وجهة نظر:أحمد حبشي قضية الصحراء في مفكرة اليسار

كانت مسألة الصحراء أول قضية خلافية في صفوف اليسار الجديد ، اتضح خلال الصراع حولها التمايز القائم بين رؤيتين سياسيتين تعتمدان نفس المرجعية الفكرية ، وتسعى إلى فرز خط سياسي يدعو إلى الكفاحية من أجل تغيير موازين القوى لصالح الكادحين وفي طليعتهم الطبقة العاملة. فمنذ انطلاق أنويته الأولى لتأسيس تيار جذري مناضل ، مباشرة بعد أحداث 23 مارس سنة 1965، التي سجلت أول انتفاضة شعبية بقيادة شبابية في مرحلة ما بعد الوجود الاستعماري انطلقت حلقات النقاش الأولى في الجامعة وبين شبيبة الأحزاب اليسارية القائمة آنذاك، الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب التحرر والاشتراكية ، الرافضة لما اعتبرته مساومة ومهادنة للسلطة الحاكمة التي في تقديرهم أداة في يد الاستعمار الجديد.
بعد تحديد الاتفاقات الإيديولوجية بين أنوية متعددة المشارب، وفتح النقاش العميق، حول الخط السياسي والقضايا الجوهرية المرتبطة بخط النضال الوحدوي ، تم انجاز الخطوات التنظيمية في القطاعات المجتمعية الأكثر حيوية وفعالية ، تم توحيد الإعلام والزحف لاكتساح بعض المواقع في الواجهة النضالية ، ما لبت أن بدأت تظهر بعض التفاوتات في التقدير السياسي بين تيارين ، مباشرة بعد أحداث مولاي بوعزة في مارس 1973، وما تلاها من هجوم قمعي استهدف المناضلين على نطاق واسع ، شمل مختلف الفصائل اليسارية ،كما شل الحركة النضالية لقطاعات وازنة على الساحة النقابية والسياسية. فكانت الدعوة في تقدير البعض إلى ضرورة التراجع المنظم من أجل بناء الذات وتقييم المرحلة لبلورة خطة عمل تمكن تجاوز مخلفات القمع وتصحيح المسار . بينما اقتضى نظر التيار الآخر ضرورة مواصلة النضال في خضم المد الجماهيري الذي عكسته الأحداث والرد الهستيري للنظام لتوقيف وثيرته ، بشن حملته القمعية اليائسة التي تعكس بداية نهايته ، فكان شعار وجهة نظر هذه هو ” لنبني الحزب الثوري تحت نيران العدو” ، وأصدر وثيقة يفصل فيها قراءته للوضع السياسي وما تتطلبه المرحلة.
تشعب النقاش بين التيارين وأصبح الإعلام المشترك لا يعكس وجهة نظر الطرفين ، فكان أن أصدر كل تيار جريدته الخاصة بعد أن تعذر التوصل إلى صيغة تقلص مسافة الخلاف الذي أصبح جليا بين أطروحتين ، على الرغم من تأكيد انطلاقهما من نفس المرجعية الفكرية . هكذا واصل تيار إصدار الجريدة التي كانت لسان حالهما تحت عنوان ” إلى الأمام” ورد التيار الآخر بان أصدر منبره الإعلامي الخاص ” 23 مارس” . في سعي لتوسيع دائرة الاستقطاب وشحن وعي المناضلين. بالطبع كان لكل ذلك انعكاس على الساحة النضالية، وتوسعت دائرة التباين وحدة النقاش. في هذه الأجواء الخلافية سيطرح مشكل الموقف من استرجاع الصحراء ومن جبهة البوليساريو كفاعل سياسي جديد . فبينما اعتبر تيار ” إلى الأمام” أن الوضع أصبح في صالح الثورة وأن عزلة النظام الحاكم ازدادت تفاقما ، وأن الجنوب سيصبح بؤرة ثورية ستشكل قاعدة للرفع من إيقاع النضال للقضاء النهائي على السلطة الحاكمة ، وحسم الأمر لفائدة مساندة الجبهة والدعوة لمناصرتها ، بل أن موقفه سيمتد إلى الاعتراف بالجمهورية الصحراوية كممثل شرعي ووحيد للشعب الصحراوي. هذا الموقف وجد صداه وسط تيار 23 مارس ، وفجر نقاشا داخليا وسط أطر ومناضلي التنظيم ، فكان أن نظمت ندوة داخلية بالدارالبيضاء ،حضرها أغلب العناصر القيادية التي لم يطلها الاعتقال ولم تتمكن من مغادرة البلاد بحكم كونها كانت موضوع متابعات قضائية. لم يحسم النقاش الخلافات داخل فصيل 23 مارس، ولكنه انتهى إلى اتفاق اعتبر موقفا مؤقتا ، لخص في اعتبار أن الصحراء مغربية تاريخيا ، وأن المواطنين في الأقاليم الصحراوية لهم حق الاختيار ، يجب إعادة بناء الوحدة على أسس وطنية ديمقراطية . واعتبرت هذه الخلاصات أولية في انتظار تعميق النقاش وبلورة الموقف النهائي. اعترض على ما خلصت إليه الندوة الوطنية عناصر من قيادة التنظيم لم تحضر أشغال الندوة بحكم تمكنها من مغادرة المغرب واللجوء إلى الجزائر ثم فرنسا. على إثر الندوة تشكلت لجنة وطنية لقيادة المنظمة مؤقتا في انتظار استكمال الإعداد للمؤتمر الوطني للحسم في الخط السياسي وتحديد الموقف النهائي من مسالة النزاع حول استرجاع الصحراء.
لم يتسع الوقت لأي نقاش أو جدال في القضايا التي أصبحت خلافية بشكل كبير، والتي سيتحول النقاش حولها إلى صراع حاد لفته اتهامات متبادلة بخصوص الموقف من النظام وخط النضال المرحلي، صراع عمقته الاعتقالات الواسعة التي ضربت التنظيمين معا، وزجت بأغلب العناصر القيادية في السجون وخاصة اطر منظمة “إلى الأمام ” . في السجن سيعرف الصراع منعطفا بعد أن قرر مناضلو منظمة ” إلى الأمام” الاعتراف بجبهة البوليساريو ، واختيار لحظة المحاكمة للإعلان عن ذلك ، وهو ما اعتبره التيار الأخر استفزازا مباشر فكان أن رد بإعلانه الدعم للوحدة الترابية والتأكيد على مغربية الصحراء ،على الرغم من قرار المعتقلين بمقاطعة المحاكمة كرد فعل على استفزازات الرئيس ، هذا الأمر زاد من حدة التوتر وسط المعتقلين ، وجوبه المؤيدون لمغربية الصحراء بمحاصرة شبه تامة ،وخاصة الرفاق الثلاثة الذين عبروا عن الموقف في قاعة المحكمة، فكانت الدعوة لعزلهم وقطع أية معاملة معهم ، وساد وسط المعتقل موقف تقرير المصير للشعب الصحراوي ، واستغل إضراب عن الطعام ،خاضه أغلب المعتقلين لتحسين أوضاعهم ورفع كل أشكال التضييق والدفاع عن حقهم في مواصلة الدراسة والتوصل بالمقررات ، في الترويج للموقف بإصدار بيان اعتبر فيه الإضراب دعما لحق الشعب الصحراوي في تقرير المصير . تم شجب البيان الذي لم يستشر فيه المضربون ، وأعلن الرافضون لصيغته المجحفة احتجاجهم، وأكدوا على في جمع عام للمضربين ان استمرارهم في الإضراب هو فقط تضامن مع حركة الإضراب ، حتى لا يتهم بإفشال المعركة التي كانوا يرون أهميتها في التعريف بواقع المعتقلين ومعاناتهم.
مع الأسف الشديد كان من نتائج الإضراب استشهاد الرفيقة سعيدة المنبهي بعد تسعة وثلاثين يوما من الأمعاء الفارغة ، وعزلة داخلية على الصعيد الوطني كرد فعل للقوى الوطنية ، ثم تشتيت المعتقلين وتوزيعهم على ثلاثة سجون بما يعني مضاعفة معاناتهم . لمدة ظل أغلب المعتقلين يساندون أطروحة تقرير المصير ، في حين عقد قيادة منظمة 23 مارس ندوتها الوطنية في باريس وحسم الموقف لصالح الدفاع عن الوحدة الترابية وتشكيل قيادة تضمنت عناصر من قادة جيش التحرير المغربي بالجنوب ، وقد ساهم ذلك في توسيع دائرة الواثقين من حق الشعب المغربي في استعادة وحدته واسترجاع جزء من أرضيه كانت خاضعة لنفوذ الاستعمار الإسباني جنوب البلاد . مع تطور الأوضاع داخل المعتقل استعاد الرفاق علاقاتهم الإنسانية البعيدة عن كل حسابات سياسية ،وأصبح الموقف من الصحراء شأنا خاصا بكل تنظيم ، خصوصا ان العديد من المناضلين قطعوا كل صلة لهم بالتنظيمات السياسية التي كانوا ينتمون إليها ، وأصبح كل واحد يعبر عن قناعته باستقلالية وتجرد ، أصبحت البيانات التي تصدر باسم المعتقلين محصور فيما هو مشترك من المواقف السياسية وما يتعلق بتحسين أوضاعهم داخل السجن أو التعبير عن التضامن مع الحركة الجماهيرية والقضايا الإنسانية العادلة. وسيتضح فيما بعد ان العديد من الرفاق اعادوا النظر في موقفهم من النزاع في الصحراء وانتهى الأمر بالبعض منهم إلى الوقوف بجانب الشعب المغربي في نضاله مناجل استرجاع حقه في وحدته الترابية .
أحمد حبشي