في قلب الأوضاع(1):هل يشعل القرن 21 شمعة التنوير بمجرد توفير المعلومة؟ركن أحمد الخمسي
كانت المعلومة الحيوية غائبة طيلة القرن 20، وذلك بسبب سيطرة الدولة على المعلومات الحيوية. مثلا في حادث جزيرة ليلى سنة 2002 بين المغرب واسبانيا.
إذ لم يكن حادث جزيرة ليلى مجرد حادثة سير على طريق العلاقات الثنائية المغربية الاسبانية. بل كان المضيق/البوغاز موضع مراجعة التموقع الجيوستراتيجي بين القوى الدولية على مختلف مربعات الكرة الأرضية وخصوصا الممرات المائية المفصلية التجارية والعسكرية بقيمة ممر جبل طارق البحري الحيوي. في هذا الباب، لا يمكن إغفال دور فرنسا في ترسيخ وجود المغرب الحالي (ما بعد 1999) على ساحله على مضيق جبل طارق. فالميناء المتوسطي بمختلف أدواره ومزاياه يشهد على ذلك. صادف ذلك، وجود آخر رئيس فرنسي ديغولي بدماثة خلقه وعمق تفكيره مثل الراحل جاك شيراك.
مضيق تطل عليه انجلترا من خلال صخرة ومدينة وميناء جبل طارق. وممر تطل عليه اسبانيا من الضفتين الشمالية والجنوبية بسبب احتلالها مدينة سبتة المغربية. ولقد خاضت فرنسا معارك بل وحروبا دبلوماسية لتستكمل نفوذها على شمال افريقيا بالقسط الأكبر، بعدما استفردت انجلترا بمصر وايطاليا بليبيا بداية القرن 20. فأرادت أن تكون بداية القرن 21 مختلفة من حيث النفوذ. ولا ضرر في تعميق المغرب لعلاقاته مع أوربا من خلال فرنسا واسبانيا وانجلترا.
لكننا ونحن نخلط الأوراق دائما بسبب استمرار الضبابية في القرار السياسي الوطني المستقل، علينا أن نخطو الخطوات المتبقية نحو تجاوز الضبابية المترسبة والمزمنة.
هل يمكننا ذلك؟ نعم وبالتأكيد.
طيلة القرن 20 كانت المعلومة محجوبة. وكانت نسخ كتب المصادر محجوزة في المكتبات الرسمية. واجتزنا النصف الأول من القرن 20 ونحن تحت الوصاية الخارجية بلا جامعة محلية ولا مكاتب أبحاث ولا مكتبات عامة. إلى أن فتحت سنة 1957 جامعة محمد الخامس. وكادت فرنسا أن تصدر، خلال الحماية، قانونا للتفرقة بين المغاربة سنة 1930 شبيها بقانون كريميو في الجزائر الذي فصل سنة 1871 الجزائريين العبريين عن الجزائريين الأمازغ والعرب.
بعد الاستقلال (1956) وفتح الجامعة، كان علينا أن ننتظر ثلاثين سنة لتضع الجامعة المغربية في جدول أعمالها الرد المغربي بواسطة البحث العلمي على ادعاء روبير مونطين بصدد الهوية المغربية من زاوية مكونات الشعب. بحيث أشرف الأستاذ عبد الله ساعف على بحث الراحل محمد البردوزي موضوعه الرد على مونطين.
وبالعودة الى مطلع القرن 21 وحادثة جزيرة ليلى، نتذكر جميعا كيف بقي المثقفون حائرين ومعهم في الواجهة الإعلامية المحللون السياسيون، وكيف بقي القادة السياسيون عاجزين عن فهم الدور قامت به الولايات المتحدة لنزع فتيل النزاع من خلال تدخل كولن باول وزير خارجيتها آنئذ.
في ندوات النقاش العام وفي دردشات الكواليس بقي التفسير السطحي المستنتج لدور امريكا كونها تقود العالم وكفى.
بعد الحادث بين البلدين بسنوات، بالصدفة حصلت على كتاب أصدرته الأكاديمية المعروفة بأكاديمية المملكة، ضمن كتب توجد عند “مول الزريعة” مهملا. ولما تصفحته وجدت أنه إصدار عن ندوة نظمتها الأكاديمية المذكورة سنة 1987، تنفيذا لخطاب الملك الراحل بصدد تاريخ المغرب وضرورة الاطلاع عليه والتداول بصدده من طرف المثقفين المغاربة. ضم الكتاب عرضا للمؤرخ الراحل عبد الهادي التازي حول العلاقات المغربية الامريكية من جملة ما ذكر فيه، المعلومة التي لم نتلقّها قطُ حولَ رئاسة الولايات المتحدة لمؤتمر الجزيرة الخضراء (1906) حول ما كان يعرف ب”القضية المغربية” كموضوع نزاع بين فرنسا وألمانيا. في بحث عبد الهادي التازي أن الرئيس تيودور روزفلت الامريكي لما اقترح عليه الأوربيون رئاسة المؤتمر رفض بتبرير أن ليست لأمريكا مصالح في المنطقة، خصوصا والحرب الامريكية على اسبانيا (1898) لم تندمل جروحها بعد. فأقنعه الأوربيون عن طريق عرض حجرة في البحر مهجورة قرب سبتة يمكن للولايات المتحدة الامريكية اعتبارها ملكا رمزيا لها في البوغاز دون أن يدوّن ذلك في وثيقة رسمية.
***
هذه المعلومة، غابت ولم يذكرها لا كتاب مدرسي ولا زعيم سياسي ولا برنامج تلفزي او اذاعي. وطال الحديث ساعتها فقط حول تسمية الجزيرة: هل ليلى؟ فأكد المؤرخ الراحل ان ليلى في الاصل كلمة اسبانية “لا ايسلا” (الجزيرة) اما الاسم فهو جزيرة المعدنوس …الى آخر الكلام.
إذن، حتى مطلع القرن الحالي 21، جرت الأحداث وبقيت المعلومة تحت الغطاء السري كمعلومة دولة.
***
هذا الدرس، نستخلص منه ما يلي:
غياب المعلومة عند الحاجة، لم يكن يعني استحالة الاطلاع عليها والدليل أنها وجدت مكتوبة مطبوعة في كتاب متداول، لكن طريقة المؤرخين عندنا لم تكن طريقة منظمة تستعمل المعلومة لتنوير الرأي العام لتعبئة الشعب المعني بالدفاع عن قضاياه العادلة.
غياب المعلومة عند الحاجة، إما أن طرفا خارجيا هو الذي استدعى امريكا بناء على المعلومة الكامنة في ارشيف مؤتمر الجزيرة الخضراء، وقد يوجد احتمال ان الدولة العميقة نفسها لم تنتبه اليها، أو أنها انسجمت مع الموقف الوطني المغربي غير معترفة بأحقية أمريكا في امتلاك الحجرة/الجزيرة. أو أنها هي من استعملت المعلومة ولم تعتبر ان للرأي العام الوطني دخل في ذلك.
في جميع الأحوال نستخلص أن المؤرخ المغربي أيّاً كان اسم المؤرخ، لم يكن على علم بالمعلومة لأننا لن نتجرأ على اتهامه بالجبن وإنما ساير منطق الدولة الذي يقضي أن النزاعات الخارجية يقتضي من المؤرخ أن يصمت لأن الملف في يد الدولة العميقة فالصمت حكمة حتى لو بقي الرأي العام جاهلا بمعلومة حيوية.
الفقرة الأخيرة من الدرس هي ارتباط الثقة بين الشعب والدولة تنخفض عندما يتأكد الشعب في كل نزاع خارجي أن الدولة لا تصارحه بالحقيقة لتقوية دفاعه عن الحق.
اليوم، نعلم جميعا أن مصطلح الزمن السائل لم يعد فقط استنتاجا لمنطق زجمونت باومان، بل حياتنا اليومية التي جعلت السائق مزودا بخارطة الطريق أمامه بواسطة (جي بي اس)، فقد أصبح غوغل (جي بي اس) كل باحث عن اية معلومة كانت. فأصبح مصطلح “التاريخ الراهن” مطابق للعيش الثقافي. فقد أصبحت “الثقافة خارج السيطرة والادارة” (باومان)، لكن على الباحث دوما “تعلّم السير فوق الرمال المتحركة” (باومان). لأن إدارة الانترنت شغلها خلق رمال متحركة لزعزعة برامج البحث واشغال الناس بأبحاث غير البحث العلمي.
هل انتهى دور الدولة في البحث (في عصر التكنولوجيا والبحث السائل)؟ بالعكس تماما. لكن التاريخ يُعَلّمُ الشعوبَ إذا افتقدت دور الدولة المساعد على رسم الطريق الملائم أن تعتمد على نفسها. والخطر إذاك هو أن تفقد الدولة ثقة الناس في دورها المفيد للشعب. لأن الدول التي لا تستند على شعوبها غالبا ما تنشغل بالهاء شعوبها وتنشغل بربح معركة التوقيت. أما المعركة الموضوعية معركة الثقة فلم تربحها يوما اية دولة الا بالاشتغال على الثقة وتقويتها بدور فعال وناجع يحل مشاكل الشعب.