أحمد الخمسي في قلب الأوضاع(14):المسافة بين الشرق والغرب مسافة تجويد القيادة من طرف الزعيم وتجويد القيادة عبر تجديد القادة .
ذ.أحمد الخمسي
إذا أتعبتُ الروحَ والجسدَ من أجل قضيةٍ عادلةٍ العمرَ كلَّهُ، ولم أستخلص دروسا من الزمن الذي قضيته في خدمة القضية العادلة، لا بد من التوقف للتفكير فيما يلي:
إما أن القضية التي أفنيت عمري من أجلها لم تكن أصلا عادلة وإما أن البرنامج الذي نفذته لخدمة القضية العادلة لم تكن أساليبه عادلة.
وإما أن الوسائل التي استعملتها لخدمة القضية العادلة كانت مناقضة لعدالة القضية وإما أن الزمرة البشرية التي تقدمت لخدمة القضية خدمت نفسها دون أن تخدم القضية .
وإما نشأ انفصالٌ بين القضية والعدالة، ففسُدَتْ نظرةُ النَّاسِ حول القضية وشكُّوا في عدالتها.
حتى لو ثبتت كل هذه الفرضيات، فإن حسن نيتي في خدمة القضية العادلة بإخلاص لا يستطيع الشّك أن يتسرب إليها.
وبالتالي، يصبح الأمر معقّداً.
بحيث يؤمن الناس بنزاهة علاقتي بالقضية العادلة، ولكنهم لا يستطيعون الهرب من حقيقة الفشل في استنبات القضية العادلة في الأرض، لأنهم يرون بالملموس أن جيلا كاملا قضى كل الوقت في خدمة القضية العادلة وضحى بالنفس والنفيس من أجلها دون أن يفرز المجتمع قيادة جديدة لاستكمال الجهد وتجديد الرافعة القيادية التي تحمل القضية وترفعها عالية في سماء الرأي العام.
ماذا نستخلص من هذا التعقيد؟
الدرس الأول:
نستنتج أن المجتمع الشرقي يفيض إخلاصا وعزما وحزما لخدمة القضايا العادلة. وفي نفس الوقت، نلمس أسطورة سيزيف التي تعني أن كل جيل يتعب من أجل القضايا العادلة طول العمر، لكن مرور القيادة وتحمّل المسؤولية – في المجتمع الشرقي- من طرف الجيل الموالي مرورٌ يصيبُهُ العطبُ.
هذا لا يعني أن الجيل السابق لا يصيبه الكمد والحزن عندما يجد نفسه ملزما بتحمّل المسؤولية طول الوقت. لكن الأصل في هذا الحزن والكمد كونه يتملكه الخوف وهو يتخيّل الجيل الموالي ممسكا بزمام الأمور. إذ يعتقد أن الجيل الجديد لن يتملّك الدربة الكافية في البحث عن الحلول المناسبة. بالتالي يعتقد أن التنافس بين المؤسسات الحزبية والنقابية والجمعوية، سوف يفوز فيه الآخرون، بينما تتخلّف مؤسستهم لأن القيادة الجديدة في مؤسستهم، ليس لها ما يكفي من الخبرة لفهم التناقضات والتحديات والرهانات. مما يضطرهم إلى تمديد مدة تحمل المسؤولية فترة أخرى.
يردد الغربيون حكمتهم الثلاثية: “لا سعادة بلا حرية، ولا حرية بلا جرأة”. فالحرص على جودة القيادة بدل الحرص على تجديد القادة هو عطب المشارقة. والاستكانة إلى هذا الحرص على جودة القيادة بدل تجديد القادة هو ما يرسم الفارق بين المنهج الغربي (تجديد القادة) عن المنهج الشرقي (أبدية القادة).
ولنا في كل الأنظمة العربية التقدمية السابقة التي خلُصَت نيتها في خدمة القضايا العادلة للأمة، أن نهايتها كانت مأساوية. وأن ما بعد الزعيم المخلص النزيه الذي لم يراكم ثروة ولم ينل منه الأعداء في التخلي عن القضايا العادلة، دائما ينتهي عمله بانتهاء عمره. ليبدأ الجيل الموالي من جديد. جوهر الناصرية والبعثية والبورقيبية، أن الزعيم يبقى في الحكم تحت شعار “لا حزبية بعد اليوم”. والحال أن جوهر التعددية الحزبية هو تعدد البرامج والاجتهادات والتناوب على السلطة وفق قرار الكتلة الناخبة وليس قرار الزعيم الحزبي. قرّر الراحل جمال عبد الناصر أن لا حزبية بعد اليوم واكتشف وهو في الحكم التخلي عن هذا الوهم العسكري ليُنشئ حزبا حاكما تحت إمرته: الحزب الاشتراكي العربي. وتبعه معمر القذافي في هذا الشعار وبقي كل من عارضه في حكم “الكلاب الضالّة”.
وما الفرق بين الحاكم الأبدي على رأس الدولة وبين الحاكم الأبدي على رأس الحزب أو النقابة أو الجمعية؟
ولنا دروس في مآل الزعماء الحزبيين والنقابيين، الذين يصيبهم المرض وهم على كراسي الزعامة التنظيمية. ومع ذلك، يتركون وصاياهم بمن يتولّى الأمر بعدهم.
ماذا نستخلص من هذا التعقيد أيضا؟
الدرس الثاني:
يستنزف الزعيم الشرقي التنظيم عن طريق وَهْمِ أن لا “قيادة جيّدة” من دونه. وهو لم يأت بهذا الوهم من المرّيخ. بل المجتمع الشرقي الذي يدور حول قيادة الأب والزوج للأسرة ينقل نفس المنظومة الوصائية إلى مؤسسات الحزب والنقابة والجمعية. فلا مبادرة داخل العائلة الحزبية أو النقابية أو الجمعوية دون مبادرة الزعيم الأب.
وفي ظل الزعيم الذي يصبح الزعيمُ مزوج الثقل، ثقل الحضور الشخصي وثقل الظل،ظلال زعيم المرافق،يمتزج الاحترام باليأس. احترام الأتباع ويأسهم من بروز زعماء جدُداً أفضل أو في نفس الحنكة والكارزما.
والتحوّل الذي ينشأُ عن هذا الخلود الشخصي حرصا على “جودة القيادة”، هو تعقيم رَحِم التنظيم وتجَفيفه من إمكانية تخصيب وحمل جنين “قيادة جديدة” بنفس العطاء القوي.
لقد كتب شيخ الأزهر الأسبق محمد الغزالي عن القلب الطيب الذي كان يملكه ستالين، وأعطى أمثلة عينية على ذلك من خلال تفقد ستالين للجنود السوفيات على جبهة القتال خلال الحرب العالمية الثانية. ولا يمكن لأحد أن ينعت جمال عبد الناصر بغير الصفاء والوفاء والقلب الطيب، لكن كلاهما حكم مدة أطول من رؤساء الغرب. وبلا تجديد شرعية الحكم عبر صندوق الاقتراع العام. الأول حكم باسم الحزب الثوري ودكتاتورية البروليتاريا، والثاني حكم تحت شعار “ارفع رأسك يا أخي” مقابل “لا حزبية بعد اليوم”. كلاهما كان طيب القلب وخادم القضايا العادلة. لكن كلاهما من شدّة الحرص على “جودة القيادة” لم يغادر كرسي الحكم حتى الوفاة. وفي البلدين معا: الاتحاد السوفياتي ومصر، جاء الخلف ليطلق حملة تفكيك ثوابت النظام الذي أرساها الزعيم المتوفّى. فكّك خروتشوف ثوابت الستالينية. وفكّك السادات ثوابت الناصرية.
يتفوق الغرب بحيوية الميكانيزمات التي تنعش النظام الرأسمالي السيء. وينهزم الشرق بسبب عبادة شخص الزعيم ويجد نفسه فارغ الدماغ، يتيما بعد وفاة “الزعيم الخالد”. فتتيّم القضايا العادلة نفسها.
في الغرب، تشتغل أجهزة النظام وتجدد البرامج والأجهزة والمؤسسات والنخب القائدة. وفي الشرق يشتغل الزعيم الأوحد ويعطي التعليمات لتجويد القيادة.
خلاصة الأمر: يتبع الغرب ميكانزمات تجديد القادة ضمانة لتجويد القيادة. وفي الشرق يتكفل الزعيم طول العمر بتجويد القيادة.
هل قدرنا “الشرق شرقٌ والغرب غربٌ”؟
في الصين الصاعدة، تراجع دينغ سياو بينغ – وهو في القمة – إلى الوراء قبل الوفاة. بل أصبح النظام “برلمانيا” تحت زعامة رئيس الحكومة الذي لا تزيد مدة حكمه عن خمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، منذ 1982. وبعد ثلث قرن(2018)، تمكن الرئيس جي شينبينغ صاحب مشروع العولمة الصينية البديلة (مبادرة الحزام والطريق)، من تعديل الدستور عن طريق الاقتراع السرّي، من دعم البرلمان الشيوعي، حيث دسترة فكر الرئيس ، رفقة فكر ماو وفكر دينغ سياو، مع رئاسة مدى الحياة، وحملة مستمرة ضد الارتشاء والاغتناء داخل الحزب الشيوعي.
هذا المستجد، امتحان جديد للشرق أمام الغرب. علما أن الحزب الشيوعي الصيني، أوجد توليفة خاصة، مضمونها الاشتراكية الديمقراطية الغربية ولكن تحت قيادة الحزب الشيوعي. مختلفة قليلا عن توليفة الثنائية الحزبية في الغرب. ولكن بما يشبهها ليس بالتناوب في الزمن بل بالتجاور في المكان “دولة بنظامين” الشيوعي في بيكين والليبرالي في هونك كونغ. وفي حدود الاختلاف بين الليبرالية المتوحشة في الرأسمالية وبين الصيغة الصينية للاشتراكية الديمقراطية.