضي قدما لتدمير الإنسان. وهو ما يدعو، بالذات، إلى إعادة بناء علاقة حيوية مع الطبيعة والكون.ويرد أمين على الدعوة الرائجة بتجاوز الرأسمالية لقانون القيمة، بتحولها لرأسمالية معرفية خدماتية، مؤكداً أنه لا جديد تحت الشمس، فالعمل والمعرفة العلمية والتكنولوجيا كانا دائما مرتبطين طوال التاريخ الإنساني. فالعمل الاجتماعي، وهو الشكل الوحيد الذي يعترف به ماركس كـ”عامل إنتاج”، تضم دائماً معرفة اجتماعية وخبرات تكنولوجية، هي جزء من أي عملية إنتاجية كبرت أو صغرت، كما أن تورّم الخدمات في الحقيقة ما هو إلا تعبير عن أزمة النظام لا عن تطوّره. (ص 10، نفس المصدر).
ومما سيتمكن حتما اليسار بكل ألوانه – “أصوله” و”مصباته” – أن يقوم به ويدافع عنه في أنظمة وصراعات سياسية بديلة، في أفق ديموقراطي- شعبي. وإذاً سيكون على التاريخ وحده أن يحسم في ما إذا “الاشتراكية” كلمة ماتت ويجب استبدالها أو إحياؤها، فإنه تبقى مع كل ذلك البديل الملائم لتجاوز الرأسمالية ولإحقاق المجتمع العادل. والحال أن الرأسمالية بتعميقها للامساواة وإنهاك الكون يُلزمها بديل لها يتسم بقدر كافٍ من الوضوح حتى تسقط ! (بيكتي طاوماس، 2020، لتحيا الاشتراكية !).
والحقيقة للتاريخ، أن مفهوم “العدالة الاجتماعية” له صيرورة عند الغرب، في ما تَشكُّله يتعرض للكثير من الحيف والتشويه في البلدان المتأخرة – التابعة. فلقد مرت البشرية من ضرورة مطابقة “القانون الإنساني” مع فحوى “القانون الإلهي” (المرحلة الأولى) إلى إبعاد هذا الأخير واعتماد “قوانين” موضوعية (!) صاعدة من رحم الطبيعة والمجتمع والفكر – ذاتهم – تماما كما عند ماركس، مثلا، في “قانون الصراع الطبقي” (المرحلة الثانية)، ومن تم إلى إخضاع المصير الإنساني إلى قوانين وضعية، قوانين من صنع يد الإنسان ويتقاسمها ويمكن أن يغيرها (المرحلة الثالثة).
وهو ما يعني أنها ليست لا قوانين عفوية ولا هي مفروضة – تسلطية – عليه. وهو ما يعني أيضا أنها قوانين خاضعة، باستمرار للنقاش والتداول. ويمكن أن نشير – في هذا الصدد – إلى قانون المنظمة العالمية للشغل (O.I.T)1919، وإلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1945)، والمنظمة العالمية للصحة (O.M.S) وكـذا F.A.O وU. N.E.S.CO، ليأتي، بعدئذ، ميثاق هافانا، الخ.
والحال أن اقتصاديات العالم المتأخر – التابع لا يمكن النظر إليها من وجهة مقولات تحليلية أوروبية – أجرية مركزية صرفة. ولكن انطلاقا من تعدل السياقات والثقافات والخصوصيات والتواريخ المختلفة في عالم الشغل، ومن تجارب الأفراد العينية. ومن الملاحظ، أن المؤسسات – أعلاه – دخلت مع مرور الزمن واحتدام التناقضات والصراعات، في تعارض مع ذاتها ومبادئها. فإذا كانت المنظمة العالمية للشغل تدافع لحد الساعة عن “العمل اللائق الإنساني”، مثلا، فالواقع اليوم يقول العكس: إن العمل لم يعد يسد رمق الآلاف من العمال – في خدمة الأرض والفلاحة ومنتوجات الغذاء.
والواضح، أن قوانين التجارة الدولية – اليوم وبالذات – تعمل على هشاشة شروط العمل في البلدان المتأخرة. لقد أصبحت هذه القواعد المفروضة طبعا على العالم المتخلف، عائقا أمام تطور هذا العالم، بل ومُدمِّرة لما تبقى أو تولّد من فرص الشغل، في إفريقيا والمغارب وعندنا في المغرب، وغيرها. والملاحظ تبوء “النقابية الفلاحية” مكان الصدارة في العديد من بلدان العالم لإرساء شروط الديمومة لإنتاج فلاحي سليم، وكذا الدفاع عن البيئة – ضدا على همج الرأسمال المالي – العولمي. وهي بذلك تروم إعطاء معنى للعمل ولأساليبه، ضدا على إخضاع سافر للفلاحين – وأحيانا أخرى وكثيرة بشكل غير مباشر وملتو – لشروط الإجارة، في ما يتم توهيمهم على أنهم عمال – مستقلين – أحرار، وهم في حقيقة الأمر، في وضعية عبودية جديدة!
والحال أن دولا بكاملها تخضع كمقاولات – لنفس منطق “الحكامة بالأرقام” الجهنمي؛ في خلط سافر لمنطقين مختلفين وضروريين للمجتمع الإنساني: منطق الدولة ومنطق المقاولة. فترى “على سبيل المثال لا الحصر، بلدا – كاليونان – في أزمة، يتعامل معها البنك الدولي وكأنها مقاولة، ليتم تسريح ما يزيد عن %30 من شغيلتها الصحية العمومية (انظر الترويكا)، ليضل “الثلث الناجي” يعمل في ظروف قاهرة. ومن عجائب الأمور أن تعاقب اليونان، بالذات، لأنها عملت بـ”الساعات الإضافية”! وهذه الأمور ليست ببعيدة عن ما جرى لبلادنا –المغرب – منذ التقويمات الهيكلية الأولى – مرورا بالإحالة المبكرة لآلاف من أطر الدولة – في الصحة والتعليم والشغل – على “المعاش” (2005)، مع إنعاش مسلسل الخوصصة، دون أن ينتعش الرأسمال الخاص الوطني أو الدولي، عندنا!
وفي الختام، إن أقل ما يمكن أن يقوم به المشروع النقدي – الديموقراطي اليساري – اليوم – هو اعتبار القواعد الدولية للعولمة – اليوم – قواعد تسلطية – سكيزوفرينية وعدوانية، تدفع كل الأمم في سباق محموم لمن يؤدي أقل ضريبة ويحترم أقل الظروف الاقتصادية – الاجتماعية للإنسان، وهي سلوكات مشبوهة، تناقض الأهداف الأصلية للمؤسسات الدولية. إنه الأمر الذي يدعو قوى اليسار الاشتراكي – الاجتماعي والبيئي والشيوعي صياغة ممارسة شعبية ذات حد أدنى موحدة جديدة، للوقوف سدّاً منيعاً وإقامة مفاوضات أو ثورات من موقع الديناميات الاجتماعية، الواعدة. وذلك أمام تغول “الحكامة – العولمة السلعية الرقمية” التي تعمل على خدمة مصالح الرأسمال، أكثر مما تسعد الإنسان – والمقاول المواطن والعامل المنتج، على وجه الخصوص. والحال أن شرط تحقيق هذه “السعادة/ تقليل التعاسة” يستوجب “حكامة أخرى” مفاوض عليها في الميادين بين كل المتدخلين/ القوى، تسائل معنى ومنهج ومحتوى الأنشطة الإنسانية ولا تتنكر لواقع وتجارب البلدان والشعوب والدول والأشخاص (…).
وللملاحظة فقط، ألَمْ يكثر الحديث ببلادنا – والعالم -، في مجال الإعلام وأطروحات الجامعات (…) عن “الحكامة” ومواضيع التدبير والتسيير والإدارة، إلا تيمننا بما يمكن أن يفخر به قطاع خاص – لم يستطع التموقع اللازم والكافي في تشكيلة اقتصادية اجتماعية متأخرة وتابعة. أما على المستوى السياسي، فلربما حتى لا يكابر المغاربة – بعد – ويعملوا على إقامة الوزن الضروري لمطلب “الديموقراطية”، من بين مداخل سياسية مهيكلة حاسمة لمغرب الغد.
وللعلم، فالمفهوم الأول – “الحكامة” – مفهوم تقني محض، قادم متطفل من قاموس المؤسسات المالية الدولية (البنك الدولي…)، أو على الأكثر مفهوم ثانوي وإجرائي، فيما الأخر – “الديموقراطية”، المفهوم – الأساس، البديل عنه، والذي أصبح بلغة الموضة والمسخ وبتسييد منطق “نهاية العالم”، نعت – عِوَض بديل – أساس، فهو قادم – عن جدارة – من علوم السياسة (القانون الدستوري، علم الاجتماع السياسي،…) ومن تطلع الشعوب للحرية والعدالة الاجتماعية.
والحال أن دسترة مؤسسات الحكامة التشاركية (مجلس المنافسة…) لا تلعب دورها ببلادنا، بل هي في حيرة من أمرها، إذ ولدت مشوهة وعرجاء – من الأصل. وعلى ذكر هذا المجلس بالذات، فهو لا يُسيّر كمنظمة ضابطة للسوق الاقتصادي، ضابطة للمنافسة وللشفافية، بموازاة مع الليبرالية السياسية – الديموقراطية التمثيلية المزعومة.
إن الأمور تسير ببلادنا وكأن أقصى ما سيسمح به تثبيت “الخيار الديموقراطي” لدستور 2011 هو “التأويل الديموقراطي” للنصوص القانونية، ليكثر “اللغو الفارغ” والنقاش في صفوف نخبة – قد “تعرف من أين تأكل الكتف”، حول الدستور المكتوب – الشفهي، وما تسمح به – عن حق – وفي إطار مؤسسي مدروس بدقة – إذ هو متمركز حول نقطة في السلطة وما تسمح به موازين قوى سياسية فعلية، جرت العادة على استغلالها لصالح السلطة المركزية، ليصبح اليوم، حتى “التأويل” ، ذلك، متجاوزا وغير مرغوب فيه.
لعل الذي يهدد قاطبة الأحزاب بؤسها الفكري. فلا رجاء في أحزاب سياسية تأكل نفسها بنفسها وبفعل عوامل التعرية السياسية الخارجية، وبفعل نزعتها الانشقاقية والانقسامية أيضا، وتنحو إلى الاستمساك بعروة الاستثمار في النزعة الشعبوية على مستوى البرامج والخطاب السياسي والتواصل الجماهيري، وفي ظل اعتماد ثقافة القطيع وسلوك الحشد المغيب للعقلانية مقابل إذكاء روح التسطيحية والتبسيطية، والحرص على دغدغة مشاعر الجماهير ومخاطبة وجدانهم، وهي بالفعل أحزاب ينطبق عليها وصف ” الأحزاب التي تلتقط كل شيء” parties catch-all. (انظر ذ.عثمان الزياني، مصدر سابق).
كل ذلك القوس السياسي المنفتح سيقفل بعد أن حسم ذات مساء – عقب إفشاء/ ترسيم النسخة المنقحة البديلة لدستور 2011، بإقرار خبراء مساهمين في نسختها الأولى، في أن الإسلام دين دولة المغرب الرسمي، لتؤجل “حرية العقيدة” الأسمى ومنها إلى اللائكية، إلى حين. وهو حسم يتم – على أقصى تقدير – في نص الدستور، أما ما هو عليه المجتمع، بل وحتى كيف تتمشى المؤسسات العمومية، فلا نظن أن احترام ذلك – وفي قوارير النفس والطقوس للمغاربة (نخبة وعوام)، يتم في احترام تام لتلك القدسية / التداخل بين السلط (…). وليحسم خاصة، منذ دستور 1996، في الطبيعة التنفيذية للنظام الملكي الحاكم – شبه المطلق. ولتظل – كذلك – القضية الوطنية – الترابية – الأولى تراوح مكانها لما يزيد عن نصف قرن، دون أن تجد حلا ديموقراطيا، نهائيا، وفي إطار “جهوية تاريخية” حقيقية لكامل التراب الوطني – المغربي، إلا ما لوحظ من تململ دبلوماسي (قنصليات دول شقيقة بالجنوب) في السنوات الأخيرة، متزامن مع” صفقة القرن” وفتح باب التطبيع كاملة مع إسرائيل، تحذوه الكثير من أطماع دول عابرة للقارات في الاستثمار المادي، خاصة، ولربما – قادرة على تغيير المواقف مع تغيير المصالح، وحتى الهيمنة، كما ترتضي السياسة ذلك.
إن “نهاية العالم” والحسم في “طبيعة نظامنا السياسي” لا يمكنهما أن يجعلا السياسة الدولية والنظام السياسي في معزل عن التناقضات التي تخترقهما، كما لا يمكن لحكامة ذات قوائم دفع أربعة أن تشفع لخيار ديموقراطي هجين ولمؤشرات حكم رشيد باهت.
فهل تحدثنا عن التاريخ السياسي للمغرب ومكانة اليسار فيه؟ ربما سنرجع لذلك يوماً ! “هنا طاحْ اللويزْ هْنا ندَوّْرو عليه!” (مثل مغربي).
انتهى
ذ. عبد الواحد حمزة
سوسيو– اقتصادي
30 يوليوز 2022