أحمد الخمسي في قلب الأوضاع(4): قصة “كلب بائع السمك”(1) المغربي في الريف سنة 47 هل هي من خيال روبير مونطان؟

أحمد الخمسي
لعل روبير مونطان الذي تعلم الامازيغية والدارجة علم بتفسير الأحلام عند ابن سيرين، وضمنه عثرعلى تفسير حلم السردينة في مخيلة المغربي، لذلك اختلق حكاية “كلب بائع السمك”في قبيلة بني ورياغل، مقدمة للتشهير بعبد الكريم سنة 1947؟
سنة 1947، صادف أن جرى حدثان كبيران في تاريخ المغرب: زيارة السلطان غير المسبوقة الى طنجة . والنزول المفاجيء لعبد الكريم الخطابي في القاهرة.
ولم تكن الأحداث المحلية منفصلة تلك السنة عما يجري على الصعيد العالمي. فقد جرى حدثان كبيران في آسيا الجنوبية وآسيا الغربية. قطعت انجلترا صيفها أوصال الوطن الهندي (قرار التقسيم في غشت). وتبعها الكبار الآخرون باستصدار قرار تقسيم فلسطين (نوفمبر). عندها خاف السلطان محمد بن يوسف على مصير المغرب، فذهب الى طنجة (7 أبريل) بصفته رمز السيادة المغربية وبصفتها دائرة دولية حيث مراسلي الصحافة العالمية لتجديد المطالبة باستقلال المغرب (بعد وثيقة 44). وفوجئت الحركة الوطنية باحتمال نزول الزعيم عبد الكريم الخطابي في القاهرة(أواخر ماي من نفس السنة؟) . ونزوله ذاك، كان قبل كل شيء حصيلة الصراع بين فرنسا وانجلترا. رغبت الاولى في نقل الزعيم المهاب الى باريس لتضغط بمقامه هناك على سلطان المغرب، ونجحت الثانية في تحويل مقامه بالقاهرة الى معارض ضد السياسة الخارجية الفرنسية في شمال افريقيا.
ذاك كان مجمل السياسة الرجعية للاستعمار منتصف القرن العشرين. لكن المثقفين الاستعماريين الذين دأبوا على خدمة شركات صناعة السلاح ونهب خيرات المستعمرات، باسم العلم والخبرة أقبلوا على صياغة مواقف بعيدة عن العلم. على رأس هؤلاء: روبير مونطان.
ففي سنة 1947 نفسها ولما شاع خبر نزول عبد الكريم بالقاهرة كتب روبير مونطان مقالا مطولا تحت عنوان عبد الكريم، بدأه بتوصيف بذيء للزعيم المغربي المقاوم بصيغة: “مصير هذا الزعيم الصغير…” le destin de ce petit” chef” … !!!
***
يقع المقال المطول في 25 صفحة. في الصفحة الثانية، ينتقل الى وصف “بلاد عبد الكريم” ويعثر على حكايات النزاع داخل قبيلة بني ورياغل، ويجد مثال الاقتتال الذي اعتبر سببه هو قتل كلب بالمكحلة من طرف من اعتبره طفلا ليشمت في قوم يتركون السلاح الناري بين ايدي الاطفال. ثم يذكي نيران الحقد فيما بين القراء كون بائع سمك هو مالك الكلب المقتول وكون بائع السمك حلّ ضيفا عند دوار مجاور للدوار الذي ينتمي له الطفل قاتل الكلب مما دفع المضيف لبائع السمك يحكم على طفل الدوار المجاور بدفع غرامة لبائع السمك. ومن ثم تشتعل حملة قتل وقتل مضاد بين سكان المدشرين. ليستخلص القارئ أن عبد الكريم الخطابي يتنمي لقبيلة عبارة عن قتلة تملأ نفوسهم الاحقاد تجاه بعضهم.
صدر مقال روبير مونطان في ظرفية الحدثين: حدث تحدى السطان محمد بن يوسف (محمد الخامس فيما بعد) فرنسا عندما أكد انتماء المغرب الى جامعة الدول العربية وأغفل عنوة كلمة بروتوكولية كان عليه ان يشكر عبرها الدولة الاستعمارية مستبدلا اياها بالشعب الفرنسي الذي يعشق الحرية. وحدث نزول عبد الكريم الخطابي في القاهرة.
***
كانت مهمة مقال روبير مونطان هو تحقيق هدفين: الهدف الأول المس بسمعة عبد الكريم الخطابي بجميع الأساليب، والهدف الثاني، تجديد الحملة الاستعمارية لتعميق الهوة بين سلطان المغاربة وبين المغربي الريفي المقاوم ضد الاستعمار. ثم لم ينس روبير مونطان منع محمد الخامس إدارة الحماية المس بالمغاربة اليهود في عهد حكومة فيشي خلال خضوعها للنازية اثناء الحرب العالمية الثانية. فمنذ عهد ليوطي، اعتبرت المدن العتيقة بما فيها الملاح من اختصاص السلطان مباشرة وليس ادارة الحماية. وهو ما دعا ادارة الحماية إلى تأليب باشوات المدن العتيقة على السلطان، ونجحوا في ذلك مع الباشا الكلاوي في مراكش.
***
وقد شعر مثقفو الاستعمار برغبة السلطان الاستقواء بامريكا منذ مؤتمر أنفا (فبراير 43) للضغط على فرنسا والتفاوض على الاستقلال وانهاء الحماية. الدليل على هذا، ان روبير مونطان نفسه اراد تهييء الرأي العام الاستعماري سنة 1953 لتبرير تعسف الادارة الاستعمارية ضد السلطان. وذلك بإصدار كتابه المتحيز بعنوان جذاب ومتحايل “ثورة في المغرب”. بل حتى جريدة لوموند نعتت السلطان وهو –بعد ذلك – في المنفى كونه مزدوج الخطاب، بما يفيد أنه غير أهل للوثوق به (لوموند 28/12/1954).
هكذا وفي نفس المقال انتقل روبير مونطان، من حادثة صغيرة داخل المجتمع الريفي ليشكك في زعيم المقاومة، لتكمل جريدة لوموند عمله المخرب لسمعة المغاربة في المجتمع العميق، بمحاول التقول على سلطان المغرب.
وبعدما صاغ نظرية متكاملة لتفريق الشعب في المناطق الامازيغية عن الدولة المغربية بمضمون ماس وسلبي في حق الطرفين: كون البربر فوضويين وكون المخزن متسلط، وبعد كلام روبير مونطان وجريدة لوموند، سينزل الامازيغ المغاربة من الاطلس الى وادي زم للاحتجاج ضد ادارة الاستعمار يوم 20 غشت 1955.
***
يقول عنه دانييل ريفيت، في تقديم كتاب روبير مونطان حول نشأة البروليتاريا المغربية” (1948-1950) كونه لم يكن يمارس البحث (السوسيولوجي الميداني) سوى في ارتباط مباشر بالممارسة السياسية (= التدبير الاستعماري طبعا).
كان يعتبر الطبقة العاملة ستشكل “القوة الثالثة الوسيطة بين سلطوية المخزن وفوضوية القبائل البربرية” (ريفيت) كما سبق ذكره. لذلك، عملت الادارة الاستعمارية على الاستفادة من الكتاب المذكور لتنظيم العمال المغاربة في روابط قصد التسلل وسطهم والتجسس على مدى ارتباطهم بالحركة الوطنية.
في نفس الوقت تحدّث ريفيت عن السياسات الكبرى التي تبقى خارج نطاق روبير مونطان (مراكش، المدينة القديمة في الرباط والدار البيضاء، ملاح اليهود). وهو ما أرادت فرنسا أن يترك لها القدرة على التجسس على السلطان عن طريق باريس مباشرة.
***
الدرس من حالتي بائع السمك في عهد الاستعمار في القرن العشرين وعهد الاستقلال بل والقرن الواحد والعشرين هو أن تتخلى الدولة عن التخوفات والهواجس التي خلقها الاستعمار بين الشعب المغربي والدولة. وهو ما سنستكمل حوله الحجج غير المتداولة في تاريخ الاستعمار بالمغرب.
فتقسيم الهند وفلسطين في 1947 ما زالت مضاعفتهما سارية الى اليوم. وتقسيم قلوب المغاربة ما بين المجتمع والدولة، أيضا ما زالت سارية. فسياسة الاستعمار التقسيمية لا تختلف سواء كانت في كوريا او فلسطين أو في الهند أو السودان. وكم من تقسيم جرى باسم التوحيد…فعقول العرب ما زالت أصغر من الصغير.