ذ/عبدالواحد حمزة:نقض أسس ممارسة سياسية “كائنة” لاستنهاض قوى تغيير “كامنة”
ذ/عبدالواحد حمزة
الأجدر ب“قوى اليسار“أن تولي الاهتمامبشكل خاص إلى الأسس المعرفية والتاريخية للفعلالنضالي بشتى ألوانه، مداخله ومحاوره وموضوعاته الأساسية ، وهو ما دفعنا إلى اختيار موضوع مشترك أساس لها، حتى يتم اللجوء بهذا الشكل أو بآخر وبهذه الدرجة أو بأخرى، وبهذه الأرثوذكسية أو هذا “المروق” أو ذاك إلى الماركسية الخلاقة.
وإذا كان مشروع اليسار البديل يندرج ضمن المشروع اليسار العام واستشراف القطائع واحتمال وجهة النضالات المقبلة، فهم المناضلين ليس عمليا بحثا، وإنما هو أيضا وبالضرورة فكري معرفي وثقافي تنويري، إذ لا ممارسة سياسية للتغيير دون بوصلة نظرية لذلك.
ولهذا فمن الأولى الاهتمام النقدي بما جدّ في “الامتدادات المعاصرة للتحليل الماركسي- الطبقي”، بالرغم مما تكتسي البنية الاجتماعية المغربيةوسلوكات الفاعلين في البلدان المتأخرة – المتخلفة اقتصادياوفكريا-عموما- منتميزوهجانة،معضرورة التوظيف المنهجي– النقديلأدوات الصراع الاجتماعيوالاحتجاج- المكفولة-دستوريا. وفيهذاالبابيقترح اليسار المناضلومثقفيه موضوعة مركبة، لها أبوابها وتيماتها.
غير أن القراءة السريعة لكل تلك الروافد تعطي انطباعا عن تأخر تاريخي في ممارسة اليسار المغربي، يضر بعقليته وثقافته وقيمه في العمق، وسيتجلى في ضعف التخصيب والتبني لزخم حراكي شعبي يقوي عود الاستراتيجية الديمقراطية التقدمية في المغرب، في مواجهة استراتيجية الهيمنة الشاملة لدولة المخزن على كل حقول المجتمع وذلك فيتسْييدهالقيم التقليد والمحافظة والزبونية والفساد. والحال أن “الجدود المسيجة” للوطنية والعقلية المغربية تطول على السواء الدولية والانتلنجيسيا (صلحيوي 2022)، وهو ما يعطي فكرة عن قصور اليسار المغربي في فهمه وتمثله واعتباره لإيجابية الحدث أو الفعل الجماعي التاريخي وفي تمثل الحقيقة الموضوعية في الصيرورة التاريخية وكذا في التردد لجدوى الانخراط العملي وسبر الأحداث والتعامل معها في تسلسلها المنطقي والتاريخي، وكذا مدى الجدية في تحمل مسؤولية الأفراد والجماعات في ذلك؛ أحداث وصيرورات من عيار “حركة 20 فبراير 2011” أو “حركة الريف” ابتداء من 2017، وكذا باقي الحراكات الاجتماعية والشعبية في المدن والقرى والجهات والمناطق المغربية.
وهو ما جعلنا نعمل على فرضية يسار كامن متمفصل مع بعض القوى اليسارية الكائنة في مغرب اليوم من أجل “وحدة شعبية – قاعدية” و”مواطنة مغربية متجددة” تؤسس ليسار مواطن – بديل ومناضل، يستحضر الكوكب في نضاله المحلي والمنخرط ضمن يسار عالمي جديد يشق الطريق نحو اشتراكية القرن 21 « Golocal ».
لقد اعْتُبر الحراك الشعبي بالريف على وجه الخصوص فرصة تاريخية للمغرب لتجديد العتاد الذهني الضارب في العقلية المركزية ويدعو لتحويلها الخصب إلى عقلية وطنية جامعة، مما يدعو لمعالجة ما يجب تغييره داخل النسق السياسي المغربي لتوجيه الممارسة السياسية لمصالحة المغاربة مع تاريخهم المشترك (صلحيوي محمد 2022).
التحليلالنيو- ماركسي النقدي أداة الممارسة السياسية “الآن وهنا”
فضلا عن أهمية التركيز على الكتابات الأقلدوغمائية واختزالية واقتصادوية كما نجدها في الستالينية وامتداداتها عند بعض مكونات اليسار في المغرب، كما نجدها في تجربة ماو تسيتونغ “ما بعد الثورة”. والحال أن كتابات أكثر انفتاحا وإبداعا وشمولا نجدها عند ماركس كارل الشاب (1848)،وكذا عند روزا لوكسمبورغ وتروتسكيولوكاشوغرامشي…، وغيرهم. كما نجدها عند باحثين ماركسيين معاصرين كوليام رايخوهنري لوفيفروإرنست بلوك، وآخرين.
من الممكن طبعا أن ندققونميز فيما أسماه ريمون بودونب“قانون التوكفيلية”– في دراساته لعلاقة الحرمان باندلاع الثورات والاحتجاجات (أنظر كارل ماركس ودوتوكفيل…(، مستلهماً فكرة ذكية لماركس الشاب في كُتيّبه “العمل المأجور ورأس المال”، حيث لا يبدو الإفقار مصدراً حتميا لعدم الرضى وللوعي الطبقي، ليوشي بأن “وضع عدم الرضى والحرمان” الذي يمكن أن يؤدي إلى الاحتجاج والثورة، هو بدوره وضع اجتماعي ونسبي وليس وظيفي، بل وقد لا يزيد تأزم الوضع إلا إجحافا لشروط التغيير وتحسيناً للظروف المادية والمعنوية للمتضررين.
لم يعمل دوتوكفيل إلا على تعزيز هذا الخيط الماركسي الرفيع الذي نجده في كراسات ماركس الأولى، وليستنتج أن الثورات كثيرا ما تندرع حينما تخف وطأة المعاناة، ليجعل من هذه الملاحظة المكرورة قانوناً، أصبح يعرف اليوم في العلوم الاجتماعية، مع بودونرايمون بـ”قانون التوكفيلية”، وهي آلية لها ما يكفي من الصحة لدراسة الإحباط النسبي وأثره على سلوك الفاعلين، مقارنة مع وضع فاعلين ومجموعات أخرى، أكثر ترفاً أو أقل معاناة، الخ. هكذا يتم بموجب كذا قانون تحرير المجتمع سياسيا، مما سيسمح بظهور تعبيرات عن السخط والمعارضة.
والحال أن إشكالية ماركس كارل الأصلية ظلت مفتوحة (أنظر لوسيان سيف في كتابه الصادر أخيرا والمترجم بالفرنسية بعنوان “انبثاق وتعقيد وجدلية(…)”، حيث عادت للراهنية مفاهيم من عيار “الإضراب الجماهيري” و”عفوية الجماهير”، الخ. وهو ما سيمسح بإطلاق وإثراء الفكر النقدي الحر الممانع في العالم أجمع وفي المغرب. وقد سبق لهنري لوفيفر أن قدم تفسيراً خلاقاً لمايو 1986 في كتابه “انفجار مدينة نونتار الفرنسية عند القمة”، وكذا ما أصدرته من توليف لرؤى نقدية متعددة في الغرب وآسيا (الهند) وأمريكا اللاتينية (الشيلي نموذج النيوليبرالية المتوحشة)، دار النشر أكتوال ماركس (1987، 2006…)، ليأتي كتاب “صراعات طبقية جديدة” (2009)، ليعيد استلهام ماركس كارل في محاولة متدخّليه لفك شفرات الحركات الاجتماعية الجهوية و”المناطقية” المعاصرة.
ذلك أن “المطالب المادية” لا تبدو في بلد كالمغرب قد فسحت نهائيا المجال لتربع “المطالب اللامادية” عرش/ لافتات المطالب والاحتجاجات العمالية والشعبية. ولكن على ما يبدو، فقد انضافت الثانية للأولى وتوالفت معها بشكل تركيبي. ذلك لأن “الحقبة الصناعية الوطنية” التي كادت أن تبدأ على الأكثر مطلع الاستقلال السياسي لبلادنا، مع حكومة عبد الله إبراهيم (1958-1960)، وإثر الفوران الذي ألهبه ارتفاع ثمن الفوسفاط عالميا في السبعينات (1974-177).
ذلك سيسمح بأوج الانخراط في الحركة العمالية الطبقية المغربية، لم يلبث أن اندرج رأساً في حقبة “بعد صناعية” والتي لم تكن إلا “تكوراً صناعياً” نحو الخلف، لينتهي الحديث عن “المخططات التنمية الوطنية” ويُفتح المجال للسياسات القطاعية، والصناعية منها، دون خطة ماكرواقتصادية سياسية مندمجة وناجعة.
وهو ما يحيل إلى دراسة أدق لأطوار وطبائع الدول، فنكون إما أمام دولة قوية ومستبدة وأخرى ديمقراطية هجينة وأخرى ديمقراطية حقة، إلخ)، في ارتباط بإشكالية حقوق الإنسان،لنجدجذورتلك “الخيبات” في الهوة السحيقة بين الهياكل الاجتماعية، مثلما يستبطنُها الفاعلون،أي في التطلعات المنشأة اجتماعيا، من جهة والهياكل الاجتماعية الخارجية، من جهة أخرى) بورديو بيير في كتابه معاودة الإنتاج (1979)،وهو ما قد يدفع الفاعلينإلىالعداء نحو جميع المؤسسات، من جهة أخرى.
كما يجدر بالدرس التحليلاتالمبتكرة لكل من لوسيان سيف وجاك تيكسي وأندرسون بيري، من الماركسيين المعاصرين في المركز الرأسمالي– الإمبريالي،وكذا في المحيطات من أمثال سمير أمين وغندر فرانكوآلانليبيتزوروبير بويير، وآخرون، ممن سلطوا أضواء جديدة على ما اعتبروه “صراعات وتناقضات وأزمات صغيرة وكبيرة، طبقية جديدة” (انظر كتاب لوجكينجان – بيير كور-سالييس وآخرون 2009) في العالم. ويمكن أن تفسر حركات بوديموس في إسبانيا وسيريزا في اليونان وحركة السترات الصفراءفي فرنسا وقافلات الحرية في كندا وأوروبا، أولا بأول، وكذا حركات الريف وجرادة وغيرها في المغرب انطلاقا مما استجد في التحليل الماركسي الخلاّق.
ويمكن إعادة قراءة الأعمال النظرية والتاريخية التي عالجتها روزا لوكسمبورغ في كتابها “الإضراب الجماهيري والحزب السياسي والنقابات (1906)” أو في مقالين مشهورين لها جرى جمعهما في كتاب “الإضراب الفجائي وعفوية الجماهير (1902 و1913)”؛ الخ أو كما جاء في كتاب هنري لوفيفر “انفجار نونتار عند القمة” من تفسير مبتكر لأحداث مايو 1968، الخ، وكذا تلك المقالات والدراسات التي عالجت “حركة 20 فبراير(2011) في المغرب وباقي تمظهراتما يعرف “بالربيع العربي-الديمقراطي”(…)، إلى اليوم. وكذا كل ما كُتب عن “النضالات من أجل الاعتراف ولترسيخ “الهوية الجماعية” للأفراد والمجموعات والشعوب، بأكملها (انظر كتابات بورديو الأولى حول الجزائر وكذا بروبا كير 2001 وتيللي 2005 وتايلور 1992…).
نفس الاهتمام يجب أن ينصب عن “الاعتصامات” و”التمردات” و”الانتفاضات” و”الأزمات” و”الانتقالات” من طور إلى آخر ومن نظام إلى آخر. كما تجب الإشارة إلى “الحركات المضادة”، كحركة الشباب الملكي في المغرب وماشابهها في باقي أصقاع البلدان العربية – الإسلامية والعالم –ثالثية، عموما، وتلك التي اخذت مكانا مشبوها لها داخل النسق السياسي الرسمي (…).ومما لا شك فيه أن كل تلك الحركات قد تعرف نجاحات نسبية أو محدودة في الزمكان، بالقدر الذي تعرف فيه إخفاقات أو تراكمات للمواعيد الموءودة (…).
والحال أن الحراكات الاجتماعية الشعبية والفئوية طرحت أسئلة جديدة. إنها أبانت في جميع الحالات، والأوقات، في الريف وجرادة وقلها في سيدي إفني وغيرها عن ميول مدني سلمي حيوي مرتاب من سلطة “الدولة – المخزن”، أكثر مما دعت إلى استقلال بيّنٍ عن هذه السلطة المركزية، وهو ما قد يتيح طريقا نحو تحولات ثقافية في الذاكرة الجمعية المغربية (الجهوية المتقدمة، “المناطقية”، المجالية، الخ). وقد تتضمن هذه الحركات الاجتماعية / الشعبية، ما مرّ، أبعادا “تجاوزية”، تجرها إليها قوى ثالثة مضادة أكثر مما هي من صميم نفسها، كحركات اجتماعية تراكم التجربة والخبرة.
يلاحظ أن نخب التغيير ببلادنا تعيش اليوم انحسارا على مستوى العقلية/ المخيال الجماعي، وهوما يعيق استشراف نضاليتها في أفق وطني – ديمقراطي – مواطن، حيث “الوطنية الجديدة” ذات عقلية وحمولة ثقافية وسياسية جامعة ومتفتحة ممتدة في الزمن المغربي التاريخي الطويل. وذلك ما جعل المناضلينوالبحاث في الحركات الاجتماعية بالمغرب أمام سؤال تجديد الخطاب السياسي أو تجديد أسس الممارسة السياسية برمتها.
فإلى أي حد يمكن اعتبار هذه “النشاطية” (هاكتفيزم)، تعبيرا إيجابيا عن رغبة الشباب المتعلم – أو دونه بقليل – في المناطق المهمشة من بلادنا في المساهمة/ المشاركة الفعلية في صنع القرار السياسي، وكذا التطلع الطبيعي والمشروع وتحقيق قيم عصرية “ما بعد مادية”، وكذا للإجابة العادية عن احتياجات نفسية اجتماعية من صميم مطالب “الإنسان الفرد”، قيد التشكل في بلادنا؟
كيف للديمقراطية التمثيلية والتشاركية ببلادنا أن تكون قريبة بالفعل وراسخة – لا بالخطاب والنصوص فقط – من حاجيات “الأفراد الملموسين”، أي المتطلعين “للمواطنة الكاملة والمتجددة”، مما أسماه آلان تورين بـ”الذوات الفاعلة”، فيما أصبح يدعو إليه أبناؤه نفسه، أمام انحسار الفعل الجماعي في الغرب، في “حقبة ما بعد الفعل الجماعي”؟
ألا يصطدم مشروع اليسار البديل في المغرب بما هو عليه اليوم من صيرورة/ أو انحسار الفعل الجماعي – الفئوي والمجالي في الجهات والمدن والمنطق من تفتيت أو تنوع، من تعدد أو تذرير لا نهائي للمجموعات المطلبية الشعبية، الغيورة على تميز قضايا وفعلها “النرجسي الخاص”؟
ألا تعبر كل “تلك الأنشطة المطلبية عن ضعف أو لا جدوى العمل من داخل المؤسسات الرسمية والهياكل القديمة القائمة – أحزابا إدارية كانت أو النقابات الصفراء (…)، على الخصوص، وعلى فراغ هيكلي اجتماعي أو قبلي إثني– “مناطقي” – مجالي؟
فما هي الرافعات – المداخل لتجديد الفعل التعبوي – السياسي – اليساري المناضل لموجهة التحديات (انظر مقالا تركيبيا لنا حول أسس ومداخل اليسار البديل في المغرب 2022)، وما هي الكيفيات والأدوات للاحتجاج والصراع الطبقي العام التي يمكن أن يعتمدها لتذليل العوائد البنيوية والتقنية التي تحد من فعل سياسي يساري واعي ببرنامجه النضالي، ناجع وديمقراطي حق(…)؟
أم أن قدر الحركات الاجتماعية الجديدة- القديمة – الممتدة في التاريخ الطويل هو انبعاث وانتشار وانسحاب مستمر من الفعل السياسي الضروري الشامل، ضدا على تسييد قوى التضامن الجماعي– الديمقراطي – التقدمي وقيم “الوطنية المتجددة”؟
جدوى “الماركسية الموضوعية” الواعية بذاتها وبمفاهيمها وقضاياها لممارسة الصراع الطبقي الجديد في المغرب
.لقد أنتج الغرب “الأوبرايزم الإيطالي” ومفهوم “التعدد” عند أنطونيو نيكري والأمريكي هاردت وكذا مفهوم “المثقف العضوي “عند غرامشي ومفهوم “الكوناتوس” عند سبينوزا باروش ومفهوم “الجدلية الفوضوية“« aléatoire/anarchique » عند ألتوسير؛ فإلى أي حد استطاع يسارنا، والمثقفون المحسوبون عليه، إبداع مفاهيم بتلك الأهمية والأجرأة التنظيمية والسياسية؟ إلى أي حد استطاع تنقيل، تمثيل واستنبات تلك الترسانة من المفاهيم في أرض واقعنا المختلف، المتميز والمحلي؟
لقد تغيرت ملامح اليسار المغربي وتموقعاته التاريخية داخل الرقعة السياسية، وتغيرت كذلك ملامح مثقفيه، وأصبح لزاما على مكونات اليسار الجديد أن تستجد النظر في موضوعات ميزت طبيعة وسلوك اليساريين عبر التاريخ، منذ فجر الاستقلال، مرورا بالثمانينات والتسعينات إلى اليوم.
فهل تستطيع مقولات من عيار “التاريخانية” و”الماركسية الموضوعية” ونظريات الاستحكام والاستبداد والاستعباد[1] الخ من أن تلقي الضوء على بعض من تلك المجالات المعتمة في الممارسة الثقافية والسياسية المغربية؟ كيف لمجالات بحث متعددة ومتفرقة أن تلتئم في كل متناغم لتأسيس نظرية سياسية متكاملة لليسار المغربي؟
ويمكن لليسار بكل تلاوينه أن يبحث في موضوعات أساسية، منها ما هو تقليدي وآخر مرتبط بما استجد من إشكالات معاصرة: فلعل مشكلة فصل وتوزيع القوة والثروة وفائض القيمة بين المنتجين الحقيقيين ـ عدا الريعيين والأشباح ـ ومشكلة التوازن بينها….)(، من أهم الموضوعات التي يجب تعميق النظر فيها بشكل علمي ـ لا سياسوي في المغرب.
وكذا موضوعات شائكة مثل المغربة والخصخصة وبرنامج التقويم الهيكلي وإعادة هيكلة الاقتصاد المغربي ومشكلة المديونية ومناخ الأعمال الحرة والتبادل الحر، ومسألة استكمال الوحدة الترابية وقضية تقرير المصير وصيانة الحقوق والحريات وحماية الخدمات الاجتماعية وقضايا الأمن والسلم، كالأمن الغذائي والصحي والطاقي، الخ، وعولمة النضال اليساري الممانع والبحث في الديمقراطية الحقة ودولة العدالة الاجتماعية والتضامن بين الجهات والمناطق والمواطنة والمساواة الكاملة والفعلية ومداخل الملكية البرلمانية بالمعايير الدولية، لا الحصر؟ كيف تقاطعت هذه السياسات مع موضوعات ملازمة، طردا مع تلك التحولات الاقتصادية والسياسية كإشكالات المواطنة والعدالة الاجتماعية والمساواة والحريات الفردية والجماعية في الوطن الواحد والمتعدد، في العالم الواحد والمتعدد في آن؟
لقد تعرفنا في المغرب، على ما يربو قرن، على قراءات نظرية ومنهجية متعددة ووازنة، ولعلها متكاملة، للشأن السياسي والاقتصادي والثقافي. نذكر من بين ما نذكر “التاريخانية” والعضوانية” و”المابعد ـ بنيوية” و”الأخلاقية” (…) وقد استعملت تلك المقاربات من أجل حسم الصراع حول السلطة والثروة مقولات من نوع “الجبهة الديمقراطية” و”الكتلة الديموقراطية” و”الكتلة التاريخية” و”المنهجية الديمقراطية”، و”الإصلاحية المؤسسية” و”الضبط السياسي”، الخ. في كل تلك المحاولات يتم الرجوع، بشكل أو بآخر، إلى الماركسية. غير أن ذلك الرجوع فيه التباس كبير، إذ يقوم به الكثير من النفعيين والقليل من “المثقفين الحقيقيين“.
لقد أوضح العروي ملامح مشروع تاريخي تغييري للمغرب المعاصر، وكيف أن الحاجة تدفع المثقفين العرب، عموما، والمغاربة كذلك، إلى استعمال خطاب ماركس دون معرفة كنهه وشروطه، فلا هم يعون به ولا بمتطلباته الأساسية. فالبرغماتيين من هؤلاء ينتقون ويوظفون فكر ومفاهيم ونظريات غير متسقة”[2] مدفوعين، في ذلك دفعا، “بوضع مجتمع تدعوه حاجة ملحة، فكرية وعلمية، في مرحلة محددة من حياته، إلى ذلك[3]“. إن الحاجة تدعو العرب أو المثقفين العرب على وجه الخصوص، إلى الكلام بلغة ماركس دون الاعتراف وربما الوعي بذلك[4] ونضيف أن ماركسية من هذا النوع “موضوعية”[5]و”لاواعية”، “فإذا لم تنقلب وبسرعة إلى ماركسية واعية بذاتها تظل عقيمة وجوفاء وبدون أثر يذكر في أعماق المجتمع”[6] .
أما من الماركسيين المغاربة -ممن يعتبرون أنفسهم “علميين”[7]– فلم يأخذوا قط بالجدية اللازمة الأسس التاريخية والمعرفية للماركسية. هكذا على مر عصر بكامله، لاحظ العروي أن الانتقال المنشود من ماركسية غير واعية بذاتها إلى عكس ذلك لم يتحقق بعد في أي بلد عربي رغم طول الأمد[8]، وهو ما يعبر عن خلل تاريخي موسوم بضعف الإلمام بتلك الأسس.
ما هو مثير في ملاحظات العروي العابرة هو هذا المنطق المستشف من اليافطات التي تتخفى وراءها تلك التحولات الاقتصادية والاجتماعية في العالم العربي والمغرب: الليبرالية، الخوصصة، الخطاب الأخلاقي والديني، “الوطنية الضيقة”[9] الخ .
ويمكن اعتبار التاريخانية-بالإساس-بمثابة الانتقال الصعب والمحجوز لوضعية البلدان العربية الإسلامية وللمغرب. هكذا فـ “الماركسية الموضوعية”، مما أبدعهالعروي، تشخيص ووصف شديد الخصوصية– ولا أقول شديد الأصالة والاستثناء يجتازه المجتمع المغربياليوم من دون أن يستطيع تجاوزه نهائيا، وهو وضع مجتمعي تدعو إليه حاجة ملحة فكرية وعملية إلى انتقاء وتوظيف فكر ومفاهيم ونظريات غير متسقة تعود – بشكل أو آخر – إلى أصول ماركسية.
إذ يتم التحدث بلغة ماركس دون الوعي بفحوى ذلك، ودون أن يستطيع أي بلد عربي -على الإطلاق- إلى اليوم بتحقيق النقلة الضرورية، لتبقى الماركسية المعتمدة عند المثقفين والسياسيين “ماركسية لا واعية” وعقيمة، جوفاء وبدون أثر في أعماق المجتمع، إذا لم تنقلب وبسرعة إلى ماركسية واعية بذاتها (انظر الإيديولوجية العربية المعاصرة، ص 31، ط 2011) وليس لذاتها.
ويمكن اعتماد مفهوم “الإحباطات النسبية” deprivation/ frustrations relatives، مما أنتجه علم النفس الاجتماعي ونقد الاقتصاد السياسي (ماركس، دوتوكفيل، بودون…) لضبط “نار الغيرة” المشتعلة في وعي وصدور نشطاء التنسيقيات والمناطق والجهات المغربية، بكل تلاوينها (الأساتذة المجرين العقود المحدودة الأجل، الأطباء،…) وكذا كافة الحركات الاجتماعية – السياسية، كحراك الريف وجراد وإيميضار وزاكورة وسيدي إفني، وغيرهم وقبلهم، جمعيا، حركة محاربة الغلاء، الخ. وهو ما سيسائل قوى اليسار المناضل ومسؤوليته الحاسمة في التعبئة والحشد الكمي والنوعي للقوى الاجتماعية المفتتة، وجمعها وهيكلتها في مشروع يساري شامل ومندمج ومتكامل يعطي للصراع الطبقي الوطني والدولي معناه الجديد.
وعليه فإن “القطيعة المنهجية” ضرورية لكسب رهان تحديث العقل/ الفكر المغربي، ومن ثمة لدمقرطة الدولة والمجتمع. ولعل الطريق الوحيد لتجنب الانتقائية والسلفية هو نهج سبيل الحقيقة في صيرورتها واعتماد إيجابية الحدث التاريخي وتسلسل الأحداث ومسؤولية الجميع أفرادا ومجموعات مجتمعاً ودولة عنها.
ذلك أن التطور التاريخي يخضع لقوانين لا يحيد عنها، وأنه يتجه وجهة ثقيلة واحدة لا تختلف من جنس لآخر، مما يمكن ثقافة من أن تتفتح على هذه الوجهة ويسمح للمثقف والسياسي بأن يقوم بدورهما الإيجابي (انظر العروي، العرب والفكر التاريخي، ص 186). فالدور التاريخي للغرب الممتد من عصر الأنوار إلى الثورة الصناعية هو المرجع الوحيد للمفاهيم وللتقدم (العروي، الأدلوجة ص 25).
كما أن استيعاب الفكر المغربي والعربي الإسلامي، عموما، لمكاسب العقل الحديث يتطلب التمييز في الفكر الحديث بين مقومات هذا الفكر وبين إيديولوجية الغرب. فالمنهج ليس هو الإيديولوجيا. إذ هو نوع من التفكير على أساسه تتكون الإيديولوجيا (بنعبد العالي 2010)، وهي التي تتشبث بها الطبقة. أما المنهج فقد أصبح قاعدة مشتركة لكل التيارات الفكرية المعاصرة (العروي 1973).وحتى في أقصى الحالات يمكن أن نميز في الماركسية ذاتها بين منهجها العلمي من جهة ونتائجها ومفاهيمها النظرية المنسوجة على مقاس المجتمعات الصناعية الغربية، وهو النهج الذي سيسمح لبلدان غير غربية موغلة في التخلف أن ترقى إلى بلدان صناعية حديثة.
لكن هل ما زال العروي “تاريخانيا”، على الأقل في كتابه الأخير “السنة والإصلاح” (بنعبد العالي عبد السلام، 2010: التاريخانية والتحديث ؟)، وهو الذي ظل مهووسا بـ”السياسي” من غير أن يغرق في السياسة (نفس المرجع)؟
يقترح اليسارومثقفيه موضوعة مركبة: قراءاته تتمحور حول التنمية المستقلة، نمو الرأسمال وإعادة استثمار القيمة المضافة، تقوية تمفصل الإنتاج الصناعي، القيام بالإصلاح الزراعي والاكتفاء الغذائي، العدالة الاجتماعية، والجهويةالحقة،التوازن الترابي، تقوية الاستثمار العمومي وتنمية البحث العلمي والابتكار التكنولوجي والانتقالالرقميوالبيئي، والثورةالثقافية والتنويرية، سد الحاجيات الأساسية وتقوية القدرات البشرية، التخطيط الاستراتيجي وضبط ميكنزمات السوق، حكامة جيدة واستغلال أمثل لمدخلات العولمة.[10]
ماالعمل؟ : ضرورة التوظيف المنهجي– النقديلأدواتالاحتجاج والصراع
لا شك أن الأخذ بمقاربات الحدث/ الفعل الجماعي المتنوعة في تحليلاتنا النظرية – السياسية – العملية والعلمية سينير الفعل الحزبي والسياسي والحركي، عموما، وسيساعد مهنيي السياسة والحزبية والنقابية والجمعوية على التدبير – ببيض النمل- لكل تلك الموارد الجديدة – القديمة الفعلية؛ سيساهم ذلك لا محالة على تعبئتها تعبئة فعالة، كلما تم رصد دوراتها والتحديد بما يلزم من الدقة لـ”ريبرتوار” المرحلة/ الفعل الجماعي، إن على الصعيد الوطني – الجهوي أو العولمي (عبور القوميات).
ونحن على مشارف تحقيق “إمكان الاجتماعي” ما قد لا يسع الباحث/ الملاحظ/الفاعلالاجتماعي – السياسي إلا أن يستدل على نتائج حصلت بأسباب يمكن استبيانها، أن يعرف الحقيقة بأثر رجعي كنتيجة لما حدث بالفعل في الماضي القريب/ أو البعيد. كل ذلك يتم وكأن العالم لا يبحث إلا في ما مضى، أي في الأموات لا في الأحياء، ليكون بهذا علما وضعانيا، لا يهتم بالتنبؤ وبصيرورة الفعل الجماعي – الحي، في ديناميتهّ. ولعل ما يجب الاحتراز منه، في هذه الأثناء، هو مقتل “التفكير الدائري” المكرور (ميشيل دوبري، (1986).
وحري بنا أن نتحلى بمزيد من التدقيق المنهجي – النقدي كلما عالجنا موضوعا حركيا – اجتماعيا بامتياز– بعيدا عن “المراوحة المستمرة” و”السببية الميكانيكية” التي تنزلق إليها -احيانا كثيرة- غالب روافد العلوم الاجتماعية، ومنها الاقتصاد ذو الهوى العقلاني – النفعي الطاغي-بالرغم من اهمية- ربط الفوائد /النتائج بالكلفات والوسائل، إلخ (انظر Becher في الاستثمار في التعليم كخيار استراتيجي).
ثم إنه لا يمكنالإغفال التام لما تحبل به -هكذا حركة- من ارتباك وعشوائيةفعليين، وبحث صريح وحقيقي عن الذات، تجرها إليها صعوبة التقدير والاحتمال والفوضى وعنف الدولة والسلطوية الصاعدة، من جهة، وصمود الفعل الجماعي – الفئوي والشامل، لصدالإحباطات النسبية”و”الخيبة الجماعية”في ظل اختلالات سياسية للقوى، محل التشكل.
ومن بين ما يتطلبه هذا المبحث الاجتماعي، الجديد نسبيا، هو رصد “آثار الجيل” على نفسه وعلى من لحقه، كأن نتحدث -مثلا- عن مصير جيل الحركة الوطنية وما قد يصيبه من انشقاقات وانسحابات وضرورة اعتماد “الوطنية الجديدة”، اليوم، ضدا عن وطنية الحركة الاستقلالية، وكذا جيل اليسار الجديد، مثلا،وانحباسات وحدته ونضالاته. ويمكن اعتماد إعادة تشكيل مصطلح “احتلال المواقع” ومدى تطور المفهوم في العالم وفي بلادنا، على ضوء تاريخ الإضرابات العفوية – الجماهيرية. (انظر النقابية العمالية في المغرب عند المنوني عبد اللطيف 1979، والحركات الاحتجاجية والأحزاب السياسية في المغرب عند كل من عبد الرحمن رشيق 2016 ومونية الشرايبي بناني 2020).
ومما يمكن ان يغني هذا المبحث أيضا الانتباه إلى جدوى “صياغة المشاكل العامة” بناء علميا، بعيدا عما تقدمه الصحافة – أصفراء كانت -خاصة- أو مستقلة – حيث يتم إبراز لتفاهات عمومية عامة او لمشاكل هامشية أو مشاكل جزئية دون غيرها، بالرغم من جدوى الصحافة، ومما يمكن ان يسديه ذلك التنويه الجزئي أو العابر من نفع تارة وتشويه أو إجلاء الاهتمام والتستر على معضلات بعينها، تارة أخرى.
كما تُجدي الإشارة أيضا لأهمية تحديد “بنية الفرص السياسية” المتاحة تاريخيا، والكشف عن “دينامية النشطاء/ الفاعلين” ضمنها وضدها، وضبط حالات “الاستمرار” و”الانسحاب” و”وقف الانخراط في المؤسسات الوطنية والدولية”، فضلا عن “الانخراط” في ظروف الذروة، غالبا ما تكون فترة انتخابات ! ومن المفيد ربط ذلك بطبيعة وأطوار “النظام السياسي” السائد (ماركس،ذوتوكفيل، بودون،…)، أي إشكالات تطوره وانتقالاته وحجوزيته، فضلا عن جدوى “تحليل الأحداث” والإلمام بتقنيات وأدوات “التحليل الشبكي- الاجتماعي”.
ويمكن الاهتمام أيضا “بِسِيَر النشطاء” وفعالية “التدخل السوسيولوجي” و“تحليل الأطر” والأخذ بما يعرف بـ“الهلع الأخلاقي /الفضائح- …/“، فيما انبرت إليه السلطات القمعية دائما من فبركة لفضائح- مكروهة اجتماعيا- تتم إشاعتها للتنكيل والعزل والتشهير بالمعارضين، أكانوا صحفيين، مدونين أو نشطاء حقوقيين أو سياسيين، الخ، بالإمعان في فضائح الجنس والإرهاب والانفصال، وغيرها. ولا شك أن اعتماد “الآثار البيوغرافية للنشطاء” يفيد كذلك التحليلات أكانت من هذه الزاوية أو الزاوية المضادة !
تأطير ورفقة الحراكات الاجتماعية/ الشعبية، ضالة اليسار البديل
لتعميق المعرفة بالأساسات الثقافية للمشروع السياسي البديل/ يسار الغد/ المرتكز على الحركات الشعبية الاجتماعية والمناطقية، لا محيد عن الحوار الوطني، المواطناتي والمسؤول، في أفق واضح للتقدم والعصرنة، يجمع كل القوات الحية، علمانية ودينية متنورة؛ لابد له من إعادة التركيز على موضوعي المساواة والعدالة ومن تعزيز مفهوم الحرية والديمقراطية والمواطنة المتجددة والانفتاح الاستراتيجي؛ لابد له من ربط موضوعة النمو بالتنمية والإنتاج المادي واللامادي بالتوزيع بموازاة مع المواقع الجديدة التي تتبوؤها الطبقة العاملة المهندسة والتقنية[11]. كما أن الفضاء الاجتماعي – الديمقراطي اليوم بقي بكرا وهو ما يمكن أن يجمع مكونات واسعة لفعل يساري عصري ومتطور.
إن محاولة التسلق الاجتماعي/ الاندماج الاجتماعي المجالي- المناطقي تبدو أكثر فاكثر صعبة إذ أن ديناميات النشطاء/ الجهات/ المنطق/ الأفراد/ المجموعات تصطدم بما أسماه بورديو بـ”القيود البنيوية” الفاصلة بين الطبقات/ الشرائح الاجتماعية/ الجهات/ المناطق في آخر المطاف . وهو جدار – قاعدة لن ولا تستثني الحالات الخاصة، بالرغم من استشراء مستمر للخصومة، بما تعني من نزع صريح للملكية العمومية وضخها لصالح الخواص، دون تحسين ملحوظ -بالضرورة- لجودة الخدمات.
لا محيد لليسار من إعادة نقد منظوره للتاريخ وللمؤسسات العريقة ولأدوارها في الحاضر ومن تثمين الثقافة المحلية والمسألة الدينية واللغوية. لا محيد للمتأسلمين من اعتماد نظرة علمية للدين، على الطريقة المقاصدية، وابتعادهم عن “الدين الدفاعي”، المثالي، الإيديولوجي، المنافح والمشوه، وليس في ذلك دعوة لتحالف مع قوى إسلامية بعينها. لا بديل إذن من الابتعاد عن الجهادية والأصولية، اللتان كثيرا ما اعتمدتهما المدرسة المغربية -من حيث تدريأولا تدري- ولا يزال المغرب اليوم يحصد بعضا من نتائجها.
من واجب مثقفي اليسار استثمار التناقضات وما استجد منها، تلك التي يدخل فيها النظام الرأسمالي وهوامشه، في أوج أزمة النيوليبرالية المتوحشة،وعلى جميع الأصعدة والجهات والمناطق والبرامج المقترحة أو المفروضة على حكومات البلدان المتخلفة، والتمترس بوضوح ضمن اختيارات الطبقات والشرائح المحرومة، وكذا المقاولة المنتجة والمواطنة والأمة .وتبقى عموما حقبة ما قبل التسعينات، من أهم حقب الممارسة النظرية لليسار المغربي، وقتها رأينا تشكل “اليساري العضوي الملتزم”[12] بالمعنى المتمثل والمتميز لغرامشي.
فإذا كان من المشروع طرح سؤال عن الذي يسمح بظهور حركات وديناميكيات اجتماعية وسياسية: أهي الهوامش الديمقراطية في النظام السياسي السائد أم تغول السلطة والتحكم فيه؟
هل يتجاوز “منطق القضية” و”المجموعة” كمنطق فئوي، جهوي أو مناطقي، مفهوم “الصراع الطبقي” ببلادنا أم هي دعوة صريحة وصعبة لقوى اليسار المناضل للعمل على التجميع والتوحيد لتلك القوى المتشرذمة، قصد وفي خضم الصراع الطبقي لذاته.
هل حقا لا يوجد هناك بديل كما تدعي “الداروينية الاجتماعية”، منذ ان باشرت مارغريت تاتشر الثورة الليبرالية في بريطانيا (TINA) في تمجيدها السافر لللامساواة وضرورة المنافسة الفعالة والناجعة والجهنمية التي لا ترحم بين الأمم والمناطق والشركات والأفراد، طبعا لعزل الصبيان عن الرجال والأقواء عن الضعفاء والأغناء عن الفقراء والمعدمين…، ليكون لهم الله وفردوس الآخرة !
فإلى متى سيتم الانعتاق والحرية في بلادنا من كلّ أشكال الاستغلال والتهميش والقهر والاستعباد؟ فهل حقا يمكن أن توجد الحرية في تعارض تام مع العدالة والمساواة الاجتماعية (كما نجد ذلك عند فونهايك، المفكر الليبرالي النمساوي 1899-1992)؟ هل من علاقة إيجابية ضرورية بين النيوليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان؟ كما نجد ذلك عند جيسيكا وايت 2019؟ أليس لنا الحق جميعا في المواطنة الكاملة والمتجددة (بوعزيز، صلحيوي محمد 2022،…)وفي الحياة أم أن روح العصر تقتضي بالضرورة فصل الأسود الغير المروضة والمفترسة عن القطط الناعمة والوسخة.
هل حقا لا يوجد هناك بديل (TINA)، كما تدعي “الدروينية الاجتماعية”، منذ أن باشرت مارغريت تاتشر “الثورة الليبرالية” في بريطانيا، في تمجيدها السافر لللامساواة وضرورة المنافسة الفعالة والناجعة والجهنمية التي لا ترحم بين الأمم والمناطق والشركات والافراد، طبعا، لعزل الصبيان عن الرجال والأقوياء عن الضعفاء والأغنياء عن الفقراء والمعدمين (…) ليكون لهم الله والفردوس في الآخرة !
ألم تجب الحركات الاجتماعية الشعبية المغربية، بشتى روافدها وفئاتها ومناطقها ودينامياتها، وأقواها على الإطلاق الحراك الشعبي السلمي بالريف، إجابات – لمن أراد أن يستوعبها – (دولة مركزية وحركة وطنية كلاسيكية ويسار مناضل) عن اختلالات متعددة تلزمها قطائع ضرورية، على الأقل على مستويات أربع: الطبقية منها والنوعية والبيئية و”المناطقية” (نفس المرجع)، يمكن ترجمتها في “مفهوم العدالة” بكل مستوياته (نفس المرجع).
أليست النخب المغربية أمام طريقين اثنين، إما الإمساك بالمضمون اليساري الكامن في الحركة الاجتماعية وبلورته سياسيا وأدائيا وبعقلية ممارسة جديدة، وإما الاستكانة لمنطق الاستقرار في وضعية “البقاء كهدف” والسير البطيء صوب فرصة للتدبير، وذلك لأن تلك النخبة توجد أمام مفارقة دولة غير مستعدة للتغيير وانكسار العلاقة مع قوى سياسية رافضة للمطلوب لتجاوز إرث سياسي وفكري متمنع عن تجديد مقولاته وتصوراته (نفس المرجع).
بالإضافة إلى كل ذلك يمكن أن نتساءل عن :
- موقع الشباب في مشروع اليسار المغربي.
- المناصفة وسؤال المساواة الفعلية في هذا المشروع .
- مدى مركزية البيئة في هذا المشروع؟
[1]– لقد حاول بعض الباحثين المغاربة تجريب أدوات ما بعد بنيوية من هذا النوع كالعوفي نورالدينولازاريف (…).
[2]– العروي، عبد الله (2011)، الإيديولوجية العربية المعاصرة، ص 31، نسخة جديدة ومنقحة.
[3]– العروي، عبد الله، نفس المصدر، نفس الصفحة، 31.
[4]– نفس المصدر والصفحة.
[5]– نفس المصدر يطلي العروي هذا المفهوم على كل صاحب قول أو فعل مسؤول عما يلزم منطقيا من قوله وفعله حتى وإن لم يكن واعيا باللزوم بذلك.
[6]– نفس المصدر والصفحة.
[7]– نفس المصدر، ص 16، في إشارة إلى أثر الموسوعة الفلسفية الروسية.
[8]– نفس المصدر، ص 31.
[9]– مثال روسيا الحالية، انظر أيضا الوثائق حول الوطنية المغربية و”إستبانة” للعروي (2016).
[10]– أنظرأيضامثقفونمغاربة (2016)، بيان، أخبار اليوم رقم 20084.
[11]– انظر ع. السلام المؤدن (2000)، الطبقة العاملة الحديثة والنظرية الماركسية، عيون المقالات، المغرب.
[12]– خطار الحسين (2016)، ص 222، انظر ما سبق.
ذ.عبد الواحد حمزة
سوسيو -اقتصادي
تمارة في 20/03/2022