وجهة نظر

أحمد الخمسي في قلب الأوضاع(20):ما لم يصل عضو المكتب السياسي إلى استخلاصه في كوامن اليسار

لم يتحدث عضو المكتب السياسي، محمد الصلحيوي عن ثلاث خلاصات، هي بؤر الخط المتبصّر أيا كان من اتبعه

***

الخلاصة الأولى: الكتلة التاريخية لربح قضية التراب الوطني في الجنوب

أتذكر سنة 1980، كان المكتب السياسي لمنظمة 23 مارس يخوض نقاشا سياسيا داخل خلايا ولجن المنظمة، ليقلل حظوظ تيار الوحدة والنضال، في شق المنظمة بأقل الخسائر. كان نزول جريدة أنوال إلى الساحة الإعلامية لتهيئة التربية بمثابة ما وصف به لينين دور الجريدة المركزية للحزب (انظر كتابه “ما العمل؟”).

فقد حرقت جريدة أنوال مراحل في الزمن السياسي لاكتساب “الأنصار” (في المفهوم الفرنسي اليساري les Partisans) بالسرعة المطلوبة. لكن نقاش “وثيقة الشرعية” لم يكن من الوضوح الكافي. إذ لم يكن التركيز- لدخول مرحلة النضال العلني- على الأسباب الجيوستراتيجية التي خلقتها الثورة الإيرانية في إرباك كلا من اسقرار الأنظمة العربية التقليدية ودور اليسار في التغيير في نفس الوقت.

وظهر كما لو أن قيادة منظمة 23 مارس استحضرت تربص التهم الجاهزة ضد انعطافتها نحو النضال العلني. فالتهم الجاهزة كانت لدى التيار الاتحادي الذي قاده الراحل الفقيه البصري في المنفى بفرنسا، كما كانت تهم منظمة إلى الأمام داخل المغرب (في السجن) ضد 23 مارس شرسة. خصوصا وقد سبق لمنظمة 23 مارس أن اشترطت استكمال الوحدة الترابية بعدم اتباع الالحاق القسري للجماهير الصحراوية (انظر كتاب الموقف الوطني الثوري= حوار محمد بنسعيد آيت يدر مع الراحل محمد باهي). فالانعطاف نحو النضال الشرعي القانوني كان بمثابة مغامرة يمينية وليس أكثر في نظر المتشبثين بالنضال السري.

والسبب في تلقي هذه التهم الجاهزة بقي كامناً فيما تأسست في خضمه منظمة 23 مارس أواخر ستينات القرن الماضي: إسناد التغيير على منظومة أفكار “الماركسية-اللينينية”. فالطابع اليعقوبي الجازم بالقطيعة بين التغيير الجذري وبين النظام الملكي، ترسخ لدى اليسار الوطني (الاتحاد الوطني للقوات الشعبية) من الفكر السياسي الفرنسي للثورة الفرنسية، وترسخ بموجب الأطروحة اللينينية والماركسية الملخصة في كون الأنظمة الطبقية مصيرها “مزبلة التاريخ” حتما.

***

الخلاصة الثانية: الكتلة التاريخية لربح التحديث السياسي، وربح رهان ترويض عفريت التدين حتى لا يسطو على الدولة

في المقابل، هيأت منظمة 23 مارس نفسها للدخول معترك النقاش الفكري والسياسي، ضمن كتلة تاريخية تجتمع فيها جهود اليسار مع جهود الدولة لتطويق فورة الانتصار للثورة الإيرانية ساعتها. ومما لا يجب نسيانه، بهذه المناسبة، هو المزاج الشعبي الذي اعتبر الثورة الإيرانية حينئذ، بمثابة القدوة التي يجب استخراج الخلاصات من صلبها لفتح الطريق نحو “التغيير الأكيد”.

كان اغتيال الشهيد عمر بنجلون لم تمر عليه بعد أكثر من خمس سنوات. ولكن نزوع الدولة كان قد أصبح جازمالخوض قضية وطنية منسية بصدد استرجاع أقاليم الجنوب.

في خضم القضية الوطنية الترابية راجع الاتحاد الاشتراكي موقفه القاضي بوضع ملف اغتيال الشهيد المهدي بنبركة شرطا للتقدم مع النظام يدا في يد من أجل الإصلاح السياسي.

كان الانتصار الفييتنامي على أمريكا في الحرب عتبة سياسية لكي تراجع الأنظمة التقليدية التبعية سياستها تجاه الممكن في السياسة الخارجية. كان الممكن في الحالة المغربية هو احتمال القدرة على انتزاع الاقاليم الجنوبية من يد الاستعمار الاسباني. لم تشرح قيادة منظمة 23 مارس هذه الفرصة التي أصبحت تسمح للمغاربة (نظاما ومعارضة) لربح استرجاع الصحراء.

وكان الانتقال الديمقراطي الجاري في اسبانيا من ثمرات النكسة الأمريكية في حرب فييتنام. بحيث عمل الغرب على تقوية نفسه وتعويض نكسته في الفييتنام بخلق حركة انتقال ديمقراطي في الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط. وذلك بإنهاء الدكتاتوريات العسكرية في كل من اليونان والبرتغال واسبانيا.

كان العرب المعارضون عموما واليساريون خصوصا يرون في الوضع الدولي النصف الفارغ من الكأس. ولا شك أن الاتحاد الاشتراكي وقيادة منظمة 23 مارس ساعتها، رأوا في الوضع، من زاوية ربح ثلث التراب الوطني المنسي تحت الوصاية الاسبانية، الفرصة الدولية السانحة، لاستكمال الوحدة الترابية.

ولعل، هذه الأطروحة الترابية من النقط الإيجابية القليلة التي يجتمع فيها رصيد الفكر السياسي المغربي مع الفكر السياسي الفرنسي. فقد تشكلت فرنسا القرن العشرين من الوعي الشقي الذي ساد نخبها ما بين سنة 1871 عندما انهزمت أمام ألمانيا وفقدت اقليمين (الألزاس واللورين) من أقاليمها، وبين اشتغال الفرنسيين طيلة 42 عاما (1871-1914) لتشكيل تحالف ملائم للانتصار على ألمانيا واسترجاع الاقليمين المفقودين.

وبالتالي، التقت المصالح بين المغرب والغرب في طمر تراث المرحلة الاستعمارية بافريقيا في نفس القبر الذي طمرت فيه دكتاتوريات اسبانيا والبرتغال. فقد استقلت ساعتها (1975) كل البلدان الافريقية المستعمرة: عن اسبانيا الصحراء المغربية، وعن البرتغال: الرأس الأخضر وغينيا بيساو، أنغولا، الموزنبيق، علما أن فرنسا كانت قد تخلت عن جيبوتي منذ 1971.

لكن المغرب ساعتها بقي يواجه تحديين اثنين: التحدي الجزائري تحت مسمى البوليزاريو وتحدي المعارضة باسم الدين. فقد انبرت المملكة العربية السعودية لمنافسة ايران بدعم “مجاهدي أفغانستان” منذ 1979 ليوازن فقهاء السنة فقهاء الشيعة كونهم أيضا يدعون إلى التغيير في افغانستان. وصار “المجاهد” الأفغاني ذي المرجعية الدينية “أيقونة النضال” من أجل الهوية.

المعارضة التي تترسخ مرحلة بعد أخرى ليست تلك التي تجد نفسها في السجال الذي لا ينتهي، بل تلك التي تستخلص من كل مرحلة ما يفيد الأمة جمعاء للاقتراب من حل المشاكل الكبرى التي تعجز الدولة ويعجز الشعب عن حلها دونما تجميع الجهود بين الفينة والأخرى. ومثلما يصعب على الدولة لترتاح من شغب المعارضة ان تستبدل الشعب وتاتي ببديل عنه من المريخ يصعب على الشعب أن يستريح من استغلال الطبقة المسيطرة بجلب بديل عنها ولو من فرنسا.

***

الخلاصة الثالثة: الاستراتيجيا الديمقراطية في القرن 21 تتطلب أيضا كتلة تاريخية من حيث الميثاق السياسي

يبلغ محمد الصلحيوي الصواب في صمود التيار الديمقراطي الشعبي خلال الفترات التي تحدث عنها نعم. ولكن يتقزم صوابه عندما يسلك طريق نقد الآخرين دونما استكماله بالنقد الذاتي.

فقد كاد أن يتخلى عن نبيلة منيب أعضاء بارزون في من أسماه محمد الصلحيوي التيار الديمقراطي الشعبي. وبقوا يرونها كما لو أنها ترهن موقفها بمن عرفوا خلال المؤتمر الرابع وبعده بتيار اليسار المواطن والمناصفة. وهم من عُرِفوا بالاشمئزاز المزمن من ظاهرة التيارات في الحزب الاشتراكي الموحد.

ولم تكن نبيلة منيب ليترسخ لديها صواب مواقف تيار اليسار المواطن والمناصفة لو لم تكن قد توصلت مرتين بالدعم السريع والمباشر والواضح، لخطها السياسي وليس لشخصها فقط، مرة أولى وهي على رأس لائحة تيار الأفق الجديد (من حيث التوقيع)، عندما انسحب ثمانية موقعين، مسقطين شرعية اللائحة أيام قليلة قبيل المؤتمر قصد إرباك المؤتمر بكامله، وقيل لها بالحرف من باب دعم الأطروحات السياسية الراسخة عند لينين وغير لينين: عندما تتغير الموازين والمعطيات في أربع وعشرين ساعة، يتبدل التكتيك، لذلك يصرح منسق التيار باسم رفيقاته ورفاقه أننا نساند ورقة الأفق الجديد ومستعدين للوقوف صفا واحدا من أجل إنجاح المؤتمر الرابع ضدا على كل إرادة تستهدف إفشاله.

والمرة الثانية التي عاينت نبيلة منيب حالة تفكك من “بقوا” إلى جانب الخط السياسي المطلوب دعمه، هم من بقوا يعتبرون أنفسهم أساتذتها يلقونها الدروس “القبلية” بذريعة التجربة والحرص على الوحدة، ولما بدأ “سفر الخروج” الكبير إلى الصراع الشرس، بدأ من الخرجات الإعلامية، مرورا بطرح وثيقة للنقاش الداخلي بينما المغرب كله على مسافة شهرين ونصف (21/6/2021-8/9/2021)، وانتهاء بإعلان الذهاب المنفرد إلى الاندماج، تقريبا بقي تيار اليسار المواطن والمناصفة وحده المتماسك، ليس بالعدد والكم، بل بالوضوح والصدق والانسجام مع حقيقة حزب التيارات وشروط الاندماج.

إلى هنا، يجب الاعتراف أن نبيلة منيب بقيت وما زالت صادقة ومكافحة ميدانيا. ولكنها اكتشفت أن تيار اليسار المواطن والمناصفة، وحده الذي لا تهمه المواقع القيادية وإن أصابه خلل السكوت عما تم في المؤتمر الرابع من استفراد باختيار أعضاء المكتب السياسي. وكان من الحكمة ترك الأمور للزمن، في هذه النقطة، لا أحد يستطيع أن يدعي أنه يمكن أن يعادل محمد بنسعيد آيت يدر، الذي استخلص سلوك الصواب من المعاناة الطويلة، من عيار المقاومة المسلحة ضد الاستعمار وهي عبارة سهلة الكتابة وصعبة في ميدان الصمود العملي ما يزيد عن 70 سنة بحكمة وهدوء وصلابة في نفس الوقت. إنه أيقونة الحركة الوطنية بكاملها وبتواضع كبير وحزم شديد.

لم يتبق من التيار الديمقراطي الشعبي إلا النزل القليل القليل. أما الحزب الاشتراكي الموحد فهو أكبر بكثير. القول بالتطابق بين الحزب الاشتراكي الموحد والتيار الديمقراطي الشعبي قول سيجر الحزب برمته إلى حتفه الأخير وما أخطره. قول فيه الكثير من التجني على الحقيقة، وفيه الكثير من الخطر على المؤتمر المقبل.

نعم، التيار الديمقراطي الشعبي جزء الوفاء الحقيقي للاشتراكي الموحد، لكنه في واقع الأعضاء المنبثين في مختلف الأقاليم لا يمثل إلا النزر اليسير. هذا الخلط لا ينسجم حتى مع الخط السياسي الذي يستند إلى الحراكات الشعبية المناطقية. لأن ماكينة الصراع الطبقي التي أفرزت – بسبب التوجه المتوحش لليبرالية المعولمة الحالية- ميكانزم الحراكات الشعبية هي آلة حركة 20 فبراير 2011. والفرق كبير بين ماكينة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب في السبعينات ومعركة الوحدة الترابية التي تلتها في القرن الماضي، وبين الثورة التكنولوجية والمواقع الاجتماعية وظاهرة الصحافي المواطن الذي ينشر مستنقعات الظلم والقمع والاستغلال الطبقي بواسطة الهاتف الذكي.

حتى بالمقاييس اللينينية من حيث معيار القياس لا أكثر، سيكون وعي من يطابق بين حفنة من تبقى من التيار الديمقراطي الشعبي وبين الاشتراكي الموحد برمته بمثابة ما تبقى من رمزية كاوتسكي وبيرنشتاين بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى وانشقاق الحركة الاشتراكية-الديمقراطية ما بين البلاشفة الروس والاشتراكيين الألمان (برنشتاين الالماني وكاوتسكي النمساوي).

ولأن فهم المسألة التنظيمية يلخص فهم المسألة السياسية برمتها، فالمرجو، إن لم يشعروا أنه المطلوب، وبإلحاح، أن يبتعد المخلصون الصادقون عن استسهال الحديث وهم ينسون أن الدياليكتيك في النظر والبركسيس في العمل يقتضيان الحذر، تلك خصلة بنسعيد الفريد من نوعه.

لماذا الحذر؟ لأن دياليكتيك الحديث يمر عبر تفاعل النية والظن. فللنية حالتان. يقابلها الظن بحالتين. قد تحسُن نية المتحدث وقد تسُوء. ومهما حسُنَت النية، فالتجارب المريرة داخل الاشتراكي الموحد لا تترك للمتلقي بلادة استقبال الكلام بحسن ظن. وإن لم يستعمل المتحدث الحذر المطلوب، فلا حق له مطالبة المتلقي استقبال كلامه بلا حذر. وانعدام الحذر هو الذي يترك الباب مشرعا يدخل منه شيطان الشك إلى ما بين التفاصيل. فكلامنا الذي نطلقه من المفيد مرافقته بملائكة الحذر، خير من ترك شيطان الشك يقنعنا بمهزلة الاستمرار في تجارب المآسي. أحد الحكماء المعروف بربطه بين المآساة والمهزلة في التاريخ أشهر من أن نردد اسمه هاهنا.

فالخلاصة الثالثة مفادها أن الاستراتيجية الديمقراطية في القرن 21، تتطلب مفهوم الكتلة التاريخية أيضا. خصوصا، ولمن لا يتمعن في توقيت انبثاق هذا المفهوم لدى الجابري مع البيان السياسي للاتحاد الاشتراكي حيث التصور الأولي بوضوح عن الملكية البرلمانية. يتعاقد فيها تحت سقف الدولة المغربية، من يهمهم إنتاج الثروة، ومن يدعون الحفاظ على الهوية المغربية باسم الدين ومن يرون استنهاض المغرب ليصبح بكل رسوخ على سكة القرن 21، بإعادة توزيع الثروة بشكل عادل دونما مساس بالمِلكية الخاصة. وإعادة توزيع الثروة بهذا المعنى، يعني دولة الحق بالقانون وهندسة تكافؤ الفرص والتمكين المتوازي بين المهارات والاختيارات المهنية.

والحاصل الديمغرافي في المغرب (40 مليون) مع مقاربة رسوخ تجارب الدولة منذ قرون في التدبير، سيجعل من المثير للسخرية عجز المغاربة عن بلوغ مراتب محترمة في القرن 21. وسرعة التغيُّر قبل التغيير، لم تعد ترحم أحدا.

دون هذا الوعي الصاحي، سيبقى كل حزب يساري مغربي مجرد لعبة وملهاة لفئة هاوية في السياسة. واهية الفكر والعمل.

أحمد الخمسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى