وجهة نظر

أحمد الخمسي في قلب الأوضاع(6):الصراع المدمر

سيحُزّ في نفس من قد يصل الى شمال افريقيا، زائرا للتو من هاواي او استراليا، فيجد الحقد المتبادل بين المغاربة والجزائريين. بحيث درجة العداء أصبحت عالية، وكثيفة، ومزمنة، تأكل النسبة القليلة الموجودة من العقلانية في أدمغة الناس.

لا يمكن لأيٍّ كان أن يبحث عن أسباب لتبرير الحقد السائد، عالي الصبيب من الطرفين. فالشعور بالحقد حالة ليست عادية في البشر. والشعور بالحقد من جانب الصحة النفسية حالة غير صحية. لا يمكن للصراع السياسي ولا صراع المصالح أن يتم تدبيره بإذكاء عوامل الحقد. فالعقل البارد همه أن يفسّر أغرب وأعجب الظواهر بمنطق السبب والنتيجة. بينما فقدان البوصلة وفقدان المناعة العقلية هي الاحتمال الوحيد لتبرير ظاهرة الحقد.

ولا يمكن لعاقل أن يصمت لتفشي الحقد بين المغاربة والجزائريين. نعم، تواتر المشاكل ومراكمة النزاعات وافتعال “المعارك”، “معركة” تلو “معركة”، يؤدي إلى فقدان الثقة.

لكن فقدان الثقة في غالب النزاعات تكون نسبته بين المتنازعين، لدى طرف دون الطرف الثاني. وفقدان الثقة يصبح ورما مدمرا عندما يكون فقدان الثقة في الآخر يعكس فقدان الثقة في النفس. وفقدان الثقة في النفس في حالات الأفراد تصل بصاحبها الى حالة الجنون والإجرام. لذلك، على كل طرف من المتنازعين، أن يلجأ الى لحظة الضمير، ويقف أمام المرآة ويتساءل عمّ إذا كان في إمكانه القدرة على إنقاذ الطرف الثاني من بؤرة النزاع؟ فبؤرة النزاع إذا طالت في الزمن ألا تفرز إيديولوجية الحرب؟ وايديولوجية الحرب إذا أصبحت من الثوابت، ألا تصبح آلة للتدمير الذاتي؟

لا يطرح مثل هذا السؤال على نفسه سوى من تبقّى لديه القدر الكافي من الثقة في النفس.

لقد أصبنا في شمال افريقيا بمرض فقدان الثقة في النفس وفي الآخر. ويمكن ها هنا استحضار مثقفين اثنين: المثقف الفرنسي جان بول سارتر عندما توقف عند مقولة “الآخر هو الشّر” بالنسبة إليّ. والمثقف المغربي عبد الله العروي عندما جعل من مهمته في كتابة تاريخ المغرب الكبير أن يعالج النظرة التي تركها الفرنسيون عن هوية سكان المغرب الكبير.

وعندما نجمع بين الشغل الفكري الذي أنجزه كلٌّ من سارتر والعروي، سننتبه للظروف الفرنسية الداخلية التي أنجزت فرنسا خلالها استعمارها لكل من الجزائر والمغرب. فقد واجهت أوربا البرنامج التوسعي الفرنسي. يذكر أحد القادة العسكريين الفرنسيين الصعاب التي واجهت فرنسا مرتين: عندما أرادت احتلال الجزائر سنة 1830، وقفت أنجلترا في وجهها، على خلفية الاذلال الانجليزي للأمة الفرنسية عندما مات زعيمها نابليون بونابرت أسيرا لدى الانجليز في جزيرة سانت هيلين. وعندما أرادت أن تدخل المغرب سنة 1912 واجهتها ألمانيا، على خلفية هزم ألمانيا لفرنسا وإعلان الامبراطورية الألمانية الثانية من داخل باريس  المحتلة مع اقتطاع اقليمين من التراب الوطني الفرنسي (الالزاس واللورين).

أمة كالأمة الفرنسية واقعة في تناقض صارخ مريضة بالتناقض بين مجد نابليون والهزائم أمام أنجلترا وألمانيا، لا بد أن تدفع مثقفا حيّ الضمير أن يعيد إلى الأذهان فكرة هوبز الانجليزي: الإنسان ذئب لأخيه الإنسان. ولم يندفع سارتر للانشغال بهذه المأساة الإنسانية من واقع فرنسي عام، بل من مرارة شخصية عانى منها. فالقيّمون على جائزة نوبل، تصرفوا بتقدير جائزتين من جوائز نوبل للأدب، لفائدة الفرنسيين كما لو كانوا يعتبرون في النخبة الفرنسية أولئك الذين يدارون الحزب الاستعماري الفرنسي بينما يرتّبون حلف حرية الشعوب في المقام الثاني. كان ألبير كامو في بداية تألقه الأدبي يحلم بلقاء الفيلسوف الكبير جان بول سارتر الذائع الصيت. بينما تمنح جائزة نوبل للأدب للتلميذ كامو (1957) قبل الأستاذ سارتر بسبع سنين.وهو ما يفسّر رفض الجائزة عندما قررت السويد منحه إياها (1964).

أما اهتمام عبد الله العروي بالرد على الفرنسيين بصدد هوية سكان المغرب فقد فسّر نور الدين صدّوق (بدراسته لرواية أوراق) الأسباب النفسية لدى العروي ليرد الاعتبار لضميره الوطني بعد قبول المنحة الفرنسية للدراسة (1955) في عز الصراع بين المغاربة والحزب الاستعماري الفرنسي (على النقيض من سلوك الجابري).

فإذا كان الفرنسيّون من صنف جان بول سارتر وألبير كامو أن يختلفوا في الإجابة عن القضايا الكبرى التي واجهت فرنسا، فكيف لا يختلف الجابري والعروي في الاجابة على قضايا المغرب كل من تخصصه؟ لقد أجاب البير كامو عن سؤال الصحافة بصدد فرنسا التي اشتهرت بتحرير شعوب أوربا من النظام القديم، كيف يكون موقفه هو كفرنسي إباّن اشتعال حرب التحرير في الجزائر؟ فأجاب باستعارة مشهورة: لو وقع نزاع بين أمي وقضية عادلة، فسأنتصر لأمي. أما جواب سارتر بصدد حرب تحرير الجزائر، فتوقيعه على البيان المشهور ببيان 121، والذي أتى أربع سنوات بعد تصريح كامو فكان  يدعو إلى أن مسؤولية الفرنسيين تسليم الجزائر لأهلها ولا عذر في خوض الحرب الاستعمارية ضدهم.

المختصر المفيد من هذه التفاصيل، الجمهورية الفرنسية لم تبق وفية لتحرير الشعوب، ومن أجل الحفاظ على مكاسبها الاستعمارية، تحالفت مع أمريكا، ليقوما معا بنفس الفعل الاجرامي، في يومين متتالييّن: أمريكا تهجم على السيادة الإيرانية يوم 19 غشت، وفرنسا تهجم على السيادة المغربية يوم 20 غشت سنة 1953. وبقي النزع الأخير من فرنسا الأبية المنتفضة ضد التحول إلى مجرد عميلة لأمريكا…وفي الظروف البالغة التعقيد، قد يتحول اليميني إلى بطل، والمناضل الوفي إلى مجرد مساوم. ما زلنا نسمع السجال الحاد ضد معاهدة إيكس ليبان، التي فهم الحكيم عبد الرحيم بوعبيد ملابساتها واختار التوقيع عليها وتسلّم الحل بعودة السيادة والاستقلال مقابل إبعاد الخونة من الحكم. نسلم اليوم بموقف علال الفاسي ضد عبد الرحيم بوعبيد. ومن بعد يبقى عبد الرحيم زعيما للقوات الشعبية ويدعو علال الفاسي للتصويت بنعم على الدستور الممنوح.

وللعودة إلى فقدان الثقة بين بلدان شمال افريقيا، وليفهم ذاك الزائر من هاواي أو من استراليا، نحكي ما رواه الأديب اللبناني/السوري، جورجي زيدان، عندما زار باريس في سنة احتلال المغرب 1912، أنه قرأ نصا بمتحف اللوفر بباريس كتبه الأمير عبد القادر الجزائري. مفاده أنه عندما لم تبق له ظروف الصمود أمام الفرنسيين سنة 1847، صرح للبقية المتبقية معه من المقاومين، أنه يفضل الاستسلام للفرنسيين، بدل اللجوء إلى المغرب. لننتبه أن تونس الجارة شرقا لم يضعها قط في الحسبان لأن الجزائريين لم يلحظوا قط مبادرة سند من الجهة الشرقية. وأنه لم يفكر قط وضع الخليقة العثماني ملجأً محتملا. وأكمل الأمير فكرته كون الجزائريين مهددين إذا ما لجأوا الى المغرب بالسجن والعقاب. فهل كان الأمير الجزائري المقاوم يفكر في هذا الاحتمال السيء لدى المغاربة لو لم يكن قد قرأ الحصيلة بين المغاربة الداعمين والجزائريين المدعومين.

الصراع داخل نفس الشعب بين اتجاهات وتيارات وطبقات، صراع حيوي منتج مفيد، والمنتصر ليس من تأكل مصارينه إفرازات المعدة وتنعكس بمشاعر الغضب والحسد والانتقام من الغير. المنتصر من يتدبر نسبة توزيع المسؤوليات بين الأطراف المتنازعة وهو منهم. ومن يوغل في إلقاء المسؤولية على الآخر دائما يفقد البوصلة وتستمر افرازات معدته في نهش مصارينه. ولا يقدم حلا للنزاع.

فلا يهم المغاربة ديمومة المظلومية والتوغل في وهم أنهم ضحايا الجزائر. يكفيهم صحو الذهن والخروج من منطقة الاحساس بالدونية التي بقيت من افرازات الاستعمار. ليستعيدوا القدرة على الاستمرار دائما في المقدمة بلا عقدة تفوق ولا عقدة الضحية. الاستعماريون أنهم اعتبروا القوة المعنوية التي يكتسبها المغاربة بمؤسساتهم الراسخة “كامبودج شمال افريقيا”.

مجتمع المعرفة الذي يحيط بنا اليوم يعيد الصورة ناصعة واضحة المعالم. فلم يعد لدينا أي مبرر للمظلومية. ولنكن عونا للشعب الجزائري الطيب وهو يتحمل ثقل العسكر الذي طال أمده.

أحمد الخمسي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى