وجهة نظر

أحمد الخمسي في قلب الأوضاع(11):الروس والأوكران: عالقون في فخ التاريخ المشترك أم في براثين مصالح الغرب المختلفة؟

لماذا كل هذا البعد الترابي في نزاع بين دولتين مستقلتين، يصل حد تحريك الترسانة النووية؟ هل هي مجرد حماقة رئيس؟ أم هي قضية نازيين جددا في المقابل؟ أم هي جُمَاع السياسة العالمية للغرب؟ أم تموقع روسي يتأسس ضمن نظام عالمي يولد؟

***

منذ فقط خمسة قرون، اتسعت مساحة روسيا القيصرية، من مساحة تساوي مساحة فرنسا (560 ألف كلم2) خلال القرن 15، ثم تضاعفت وتضخمت مساحتها (خلال مائة عام فقط) 15 مرة، فأصبحت مساحتها خلال القرن 16، تقريبا 9 مليون كلم2. فأصبح روسيا القيصرية بحجم الضخامة الترابية مثل الهند والصين اللتين تملكان ثلاثة آلاف عام من الماضي الزمني.

عندما توسع جيش القيصر الروسي بهذه الضخامة الترابية، خلال القرون الخمسة الأخيرة، لم ينتصر كثيرا على الأمم المجاورة بمعارك شهيرة في التاريخ. بل واجه الطبيعة القاسية التي لا تكاد درجة الحرارة فيها تتجاوز الصفر أغلب شهور السنة. أي اتسع في سيبيريا الغربية والشرقية.

ولأن علوم الأرض والحياة لم تكن بعد قد اكتشفت النفط، لم تنافسه لا الصين ولا أية أمة أخرى في السيطرة المضنية على مناطق شاسعة مجمدة التربة يعلوها الثلج وغير قابلة للاستثمار الزراعي، وقد كان الاقتصاد يعتمد على الصوف والقطن والأرز والقمح والزيوت والشمع والملح والتمر.

وخلال القرن 19، فقط صارت روسيا تتنازع النفوذ مع أنجلترا على أفغانستان وإيران، كما صارت تنازع الخلافة العثمانية السيطرة على البحر الأسود وأوربا الشرقية والبلقان.

كان النزاع الروسي مع انجلترا جيوستراتيجي للوصول الى الخليج وبحر العرب غرب الهند، وكان الصراع مع العثمانيين الترك جيوستراتيجي مضاف إليه الوصاية الدينية على الشعوب المسيحية الأورثوذوكسية في البلقان.

كانت مساحتها خلال القرن 19، قد فاقت مساحة قارتين كاملتين (أوربا واستراليا) مجتمعتين بما يعادل 22 مليون كلم2. وهو ما يساوي اليوم مساحة أكبر ثلاث دول كبرى من حيث التراب الوطني: الصين وأمريكا والهند.

لم تتسع روسيا بمبادرات القياصرة (المؤرخ تيخوميروف 1885)، بل بهجومات وحملات قبائل الكوزاك (سكان أوكرانيا الأصليين)، كانتقام تاريخي من غزو التتر والمغول الذي أخضعوا روسيا لسيطرتهم في التوقيت الذي سيطروا فيه على بغداد (ق 13).

كان الروس خلال ثلثي القرن 19 أسياد الألسكا والساحل الغربي الأمريكي على المحيط الهادي. بل منع الروس الانجليز والأمريكيين من اجتياز مضيق بيرين إلى سنة 1867. إلى أن تم الاتفاق على بيع منطقة ألاسكا لفائدة الولايات المتحدة في السنة المذكورة. وذلك، تبعا لاستراتيجيا مزدوجة: روسيا تربح المال لتحصين الأمبراطورية في أورآسيا، والولايات المتحدة تتبع سياسة أمريكا للأمريكيين (مونرو).

بعد سقوط الاتحاد السوفياتي (1991)، اتجهت الولايات المتحدة إلى إضعاف روسيا التاريخية، أي روسيا الأكبر في العالم ترابيا.

***

خلال الأيام الأخيرة من فبراير 2022، بثت قناة روسيا اليوم شريطا وثائقيا حيث يتحدث كبار الموظفين والمسؤوليين عن تفكيك البنية الاشتراكية لروسيا الاتحاديين. ويذكر هؤلاء، أن الطمع الغربي في بقايا الاشتراكية في روسيا اتخذت فيه الولايات المتحدة الأمريكية دور الأسد، الذي هدفه هزم العدو، بينما اشتغل الأوربيين على طريقة الضباع الذين ينتهزون لحظة ما تبقى من الفريسة. ويعترف الروس، أن الأمريكيين هم الذين ساعدوا النومانكلتورة (النخبة السوفياتية) على اكتساب مهارة الاستثمار على الطريقة الرأسمالية، أما الأوربيين، فلم ينفذوا وعودهم لنقل التكنولوجيا والأساليب الحديثة على الصعيد المالي، منتظرين شيوع صراع طبقي حاد في روسيا في انتظار حروب أهلية وانقسام ترابي وسكاني لرسيا التاريخية.

ولأن قناة روسيا اليوم تنطق بلسان الرئيس بوتين ومن معه من النخب الروسية الحاكمة، تعتبر منظمة الحلف الأطلسي، وراء الاضطهاد العرقي للروس في اقاليم أوكرانيا لتأجيج القوميات الأخرى داخل الاتحاد الروسي وللعودة لتفكيك روسيا التاريخية بعد مرحلة تفكيك موروث الاتحاد السوفياتي.

وتعتبر روسيا اليوم أن الخطأ الاستراتيجي القاتل لروسيا التاريخية هو إقرار البلاشفة حق الانفصال للشعوب التي تختلف لغة ودينا عن الروس. وهو الذي اعتمدت عليه الجمهوريات المنفصلة سنة 1991. مما ترك ميثاق “اتحاد الدول المستقلة” المبرم في عهد غورباتشوف حبرا على ورق، وهو الاتفاق الذي كان يحذر من تقدم الحلف الاطلسي من حدود روسيا.

***

عودة روسيا اليوم الى الحرص على عدم قبول حلف الأُوُطـَانْ على حدودها، ليست مجرد نوستالجيا إلى روسيا التاريخية، ولا يمكن أن تفسّرها فقط تهمةالنازيين الجدد، ولا يمكن الاستناد فقط إلى التخوف من احتمال التطهير العرقي ضد روس أوكرانياعلى شاكلة مسلمي صربيا. فتداخل المجموعات الاثنية اليوم إرثٌ من الماضي. والماضي لا يفسّره من كان مغلوبا كتفسير من كان غالبا.إذ يختلف المعنيون به في تفسيره وفي تكييف مسؤولية ما حدث، وتوزيعها بين الأطراف حسب المصلحة المستقبلية. فكل من الروس والأوكران عالق في فخ التاريخ المشترك على طريقته، خصوصا عندما يريدون الإفلات منه، كل في اتجاه معاكس وليس فقط مختلفا.

مثلا: تنتشر اللغة الروسية فيما يزيد عن 40 في المائة من التراب الاوكراني داخل 11 اقليما من بين 25 اقليما اوكرانيا. وقد يعتبر الأوكرانيون هذا الإرث حمل ثقيل عليهم. كون نخبة الشعب الروسي الغالب في النظام السابق نشرت بينهم من رأتهم مؤهلين لموالاتها (الروس أو الناطقين بالروسية) مسبقا، وزرعتهم بين الشعوب الأخرى، كمعمّرين، لكبح أي موقف للتحرر الوطني من الوحدة المفروضة باسم التاريخ المشترك.

من جانبهم، قد يقدّم الروس حججهم الدامغة، خصوصا في الفترة السوفياتية. إذ، حكم الاتحاد السوفياتي، رؤساء غير روس. أولهم ستالين الجيورجي، وثانيهم خروتشوف الأوكراني بالتنشئة الاجتماعية والسياسية والنزوع، وثالثهم بريجنيف الأوكراني هوية ميلادا وتنشئة. ومجموع السنوات التي ظل هؤلاء الثلاثة على رأس الدولة نصف قرن (50 عاما) من أصل ثلاثة أرباع قرن (74 عاما). بحيث حكم الجيورجيون 29 عاما، بينما حكم الأوكرانيون 27 عاما في حين حكم الروس 7 سنوات التأسيس (لينين) ومثلها في فترة الانهيار، أي 18 عاما موزعة على أربعة رؤساء: لينين، أندروبوف، تشيرنينكو، غورباتشوف.

كما يمكن للروس البرهنة على كون توزع الروس بين الأوكران كانت تقابله منح أوكرانيا أراضي روسية، مثل حالة شبه جزيرة القرم سنة 1954.

ومهما كانت “السيادة الشعبية” متداخلة في الماضي فسيادة الدولة اليوم لم تعد موحدة.

نعم، الروس والأوكران عالقون في فخ التاريخ المشترك كُلّ على طريقته. لكن، أليست للغرب مسؤولية في فتح كهف التاريخ ليخرج بعبع الذاكرة لدى الأمتين؟ علما أن ذكر الأمتين يتباذر إلى الذهن مفهوم الأمة البسيطة الواحدة اللغة والدين والإثنية، وبين الأمة المركبة.

وحدها العقلانية الصينية التي أبدعت توليفة تركيبية “دولة ونظامين”. ويظهر أن الغرب الذي استغل امتلاك أمريكا وحدها للسلاح النووي، سنة 1945، فأخضع الأمبراطورية اليابانية لنظام الديمقراطية التمثيلية بحزبين، أعطى لروسيا سابقة التهديد بالسلاح باستعمال السلاح النووي لحل نزاعها مع أوكرانيا بنفس الأسلوب.

ولما صرح مستشار ألمانيا بعد قمته مع بوتين “إننا في وضعية خطيرة”، يكون قد علم من بوتين بتحليل من هذا النوع من المقارنة بين السابقة الأمريكية وبين حق روسيا في السير على الطريق الامريكي باستعمال النووي والبادئ أظلم كما تقول العرب. أما أن تكون روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي قد خسرت أقاليم كانت تحت سيادتها في العهد القيصري، مقابل توحيد ألمانيا لشطريها، فالغرب مبدع الدولة/الأمة يعلم أن روسيا لم تزغ عمّ ابتدعته التجارب الغربية منذ القرن 17. خصوصا والولايات المتحدة نفسها قاومت الانفصال خلال القرن 19، بحرب قاسية.

ليس الروس والاوكران وحدهم العالقون في نزاعهم الثنائي، بل نحن جميعا عالقون في نظام رأسمالي غربي توسعي، يعتمد تعلّة إنتاج الثروة، مستغلا فشل تجربة روسيا في تجربة إعادة التوزيع العادل للثروة، ليهجم على مناطق العالم مستغلا تعلة الديمقراطية التي اغتالها في المهد يوما برمزية 11 سبتمبر، ذات 1973، عندما نصّب الدكتاتور بينوشي ضدا على نتائج الانتخابات التي أعطت الفوز لرئيس اشتراكي في الشيلي. انتقمت الشيلي لنفسها، لتنصب رسميا رئيسا اشتراكيا يوم 11 مارس الحالي، عن سنّ لا تزيد عن 36 سنة بحكومة منصفة لنساء الشيلي.

أحمد الخمسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى