وجهة نظر

وجهة نظرأحمد حبشي :التاريخ الخاص قراءة نوعية لتجربة جماعية

       من نافلة القول أن الحديث عن تاريخ مجموعة ما أو تجربة إنسانية مشتركة، يكون أكثر إثارة في التعبير عن واقع الأمور وتفاعلاتها، عندما يتم تناول هذا التاريخ أو حقبة منه من خلال موقع السارد في تلك التجربة ودوره داخل المجموعة ومستوى تأثيره في فعلها وتطور عملها. ولعل هذا ما دأب عليه الباحثون والدارسون في تناولهم لمختلف التجارب  الإنسانية، سواء كانت سياسية أو ثقافية أو معيشية على وجه التعميم، فبالحصر يتوجهون أولا للروايات الشفوية التي يقدمها  الأشخاص والجماعات التي ساهمت وأنتجت فعلا جماعيا كان له موقعه ووقعه في فترة تاريخية محددة، تميزت بتحولات في بنيتها وعلائقها في صيرورة انتقال من حقبة إلى أخرى.

في تجربتنا المجتمعية الخاصة شكل التدوين للروايات الشفوية والنقل عن من عاين وعايش اللحظات المفصلية في تطور البنية وأسس التحولات الاجتماعية والمؤسساتية، كمقدمة ضرورية في جمع المعطيات قبل ترتيبها واستخلاص ما يشكل الحقيقة أو يقترب منها. ولعل هذا ما يجعل الكثير يتحسر على ضياع فرصة تدوين حديث أو حوار خاص حول تجربة سياسية مع أشخاص أو فاعلين كان لهم موقعهم المؤثر في تطور وقائع أو تجاوز أحداث، هكذا نأسف في واقعنا لغياب حوارات شاملة ومفصلة، مع شخصية وازنة بصمت بفكرها وتصوراتها مرحلة مهمة من تاريخنا الحديث، من طينة عبد الله إبراهيم، علال الفاسي، عبد الرحيم بوعبيد، حسن الوزاني والمهدي بنبركة، وتطول لائحة من غيبتهم الموت دون أن نتمكن من معرفة آرائهم حول قضايا أساسية في تكوين ثقافتنا السياسية المعاصرة، والظروف العامة التي حكمت تصوراتهم وتطلعاتهم. أهمية الحوار وجذب الفاعلين للحديث عن تجربتهم الخاصة وتقييماتهم لما وقع وكيف وقع، تكمن في فسح المجال لمعرفة مختلف التقديرات والتقييمات لمرحلة تميزت بالتدافع السياسي والتمايز الأيديولوجي، في مغرب كان على أبواب تحول كبير على جميع الأصعدة نتيجة زرع بنية اقتصادية مفروضة، كانت لها تداعيات على مستوى العلائق الاجتماعية وما يرتبط بها من قيم ومفاهيم وتصورات.

إن ما نشر حتى الآن من مذكرات وحوارات، بقي في شكله العام مذكرات ترتكز على الذات وعلى ما هو شخصي وتبرز المساهمة المباشرة في أحداث ووقائع محددة، وفي ذلك مساهمة في رفع بعد اللبس عن مجريات بعض الوقائع، وإن كان لا يشمل جوانب ترتبط بالسياق العام للأحداث ومعايشتها. في إصدار أخير يتناول الأستاذ عبد الله البلغيتي العلوي، في حوار مطول ومتعدد الجوانب مع الأستاذ إسماعيل العلوي، الكاتب العام السابق لحزب التقدم والاشتراكية، وأحد المناضلين المتميزين المشهود لهم بالاستقامة ودماثة الخلق والنزاهة الفكرية، تشكل الثقافة السياسية والبنيات التنظيمية الحزبية ما بعد الوجود الاستعماري بالمغرب، حيث ركز في مدخل الحوار عن الاشتراكية والشروط التي فسحت المجال لتداولها بين أوساط المثقفين المغاربة، وبلورتها كتصورات أيديولوجية وممارسة سياسية، تسعى إلى الانتقال من معركة التحرير الوطنية إلى البناء الاقتصادي المضاد للنمط الرأسمالي المفروض من طرف قوى الاحتلال وشركائه من العملاء المحليين. الحوار في مجمله أهتم بالقضايا الفكرية والتصورات النظرية، التي كانت موضوع خلاف بين مناضلي الحركة الوطنية الاستقلالية التي كان هدفها الأساسي هو الاستقلال وعودة الشرعية التاريخية للسلطة، وبين المناضلين الطامحين إلى بناء مجتمع حديث بمقومات ديمقراطية بأفق اشتراكي.

لقد تناول الأستاذ إسماعيل العلوي بالتحليل ملابسات المرحلة وطبيعتها، كما فصل في إبراز العوامل التاريخية التي شكلت الخلفية الموضوعية لمجمل ما أنتجته المرحلة من أفكار وتصورات، انطلاقا من الواقع الاقتصادي الجديد وما نتج عنه من تحولات في البنية الاجتماعية الموروثة، القائمة على نمط إنتاج تقليدي وصل إلى مداه وعجز عن تطوير وسائل إنتاجه. فالمجتمع المغربي في تقدير الأستاذ العلوي، كالعديد من المجتمعات التي عرفت الاحتلال الأجنبي، ” خضع بشكل قهري إلى ضغوط مورست عليه من الخارج” ولإبراز ملابسات كل ذلك، يستعرض الواقع التاريخي الذي سهل الاحتلال ومجمل الظروف التي جعلت البلاد ” تدخل فترة العصرنة والتحديث ” وما نتج عن ذلك من تحولات متسارعة في البنية الاقتصادية، وظهور مهن ومجالات جديدة للعمل، أفرزت فئات اجتماعية ذات خصوصيات تميزها حسب موقعها في نمط الإنتاج الوافد وتداعياته.                في كل ذلك سعى الأستاذ العلوي إلى تقديم كل المسوغات الموضوعية، التي جعلت الفكر الاشتراكي وشروط تداوله بالمغرب، جزء من حقيقة التحول القسري الذي فرضه الاستعمار ونمط إنتاجه الرأسمالي، وما ترتب عن ذلك من انصهار كل ضحايا النظام الاستغلالي من أجانب وأهالي، في إطارات اجتماعية مكنت المغاربة من اكتساب وعي بمعيقات تطور مجتمعهم ومعانات شعبهم في ظل هيمنة استعمارية واستبداد سلطوي، ساعدهم في ذلك وجود مناضلين فرنسيين واسبان بتوجهات اشتراكية وشيوعية، اقتفوا آثارهم في الدفاع عن حقهم في تحسين شروط العمل، والتطلع لتغيير أحوال مجتمعهم وفق استراتيجية معلومة، تتجاوز في تصوراتها نمط الإنتاج الرأسمالي ومعيقاته، لبناء مجتمع متضامن تسوده العدالة الاجتماعية. غير أن هذه الاختيارات ستجد نفسها وجها لوجه مع اختيارات التمييز ما بين النزعة القومية المرتبطة بإثبات السيادة والتخلص من الاستعمار، والنزوع نحو ربط الاستقلال بالتحرير الشامل لوسائل الإنتاج وتغيير أسلوب توزيع الفائض وتعميم الحقوق، قضايا خلافية عجلت ببلورة تصور خاص ميز مسار مجموعة من المناضلين المنتسبين للتيار الاشتراكي المغربي،. وفي إطار توضيح ذلك يستعرض بإيجاز تجربة الرواد، على يعتة، عبد السلام بورقية، عبد الله العياشي وغيرهم من الرعيل الأول،  في تحقيق نوع من الاستقلال عن التيار الشيوعي العالمي، ومد الجسور مع التيار الوطني العارم، الذي كانت تطلعاته سياسية محدودة في استرجاع الشرعية والاعتراف بالاستقلال. جانب آخر يوليه الأستاذ إسماعيل العلوي أهمية خاصة، على اعتباره مساهمة أساسية للشيوعيين المغاربة في تأطير المرحلة وتحديد آفاقها، وهي بلورتهم لمفهوم الثورة الوطنية الديمقراطية، كصيغة نضالية كانت في تقديرهم تحدد المنحى الاستراتيجي لنضال الشعب المغربي إلى ما بعد الاستقلال، وتهدف توحيد جهود كل القوى المناضلة في سعيها لبناء مجتمع  حديث على أسس ديمقراطية بأفق اشتراكي، وهي الصيغة التي شغلت في تصورها العام اليسار المغربي وإن اختلفت أطروحات مكوناته، في تحديد الفئات المعنية بهذه الثورة الوطنية، وماهية البرنامج السياسي والاقتصادي المطلوب لتحقيق الانتقال من استبداد مطلق إلى مجال الاحتكام للقانون وصيانة الحقوق الشخصية والفئوية. ولعل الإطار الذي اقترب من تجسيد هذا التطلع هو تشكيل “الكتلة الوطنية الديمقراطية” في السبعينات ثم “الكثلة الديمقراطية” في بداية تسعينيات القرن الماضي، والذي اعتبره الشيوعيون المغاربة انجازا كبيرا في مسيرتهم النضالية الخاصة، وسعيهم المستمر لمد الجسور مع باقي القوى الوطنية والديمقراطية.

قضايا أخرى تناولها الحوار وعبر فيها الأستاذ العلوي عن آرائه وتقييمه الموضوعي، في التصور وما آلت إليه الأمور، بما في ذلك التجربة مع الاتحاد السوفياتي والرفاق في الأممية الشيوعية التي شارك في بعض لقاءاتها، وكذا فترة ستالين ومنزلقات المركزية الديمقراطية، التي اعتمدتها التنظيمات الشيوعية كأسلوب للحفاظ على القطبية في التنظيم وهيمنة الخط السياسي الواحد، وهي قضايا تناولها الأستاذ بالنقد مع أبراز ملابسات المرحلة التاريخية التي أنتجت مجموعة من المفاهيم والتصورات، التي لم تكن دائما في خدمة الأهداف النبيلة التي كان يتطلع إليها المناضلون ومن اجلها قدموا العديد من التضحيات.        ما هو مثير في نقاش استغرق ما يزيد عن 240 صفحة من الحجم المتوسط، هو التواضع الكبير الذي يرد به الأستاذ إسماعيل العلوي عن أسئلة محاوره، فهو لا يدعي، اعتبارا لموقعه في تجربة سياسية وحزبية ذات خصوصية في الحقل السياسي المغربي، أنه ملم بكل القضايا وجوانبها، فكثيرا ما حمل رده اعتذارا عن عدم اطلاعه أو محدودية معرفته بموضوع من المواضيع، أو جهله بمعلومة من المفروض أنه على إلمام بتفاصيلها، وهو ما يعطي للحوار مصداقية ويميزه عن كل التصريحات الموشومة بالادعاء النرجسية المثقلة بلغة الخشب.

في التقدير العام أعتقد أن الساحة السياسية، في هذه المرحلة الانتقالية التي تشهد تجديدا في النخبة السياسية، في أمس الحاجة إلى نقاش فكري ومراجعة نقدية وازنة للتجربة السياسية التي انخرط فيه جيل من الرواد، خصوصا الذين كان لهم موقعهم في التحولات التي عرفتها البلاد كما كانت لهم مسؤولية في ما آلت إليه الحياة السياسية، فحوار من هذا المستوى يفسح المجال للوقوف على مكامن الخلل في الأداء السياسي لنخبتنا وأحزابنا الوطنية الديمقراطية                           أحمد حبشي شتنبر 2017

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى