أحمد الخمسي في قلب الأوضاع(10):هل يلتقط الحزب الاشتراكي الموحد شروط القفزة النوعية؟
أحمد الخمسي
من ثمار الفكر السياسي الحديث نضج قاموس جدلي متحرك، يجسّد دينامية “التحليل الملموس للواقع الملموس”. وهو نفس القاموس الدي تفصله الحركات السياسية وتدقق أسئلته. أسئلة تؤرق كل الحركات السياسية التي تضطر تعميق خطها السياسي وتنتقل من إعادة البناء إلى إعادة التأسيس، في كل المجتمعات، بمختلف توجهاتها اليسارية واليمينية على السواء.
ففي بداية القرن العشرين طرح القائد الروسي فلاديمير إليتش أوليانوف (لينين) سؤال: “من نحن؟” من وجهة نظرية تقدمية يسارية مفتوحة. ونفس السؤال طرحه المفكر الأمريكي هتنغتون من وجهة نظر محافظة يمينية لإغلاق أمريكا في وجه التنوع الإثني واللغوي (الانجليزي/الاسباني)، في نهاية القرن العشرين.
وفي نفس السياق تم طرح سؤال: “ماذا نريد؟”. ثم بعده سؤال: “بِمَ نبدأ؟”..ثم سؤال: “من هم أصدقاء الشعب؟”، أي الحلفاء المحتملين؟
ولأن ترتيب البيت الحزبي في اليسار المغربي، بعد تجارب الانشقاق المتوالية في الأحزاب اليسارية المنبثقة عن الحركة الوطنية المغربية، اقتضى خلق الاحتضان الوحدوي لتعددية التيارات اليسارية التي لها نفس الأهداف باجتهادات متعددة، جاءت تجربة التيارات داخل نفس الحزب منصوص عليها في القانون الأساسي، والقانون التنظيمي.
وقد أقرّ الحزب الاشتراكي الموحّد، خلال مؤتمراته المتوالية، المزاوجة بين التحالف مع الأحزاب الشقيقة من خارجه، وبين الاشتغال بالتيارات الفرعية من داخله. ولأن التأثير المجتمعي الأوسع لا ينفكّ يؤثّر في المسار الحزبي الداخلي، فقد عرفت تجربة التيارات وجها مشرقا لمّت بعض الشّمل، كما عرفت التيارات حالة التفاف على ميكانيزم التيارات تعلّة للانشقاق الأخير قبيل الانتخابات سنة 2021.
ولتفسير التجاذب بين الوجهين الايجابي والسلبي للاشتغال بالتيارات، يقتضي هذا التجاذب بين الوجهين استحضار مخلفات الحركة الوطنية التي اشتغلت بميكانيزم الزعامات الفردية على الطريقة القبلية الشفوية التجييشية، بينما انطلق الاشتغال بالتيارات بميكانيزم الأرضيات المكتوبة. والموقف المكتوب موقف مسؤول يحمل معه وفي طياته وسيلة الإثبات سواء له أو عليه.
أما السبب المباشر لتسرب التأثير الزعاماتي الفرداني داخل العمل بالتيارات، فهو الإعداد الفردي لأرضية التيار المسمى سابقا ب”تيار الأغلبية” والذي بقي يخفي من خلال هذا الاشتغال الفردي في صياغة أرضية “تيار الأغلبية” هدفية “مركزية الأفراد الزعماء”. وقد أنتجت هذه الهدفية الزعاماتية المتخفية ميكانيزم “التجميع” وليس “التوحيد”. وبقي العمل بالتيارات لدى البعض شكليا يخفي محيطاً جاهزاً “للتجييش” وراء أفراد “زعماء”.
ظهر من تجربة التخفي وراء قناع التيارات إفراز أغلبية مفكّكة، تفكّكت فعلا قبيل المؤتمر الرابع وخلاله وبعده وانتهى أمر الأغلبية بالانسحاب من داخل الحزب ومن داخل الأغلبية المفكّكة. بينما استمر تيارا الأقلية في الحزب.
ماذا نستخلص من هذا المسار المزدوج: أغلبية مفكّكة منسحب جزء منها من الحزب أصلا، وأقلية منتظمة في التيارات ومستمرة في صفوف الحزب؟
أولا: لا يكفي أن يجتمع أفراد زعماء حول أرضية ما، للتخفي وراء قناع تيار “واحد”، لكي ينتجوا الوحدة الصلبة للحزب. بل يبقى التجميع استراتيجية ثابتة والوحدة مجرد مجاراة ومصاحبة لواقع التجميع الفعلي.
ثانيا: استمرار تياريْ الأقلية داخل الحزب يكشف سلامة الاشتغال بمبدأ التيارات. وحدّة الاختلاف التكتيكي لا تعني هشاشة الانتماء الحزبي، بل تؤكد الحرص والاحتراز.
ثالثا: ليست هنا قضية المفاضلة في جودة “الزعماء” كأشخاص، فالاحترام موصول للجميع، بل نستحضر العقلية الكامنة: هل استطعنا اكتساب عقلية يسارية مواطِنة مساواتية بالمعايير العالمية، أم وجدنا أنفسنا نعيد تجميع زعماء يعتقدون أن وراءهم مريدين جاهزين للتجييش؟ فالتيارات نافعة مع منطق التنوع داخل الوحدة الفعلية والاستراتيجية. والتيارات ككل الظواهر قابلة للاستغلال كميكانيزم للتخفي وراء ما قبل الاندماج الفعلي، أي لإخفاء نية البقاء في حالة تجميع لا أكثر. وبدل ترسيخ التوحيد الموجود تحت اليد، نستمر في مستوى التجميع لا أكثر، في مسلسل هش ومزمن. وهو ما يهدر فعلا الزمن السياسي.
رابعا: الحرص على التجميع من باب الاحتراز وترك خط الرجعة الى تجميع آخر في مكان آخر، بدل الانخراط الفعلي في التوحيد العضوي داخل نفس الحزب، يفرز صورة وهمية في الأدمغة عن توازن ما (؟) بين “أغلبية” ما(؟) و”أقلية” ما(؟). في حين تكشف السيرورة صيرورة عجز الأغلبية التي أفرزتها ثنائية التجميع والتجييش، عن حل أبسط الخلافات بين أطراف الأغلبية التجميعية. أي أننا مع كل خلاف داخل الأغلبية كنا نجد أنفسنا أمام حقيقة التفكك المتفاقم .
خامسا: عودة زعماء التجميع، كلٌّ إلى غايته، كما غنّت أم كلثوم، ليست لأن الحظ شاء، بل لأن البناء الحزبي كان في الضمائر الزعاماتية ذاهب ليصبح مجرد أطلال. لحسن الحظ، أن تياريْ الأقلية حفظوا الحزب من التحول إلى أطلال.
أما الخلاصة العامة في هذه الهندسة الخلدونية المغلقة للعمل الحزبي، فتكمن في بداية العمل الحزبي.
إن مركزية الجاذبية التقليدية، تفرز ما عبّر عنه عبد الله حمودي بصيغة الثنائية: الشيخ والمريد. وهي المنظومة التقليدية التي اشتغلت بها الحركة الوطنية، نسخة متجددة من المجتمع المغربي التقليدي المغلق. هذه المنظومة الثنائية المغلقة، انطلقت مع التنافس الزعاماتي الأصلي الأول ما قبل العمل بالحزب، في مرحلة النضال الوطني التحرري في عهد الحماية الاستعمارية ما بين رأسيْ الحركة الزعيم علال الفاسي والزعيم محمد بلحسن الوزاني. فقد انطلقت الحركة الوطنية بأولووية الزعيم على التنظيم. ومن بعد، شكل كل واحد من الزعيمين “حزبه” الخاص به.
و الحزب مؤسسة وأداة من أدوات الحياة السياسية الغربية في النظام السياسي الحديث. وقد مارس زعماء الحركة الوطنية السياسة بلغة حديثة ومضمون تقليدي. وانتصار حزب الاستقلال على حزب الشورى والاستقلال يجسد غلبة المضمون التقليدي للزعيم. والدمج الهجين ما بين شكلانية التنظيم الحداثي وتقليدانية مضمون تبعية الرعايا للزعيم، هي التي أفرزت الدمج ما بين نفوذ قدوة الزعيم وبين خلوده على رأس التنظيم الحزبي. ماذا ينتج عن التطابق بين القدوة والخلود؟ بين الزعيم والتنظيم؟ مباشرة تتحول العلاقة الزمنية إلى علاقة دينية. فيتحول زعيم الحزب إلى شيخ الطريقة. ويتحول العضو المواطن إلى مريد، يعيد إنتاج الخلية الأولى لمجتمع الرعايا. فتنمحي داخل المجتمع بذور السيادة الشعبية التي تمثل الحقل الخصب للديمقراطية.
البديل في المجتمع الديمقراطي، هو الفرز الذي يميّز بين مستوى الزعيم كقدوة حزبية وبين مستوى الزعيم كمدرسة سياسية مشعة على المجتمع بكامله، وشمعة مضيئة نموذجية للنخب يقتفون أثرها ويتعلمون كيف يمثلون الشعب.
إن السياسة “حرفة” وفق الاتجاه الرأسمالي الربحي الاستثماري في علم الاجتماع السياسي الأوربي (ماكس ويبير). وعندما اتجهت الحركة الوطنية المغربية في بدايتها الى النضال السياسي الحزبي، تبنى زعماؤها هذا الاتجاه الاستثماري. طبعا بخلفية وطنية، لكن بطموح برجوازي. فجعل الزعماءُ الأحزابَ بهيئاتها وأجهزتها، أدوات قانونية لخدمة مواقفهم الشخصية الزعاماتية.
ولأن المغاربة وجدوا في مقدمتهم هذه النوعية من القيادة الحزبية التي تستبدل الوصاية الاستعمارية بعمل وطني تحرري أكيد، لم ينتبهوا الى هذا المحتوى الهيمني للزعماء. ولما انتبه الاتحاد الوطني للصبغة البرجوازية للحزب الأصل، انفصل.
لم يعالج قادة المغرب الحزبيين هذا العطب الكامن منذ التأسيس ، فأصبح التناقض مزمنا بين البرنامج السياسي كصيغة حديثة في السياسة، وبين قطبية وديمومة القائد كصيغة تنظيمية قديمة في المجتمع المحافظ المغلق.
ومع الأسف، لم ينتبه القادة، إلا استثناء، للعرقلة التي تسببها ديمومة القيادة. وانتقلت هذه الظاهرة التنظيمية المعرقلة من الأحزاب إلى النقابات، بل وبعض الجمعيات. وأساءت إلى السياسة على مستوى البرنامج والعلاقات الداخلية. وأصبح دور المؤتمرات في تجديد النخب منعدما. بل فلكلوريا. ولأن الهيمنة على القيادة أصبح قاعدة عامة في التنظيم، فقد استغنى القادة عن التكوين السياسي. وأصبحوا في محتويات برامجهم السياسية، يتشابهون في الخطاب المكرور والمنسوخ. حتى ثبتت ظاهرة تشابه البرامج الانتخابية. وأصبح الفارق بين الموالاة والمعارضة مجرد رنة صوتية. يكاد الحد الفاصل بين من في الحكومة ومن في المعارضة تتلخص في من يقول “اللهم آمين” وبين من يقول “اللهم هذا منكر”. من باب تبرير الموقع: في الحكومة أو في المعارضة.
إن مشكل الصراع داخل الأحزاب قليلا ما يجري حول الأفكار وبرامج العمل. بل يتلخص في الصراع حول المواقع القيادية لا أكثر.
نقطة الحسم في القفزة التي سينجزها الحزب الاشتراكي الموحد، هو الاستمرار في خلق ماكينة تصنع الحدث. بعدما أعطى الدليل على التوفر على القيادات صناع الحدث. وهذا لا يعني التنكر للأفراد صناع الحدث، بل إعادة ترتيب مواقعهم كسند راسخ للقيادات الجديدة. فالغرب الرأسمالي منتصر بميكانيزماته التي تستجيب لقوانين الطبيعة البيولوجية للبشر. وهي التي تجعل القائد مهما كان مبدعا يأمل الجمهور في رؤية من يخلفه بنفس النجاعة. ليتأكد الناس أن الحزب يملك مشروعا مجتمعيا متكاملا وليس الحزب فقط قائد عظيم ومن حوله يملأ التفهاء الكراسي.
سرّ التنظيم الحزبي الذي ينتظر المغاربة انبثاقه ذاك الذي يهندس تكافؤ فرص التمكين وتحسّن كفاءة مناضلاته ومناضليه. والحزب الطامح إلى الاستجابة لحلم المغاربة ليس قدره استنساخ تجارب المشرق الفاشلة التي يخلد القادة في مقاعدهم حتى يموتون.
أما الاستفادة من خبرة قادة الحزب اللامعين، فلا تتوقف على موقعهم من داخل أجهزة القيادة. علما أن مكوث القادة اللامعين السابقين في موقع القيادة، يُحدِثُ ما يُعرَف بأثر الظل. فلا يتمثل الجيل الذي نضج لدور القيادة بكامل إبداعه وطاقته القيادية. وتجارب الغرب تؤكد هذا التداول بالقطع في المواقع والاستمرارية عبر الاستشارة من خارج الهيآت القيادية الرسمية. كما أن التمكين الإرادوي المبالغ فيه يُحدث انحدار في جودة القيادة.