أحمد الخمسي في قلب الأوضاع(9):أية زاوية ننظر إلى القضية الأوكرانية؟

حق تقرير المصير؟
الوحدة الترابية؟
صراع البلدان الأمبريالية فيما بينها؟
لحظة عسيرة يولد من خلالها نظام عالمي جديد؟
تثبيت التداول بين الحرب العالمية والحرب الباردة كقاعدة تملأ الزمن السياسي العالمي؟
***
لم يعد في المغرب رأي عام متفاعل طامح لتغذية الرؤى. وفي غياب الرؤى ضمُرَت معايير المواقف المتناظرة الرفيعة المعالجة.
ونحن بصدد ما يجري في شمال الأرض غربا وشرقا، صرنا ضحايا استهلاك الحوادث اليومية. ولم نعد حتى في مستوى معالجة القرارات الرسمية بصدد الأحداث الدولية التي لها تأثير على تجارتنا الخارجية، وبالتالي على الأسعار في السوق الداخلية. وفي سوقنا الداخلية لم تلك اليد الخفية خفية. فالسيطرة على كل المجريات، صارت معلمة من معالم “نجاح” اليد العليا للتحالف الطبقي الذي يعيد توزيع الثروة عن طريق الحظوة والريع وترسيم الرشوة وجبروت الخوصصة من داخل الاقتصاد العام.
كل هذا ظاهر للعيان، ولما نزعم تحليل الصراع الروسي الأوكراني، تقفز بعض الجهات الصحافية، لوصم النظام الروسي بالدكتاتورية وبشكلانية اللعبة الديمقراطية هناك. كما لو كنا نحن ديمقراطية عريقة تقوم على فصل السلط واقتران المسؤولية بالمحاسبة. بالمختصر المفيد كما لو كانت حياتنا السياسية الداخلية أفضل من الحياة السياسية الروسية ! بموجب هذه الوعكة الإعلامية نقفز الى ضرورة مساندة حق أوكرانيا مسبقا وبكيفية سطحية ببغاوية، دون تمحيص.
ننسى أن أوضاعنا الاقتصادية الاجتماعية متخلفة عن الحياة الاقتصادية الاجتماعية الروسية بمسافة قرن من الزمن. ثم حتى لو كانت حياتنا السياسية في شكلانيتها مماثلة لما تعيشه روسيا سياسيا، فالرهانات مختلفة ومتفاوتة: بحيث يجري الصراع باسم أوكرانيا بين الشرق (الروسي/الصيني) والغرب (الأطلسي الذي تجر أمريكا عبره الاتحاد الأوربي). بينما نكاد نحن نجتهد في الافلات من التبعية الموروثة، لنصبح مع الغرب – للضرورة المعقولة طبعا- في وضعية تابعي التابعين بلغة الفقهاء السنة.
نحن طبعا نَرِثُ شبكة تجارية تربطنا بشكل وثيق مع الاتحاد الأوربي وأمريكا. ولنا صلات وثيقة موثقة مع الحلف الاطلسي، بسبب الجغرافيا والتاريخ ومصالح المستقبل. ولكن، علينا أن نتتبع الأزمة في مفاصلها الأساسية لنستطيع من بَعد، وعن بُعد، التهيؤ لما قد يصيب قُوتَنَا وقُوّتنا وميزاننا التجاري والمعيش اليومي للمغاربة.
***
عندما نضع خريطة أوراسيا (أوربا+ آسيا) أمامنا، نجد الحلف الأطلسي، يزحف نحو الشرق بقواعده العسكرية، من جانب روسيا، وهي أكبر دولة في العالم من حيث المساحة، منذ مجيء الرئيس بوتين، أعادت ترتيب سياستها السيادية تحت شعار “إعادة الاحترام”.
بصدد حديث الغرب عن مشكل حقوق الإنسان والديمقراطية في روسيا، لا أحد يستطيع أن يصدّق الرأسمالية في هذا الجانب، ليس أكثر من بروبغندا، فالمصالح الاقتصادية والتموقع العسكري هما مقياس السلوك الغربي عالميا.
من أجل “إعادة الاحترام” عملت روسيا على إعادة هندسة سياستها الخارجية في الاقتصاد، ونقطة قوتها أنابيب الطاقة: البترول والغاز. كوسيلة للضغط على خلفية المصلحة الحيوية لأوربا في تأمين 40 في المائة من حاجياتها الآتية من روسيا. ولمّا اتفقت روسيا مع ألمانيا، على مد أنبوبين عبر بحر البلطيق، بحجم 110 مليار متر مكعب سنويا، انتبهت أمريكا الى احتمال استغناء روسيا عن الأنبوب الحالي الذي يمر عبر أوكرانيا، بحجم 85 مليار م3. وهو ما يعفي روسيا من الخضوع لاحتمال توقيفه من طرف أوكرانيا منذ بدء النزاع بينهما سنة 2014. وقد أطلق الغرب حملة الإعلام حول الحرب المحتملة بداية فبراير الحالي (2022)، لضرب عصفورين بحجر واحد: عصفور تعطيل الاتفاق بين روسيا وألمانيا حول الأنبوب البديل. وعصفور التشويش على الالعاب الاولمبية التي انطلقت في الصين في نفس التوقيت، لتعطيل المفعول الاشعاعي والدبلوماسي للألعاب في الصين. هل الأمر في هذه الحدود الراهنة؟
***
كتب السفير الروسي في باريس مقالا مطولا حول الفترة السوفياتية التي انبنت على استراتيجية إنهاء مرحلة الدولة القومية والاشتغال على الدولة الأممية. وكان من نتائجها أن كسبت أوكرانيا أراضٍ خلال المرحلة السوفياتية لم تكن أوكرانية.
لدينا مثال شبه جزيرة القرم:
كتبت جريدة لوموند الفرنسية مقالا سنة 2014، عن حكاية غريبة، بطلها خروتشوف. ملخصها أنه بعد موت ستالين (سنة 53) وتوليه السلطة، جمع القيادة السوفياتية، وبعد ربع ساعة من النقاش صدر قرار رئاسي بتسليم شبه جزيرة القرم الى أوكرانيا سنة 1954. ويؤكد مقال لوموند أن يالطا (مدينة بالقرم) حيث عقد الحلفاء أحد مؤتمراتهم، كانت جزءا لا يتجزأ من روسيا. ويستغرب صاحب المقال ذلك. ثم يزود القراء كون خروتشوف أراد أن يرمز الى الذكرى الثلاثمائة لبيعة الكوزاك (السكان الاصليون في اوكرانيا) لفائدة قيصر روسيا. كما يذكر أن زوجته كانت أوكرانية، وأن القرية حيث وُلدَ كانت على الحدود بين روسيا وأوكرانيا، وأنه ترعرع حزبيا وسياسيا في أوكرانيا. وبعد تنحيته وانتهاء عهد بودغورني القصير، تولى ليونيد بريجنيف الأوكراني السلطة على رأس الاتحاد السوفياتي، ولم يشتهر بين رؤساء الدولة السوفياتية الاشتراكية الفيدرالية من الروس سوى لينين. بحيث كان ستالين نفسه جيورجيّاً.
فقد سبق للاتحاد السوفياتي أن حظي فيه غير الروس برئاسة الدولة كما رأينا. ولأن الدستور السوفياتي كان ينص على حق انفصال الجمهوريات التي تكوّن الدولة أصبح تفكك سهلا في عهد غورباتشوف الروسي سنة 1991.
وفي المصادر الصحافية الالكترونية المعتمدة من طرف موسوعة ويكيبيديا، دخلت أوكرانيا نفسُها تحت سيادة روسيا القيصرية سنة 1654، عندما نستحضر تاريخنا الوطني تكون فترة انتهاء العهد السعدي في المغرب وانطلاق العهد العلوي. فقد بقيت أوكرانيا تحت السيادة الواحدة مع روسيا 337 سنة، أنهاها غورباتشوف 1991.
فلنزن موقف الروس من المسألة الأوكرانية بميزان حرصنا عن موروثنا الترابي الوطني الذي تشكّل عبر القرون، ثم نمضي إلى استشفاف ما قد يقع في المستقبل، بمعايير الصراع حول مناطق النفوذ ومصادر الطاقة.
صحيح، تتبدّل الظروف ومعها المعايير السياسية في القانون الدولي، لكن، أثرنا هذا الجانب التراثي المشترك بين الروس والاوكرانيين، حتى لا نستسهل مسببات الأزمة وأبعادها في صراع القوى من زاوية المصالح. قد تكون المسألة الأوكرانية لحظة عسيرة في ولادة نظام عالمي جديد يتشكل، ما بين الشرق (الصين/روسيا) والغرب (أوربا/أمريكا).
هناك أمرانِ قد يفسران سلوك أمريكا:
أمر داخلي، إعادة توحيد الشعور الوطني الامريكي بعد غزوة الكونغريس من طرف أنصار ترامب (6 يناير2021) والتي حفرت شرخا عميقا في المؤسسة السيادية الامريكية من الداخل. من هذه الناحية، خلق عدو خارجي مخيف تقنية ناجعة لردم الهوة داخل النفسية الامريكية.
وأمر خارجي، منع التكامل بين أنابيب البترول والغاز الروسي مع مشروع الحرير والطريق الصيني، تكامل جيوسياسي لتطويق الغرب اقتصاديّاً وطاقيّاً وتكنولوجيّاً (5G). وبالتالي هندسة مسلسل لأفول أكيد لقيادة أمريكا للعالم.
إذن، الأمران معا يمكنانِ أمريكا من الاستمرار في قيادة الغرب، بعد لجم فرنسا (قضية الغواصات لأوستراليا) ومنع ألمانيا من استكمال خط البترول الشمالي الذي يسهّل على روسيا ربح الصراع مع أوكرنيا، واستعادة تركيا إلى صلب السياسة العسكرية للحلف الاطلسي (بعد صفقة الصواريخ مع روسيا)، ثم اجتذاب إيران إلى الحياد عبر الاتفاق النووي، والاستفادة من منتوجها النفطي لتسهيل التضييق على روسيا.
قد يميل الاعتقاد في ربح أمريكا لرهانها الداخلي، لم الشمل الوطني. فهل تنجح في الرهان الخارجي، أم تصمد روسيا في برنامج “إعادة الاحترام”؟
إن فشل الغرب في قضية أوكرانيا، سيسهّل على الصين حسم أمر طايوان. هنا يطرح سؤال على بعض يساريينا، ألا يتعلق الأمر هنا فعلا بمبدأ “حق الشعوب في تقرير مصيرها”؟ أم بتشكيل نظام عالمي وفق موازين قوى جديدة؟ هل تنهزم روسيا بوتين في قضية أوكرانيا كما انهزمت أمام اليابان بداية القرن العشرين (1905)؟ هل نقترب من المأساة كما قال المستشار الألماني (=نحن في وضع خطير)؟ أم هي مهزلة عالمية؟
أحمد الخمسي