وجهة نظر

أحمد الخمسي في قلب الأوضاع(2): فاتح يناير 2022 “التعادلية”: لماذا بقي اقتباسها جنينا ميتا في بطن الصمت؟

ركن أحمد الخمسي :

عبر هذا الركن، لا نزعم قلب الأوضاع، بل نطمح أن يتسرب القراء إلى قلب الأوضاع وكبدها ولُبِّها. فالأوضاع التي عاشتها الثقافة السياسية في بلادنا تتطلب التقليب والمراجعة، لنستحق الانتماء إلى القرن الواحد والعشرين، بتقليب تربة القرن العشرين من جديد.

فعندما طفح كيل الكتب مع انتشار المكتبات الالكترونية، انبلج صبح الحقائق وسياقاتها ضمن مجتمع المعرفة الذي أصبح حقيقة يومية على الانترنت.

فقد صُبّ علينا سطل ماء بارد ونحن نطلع على كتاب مشرقي تحت عنوان “التعادلية في الاسلام” نشر في ثمانينات القرن العشرين. ففرحنا واعتقدنا أن فكر علال الفاسي بلغ تأثيره الى المشرق بعد عشرين سنة من ظهور المصطلح عند علال الفاسي سنة 1963. ولما قرأنا الكتاب وجدناه يتحدث عن كتاب صدر لتوفيق الحكيم في الخمسينات يدور حول المصطلح. فسقط في أيدينا كما تقول العرب. ما علينا.

***

عندما طويت صفحة جمال عبد الناصر، بدأ الاهتمام بالظاهرة الناصرية في التاريخ العربي المعاصر. رجع الدارسون إلى مجمل المؤثرات التي جعلت من الزعيم المصري ما كان عليه من كاريزما وتأثير قوي في محيطه العربي شبيه بما فعله نابليون الفرنسي في أوربا، بحيث طبع مرحلة كاملة من التاريخ العربي الراهن.

ومن جملة ما ذُكِرَ من مؤثرات، قراءة جمال عبد الناصر  لرواية توفيق الحكيم “عودة الروح” التي صدرت سنة 1933. كان عمره حينذاك خمس عشرة سنة. في أوج أسئلة المراهقة. ثم مرت نفس المدة لتقع نكبة فلسطين وهو في منطلق مهنته العسكرية. ولعل الروح التي قرأ عند توفيق الحكيم أنها عادت أو بصدد العودة، وقع الانكسار العربي وظهر أن عودة الروح تقتضي مزيدا من الجهد والعطاء.

من القاهرة، التي أصبح ناصر رمز عودة روحها سنة 1955، كان علال الفاسي موجودا بها وكانت روح المغاربة في جزء منها مقيمة في القاهرة نفسها في شخص محمد بن عبد الكريم الخطابي. سنة 1955 تلك، صدر كتاب فكري لتوفيق الحكيم هذه المرة تحت عنوان: التعادلية. وبعد عودة محمد الخامس من المنفى القسري (نوفمبر55) وعلال الفاسي من المنفى الاختياري (57)، جرت الأحداث وبدأ عهد الحسن الثاني سنة 1961، ومُنِحَ المغاربة الدستور الأول (7دجنبر1962). وبعد أقل من شهر قدّم علال الفاسي باسم حزب الاستقلال وثيقة سياسية كما لو كانت ميثاق للتعاقد السياسي مع الملك بعدما دعا علال الفاسي للتصويت بنعم على الدستور. كان دهاء علال الفاسي يريد الرد على الانشقاق اليساري تارة (الاتحاد الوطني للقوات الشعبية: 1959)، وتارة يعتذر عن التقرب من عبد الخطابي في القاهرة من قبل تارة أخرى. وفي الحالتين، التقت مصلحته مع مصلحة الملك الراحل الحسن الثاني في أمور السلطة خلال الستينات.

***

كتب علال الفاسي أكثر من غيره من زعماء الأحزاب في المغرب. وناقش الليبراليين والماركسيين واشتهر بالإنسية والسلفية الجديدة، وفي ذلك، اتخاذ موقف المسافة من الناصرية التي كانت الخصم السياسي الرئيسي للأنظمة الملكية المحافظة في العالم العربي. كما يرسم الخط الفاصل ضد “الاختيار الثوري” (1963-1973). علما أنه لم ينجح في اقناع نظام الحكم الفردي في صيغة تعاقدية مع حزب الاستقلال. مما اضطره للعودة للتحالف مع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1970 لمقاطعة الاستفتاء على الدستور الثاني. لأن نظام الحكم صاغ لنفسه أحزابه الخاصة به منذ 1957 (الحركة الشعبية) وبعد وفاة رمزي الوطنية المغربية محمد الخامس سنة 61 وعبد الكريم الخطابي سنة 63 (جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية).

***

جاءت وثيقة “التعادلية” كما لو كانت نظاما تعاونيا مختلطا بين القطاعين العام والخاص، كما وصفها عبد القادر الشاوي من قبل “أقل من رأسمالية” (كتاب “حزب الاستقلال”).

القضية في وثيقة “التعادلية” الاستقلالية كونها اقتبست في صمت تام والى اليوم من كتاب توفيق الحكيم “التعادلية” (1955). الى اليوم جهل الناس هذا الاقتباس لأن كتاب توفيق الحكيم الأصلي نفذ من السوق، ولم يظهر في الساحة الثقافية المغربية قط. ولأن المختصين في أدبيات علال الفاسي وحزب الاستقلال لم يطلعوا قط على كتاب اسمه “التعادلية” بتوقيع توفيق الحكيم، عندما كان علال الفاسي في القاهرة.

ولأن مثقفو وكُتّابَ حزب الاستقلال من صنف عبد الكريم غلاب، عندما يذكرون علال الفاسي يعتبرونه مبدعا لمصطلح “التعادلية” كما لو أنه لم يوجد من قبل مصطلح التعادلية مسكوكا من طرف الغير بهدف الابتعاد عن الطرفين المتناقضين: الرأسمالية والاشتراكية.

فكتاب غَلاّب “ملامح من شخصية علال الفاسي”،عبر فقرة خاصة بنفس العنوان “التعادلية” في أربع صفحات، يفيد القارئ بكون علال الفاسي هو من سكّ هذا المصطلح. فلا تصريح ولا تلميح ولا مجرد إحالة على الهامش، تذكر توفيق الحكيم بخير.

***

أما النقاد من خارج حزب الاستقلال، فلا واحد منهم أشار الى مصدر مصطلح “التعادلية”. إن استعمال مفهوم في ميدان معين إن لم يذكر مستعمله الأول يصبح “بلاجيا” في حالة تلبس. أما أن يصبح المصطلح إحدى ركيزتي برنامج سياسي حزبي الى جانب الركيزة الثانية (الديمقراطية السياسية و”التعادلية” الاقتصادية الاجتماعية) فمن باب استغفال الطبقة السياسية واستغفال الناخبين بالاحرى استغفال اعضاء الحزب بل وأقرب المقربين للزعيم مستعمل مصطلح الغير كاختراع شخصي مطلق، فمن باب نهاية صلاحية الحزب المستعمل لمصطلح الغير دون الاعلان عن ذلك، ظهور مجتمع المعرفة والمصير المحتوم لاطلاع جيل جديد على الوثائق الأصلية والتي بقي رصيد الأدبيات السياسية المغربية صامتا عنها مدة جيلين كاملين (1963-2022).

***

ليس الاقتباس الملائم هو العيب. فذكرُ الاقتباس يدعّمُ انفتاح العقل السياسي على كل ما يغني برنامج الحزب السياسي المعني بالاقتباس. بحيث لم يخف اليساريون ولا الليبراليون مصادر تصوراتهم في الفكر السياسي. وللتاريخ، لم يتواضع الاستقلاليون يوما تجاه اليساريين والليبراليين كون أفكارهم الليبرالية واليسارية مستوردة من الغرب وغريبة عن المجتمع المغربي. لكن السطو على الملكية الفكرية، أي الاقتباس دون ذكر المصدر، سرقة من النوع الذي لا يسقط تجريمها بالتقادم. على الأقل، تصبح المحاججة ضدها تحديا ناجحا مسبقا.

***

إن الاستقلاليين المخلصين لحزبهم هم أول الضحايا لهذا الصمت عن المصدر. فالاستغفال احتقار لرشد عقول الناس. وهو قناع لوصاية وتكريس لعبودية غير طوعية من الأعضاء تجاه الحزب الذي دبج وثائقه دون ذكر مصادرها. كما يدخل هذا النوع من الاقتباس غير المعلن ضمن احتيال قيادي على الجمهور المتتبع ليصبح تابعا. إذ لا يتعلق الأمر بكلمة هامشية في قاموس حزب الاستقلال. بل يمكن القول إن “التعادلية” واحدة من بين كلمات ثلاث مركزية استعملها ويستعملها حزب الاستقلال: “التعادلية”، الانسية المغربية، السلفية الجديدة.

لقد سبق لنجل الزعيم الاستقلالي، أن دعا سنة 2012 الى تجديد الفكر التعادلي الذي نشره والده. كما ألف الراحل غلاب كتابا تحت عنوان: “الفكر التقدمي في الايديولوجيا التعادلية”.

ولعل الحيازة مدة طويلة من معايير الاحتفاظ بما تم السطو عليه من قبل. ف”التعادلية” أصبحت من “الأساطير المؤسِّسَة” لحزب الاستقلالية في انطلاقته الثانية بعد استقلال المغرب. لذا، “أعز ما يطلب”، من حزب تكرس آلة انتخابية بامتياز، أن يصدر اعتذارا رسميا لأعضائه ولناخبيه عن “السهو” الذي ترك الاقتباس  جنينا ميتا في بطن الصمت أكثر من المدة المحددة للحمل. تلك مسألة معلومة أخرى بقيت خفية. مثلما يقول الرأسماليون أن للسوق “يد خفية” !!!

أحمد الخمسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى