وجهة نظر

أحمد الخمسي في قلب الأوضاع(21):قصة الغرب: عندما كان دمنا في عروقهم في ضوء “مسارهم ومصيرنا”

على صفحة العزيزة، ذات القلب الطيب لطيفة بنعزيز، بالفيسبوك، التقطت واقتسمت نص الأستاذ الصديق عز الدين، ابن الفقيه العلاّمة المراكشي العلاّم، تحت عنوان: “مسارهم ومصيرنا”.

والنص الجيّد، عبارة عن تقابل متزامن بين الجديد العلمي للأوربيين والقديم المحزن من الجوانب المقرفة في تراثنا. سبق لسلسلة عالم المعرفة الكويتية أن اختارت أطروحة دكتوراه المثقف النبيه عز الدين العلاّم، ضمن منشوراتها. وهي معالجة أكاديمية للفكر السياسي المشرقي المعروف باسم الآداب السلطانية.

ملخص نص الأستاذ عزالدين، ذكر موجز لأسماء شهيرة لمفكرين أوربيين، بينما هم يفتحون آفاق الإنسانية على تنوير العقل، وتمكين الإنسان من رفاه العيش بواسطة الابتكارات التكنولوجية، كان “علماؤنا” يلعبون دور “حراس المعبد الخرافي”. فيبددون “ثروة الزمن” (بصيغة الدالاي لاما) في تأليف الكتب للإطناب في ما يحرّم استعمال الاختراعات الغربية.

ولا يخفى على ما نتج عن ذلك، من تبديد وقت تاريخي طويل، ومن انزلاق في مستنقع التخلف الذي ما زلنا غارقين في براثينه. ولو أن مصطلح “الجدل البيزنطي” يحكي لغة ما عاناه الغرب قبلنا، من انشغال بتوافه الأمور في أوربا نفسها، عندما كان “علماء/فقهاء” روم الشرق في بيزنطة، منشغلين بتدبيج الكتب حول جنس الملائكة هل هي أنثى أم ذكر، وحول الشيطان هل هو بحجم السماء أم صغير الحجم بحيث يستطيع المرور من خرم الإبرة؟ ولما فاجأ الترك البيزنطيين واحتلوا عاصمتهم القسطنطينية سنة 1453، كان روم الشرق قد أضاعوا ثمانية قرون ما بين منع الأمبراطور البيزنطي تبذير وقت المسيحيين بمثل هذا الكلام الفارغ سنة 522م، أي قبل ميلاد الرسول بنصف قرن وبين دخول المسلمين عاصمتهم سنة 1453. أي أن الأوربيين أضاعوا ساعتها ما يقارب تسعة قرون في “النقاش البيزنطي” الفارغ، مثل ما فعل فقهاء المغرب بعد ذلك.

لعب الترك أنفسهم وقد أصبحوا خلفاء باسم المسلمين جميعا، دور الاستثمار في الحرب والقتل، لتوسعة سمعتهم، باسم الإسلام، والحق يقوله فولتير نفسه، أنهم كانوا في تاريخ البشرية أرحم الغزاة بالشعوب المغزوة، لأنهم احترموا أديان الشعوب المحتلة أرضهم، لكنهم أقاموا جدار اللغة التركية حاجزا، وتلك خطيئتهم الاستعمارية في التاريخ، بين العرب وكتبهم السابقة في الطب والكيمياء والرياضيات، وفسروا الإسلام كله بالغزو العسكري ليؤسسوا امبراطوريتهم من بلغاريا الى اليمن إلى الجزائر. واغتالوا سلطان المغرب عن طريق جواسيسهم وعلقوا رأسه على أسوار نفس القسطنطينية. فانتشرت الأمية بين الشعوب الإسلامية، بل منعوا (سنة 1555) استعمال المطبعة، مثلهم مثل الكنيسة الاسبانية.

ولاستخلاص دروس التاريخ لدى الغرب ولدينا بما نتشابه فيه، أن عقلانية ديكارت وسبينوزا لم تمنع السلطة السياسية في فرنسا خلال قرن الأنوار نفسه من منع هيلفيتيوس الذي ذكره الأستاذ العلاّم من نشر كتابه “حول الإنسان” (بتهمة الخروج عن التفسير المسيحي للإنسان)، كما حكمت محكمة تولوز الفرنسية في أوج الأنوار بحرق أب (سنة 1763م لأنه بروتستانتي في مدينة كاثوليكية) بتهمة قتل ابنه، وقد اشتهر فولتير خصوصا لأنه انتقد حكم المحكمة وتابع البحث لتوفير براءة الأب من تهمة القتل، ورُدَّ له الاعتبار وهو ميت طبعا.

وفي السنة التي توفيَّ فيها هيغل (1830) كما يشير الأستاذ العلاّم، من بلد الأنوار انطلقت الجيوش لاحتلال الجزائر. وذلك، تغطية وتضليلا للرأي العام الفرنسي الذي ثار على الحكم في باريس في نفس توقيت أجواء ثورة يوليوز المسماة ثورة الأيام الثلاثة المجيدة la Révolution des Trois Glorieuses.

وبعد ذلك بأربعة عشر سنة، أي سنة 1844، كان ماركس الشاب يكتب عن الأسرة المقدسة التقليدية والمجتمع المتخلف، لكن الجيش الفرنسي، في نفس الوقت، خطط لثلاث عمليات ضد المغرب: معركة ايسلي نواحي وجدة، وقنبلة طنجة من البحر، واحتلال مؤقت للصويرة. وبعد هجوم روسيا على تركيا في منطقة القرم، وهزمها لها، جاءت اسبانيا إلى تطوان بعد ثلاث سنوات لاحتلال تطوان (1859). ما يهمنا هنا هو هذا الغرب المتنور كان في نفس الوقت يصنع امبراطورياته الاستعمارية على حسابنا. فقد رقي الماريشال بيجو الفرنسي إلى مرتبة دوق ايسلي، ورُقِّيَ أودونيلجينيرال احتلال تطوان الى مرتبة دوق تطوان، و”بفضلها” أصبح رئيس الحكومة في مدريد بعد ذلك. هكذا على جثث المغاربة أصبح الغرب المتقدم يصنع لقادته أسماءهم الخالدة بينهم.

نعم للغرب عقل نيّر، لكن بفضل ذلك يعرف كيف يُعلي في سماء الخُلد أسماءَ جنوده سواء انهزموا أمامنا أو انتصروا علينا.

***

فرنسا ما زالت تؤمن بأسطورة رومان رولان، بحيث تتردد “أنشوته” على مسامع تلامذتهم الصغار وتخلده رسومهم المتحركة، وقد هزمه المغاربة وقتلوه في جبال البرانس بعدما كان آتيا ضمن جيش شارلمان لغزو الأندلس ولم يفلح في ذلك.

والاسبان لديهم أسطورة بطلهم الوهمي Le Cid(السَّيِّد في الأصل العربي) ، توقف عند هذا الفارس الاسطوري في المخيال الاسباني المؤرخ الهولندي الشهير دوزيDozy. وكشف أن بداية انتشارها جرت منذ صراع المسيحيين مع الموريسكيين في منطقة بلنسية. بعدما أصبح تابعا لأمير سرقوسطة في عهد ملوك الطوائف، ولما صعد المرابطون انتزعزها منه. وببطولته استردها مرة أخرى. ثم توفي لما فجعه فقدان ابنه الوحيد. من يزور اليوم اقليم كاستيا-ليون الاسباني سيشهد تمثال الفارس “السيّد” في ساحة عمومية من مدينة برغس فوق الحصان شاهرا سيفه. ولعل مؤسس الرواية الحديثة في أوربا سيربنطيث لم يهتم سوى بملهاة الاسبان بأوهام فرسانهم أمثال السيّدLe Cid ومحاربة الطواحين بدل العمل المنتج.

انتقلت أسطورة لوسيد الإسبانية إلى فرنسا وصاغ كورنيْ مسرحيته الشهيرة بعنوان لوسيد. وبالمناسبة، يعتبر كل من فولتير والمؤرخ الفرنسي الشهير ميشلي تتلمذ فرنسا في القرن السابع عشر على إسبانيا بتراثها الأندلسي، بحيث تلقّح الجذر الافرنجي بالروح الرومانسية الموريسكية. بل لم يكن لويس الرابع عشر ليستلهم عطمة قصر فيرساي في باريس لو لم يشيّد الاسبان قصر الاسكوريالمستوحا من القصور الموريسكية في الأندلس. لن نذكر رواية شاطوبريان حول ابن السراج الأندلسي، ولا مركز اهتمام ارنست رونان المركزي بابن رشد والرشدية، ولا اتهام كلا من سبينوزا وقبله ايراسم بالرشدية من باب الهرطقة والالحاد.

هذا التأثير الموريسكي الذي أصبح مؤسِّسا للمسرح الكلاسيكي الفرنسي قبل موليير وراسين، جاء بعدما سبق شيكسبير بجعل بطلين مغربيين في أشهر مسرحياته: المغربي عطيل، وأمير مراكش الذي طلب خطبة البطلة في مسرحيته الثانية تاجر البندقية. إذن التأثر الانجليزي بالأبطال المغاربة مباشرة سبق التأثر الفرنسي بأبطال الإسبان في عهد الأندلس.

لن نكرر أن إيطاليا التي كانت مهد النهضة الأوربية قبل غيرها، تمكنت من هذا السبق لأن بذور الشريف الادريسي في جنوبها بصقلية وبذور حسن الوزّان في قلب روما.

ولما ذكرت الهولندي دوزي، فللاشارة أن الاستشراق لم يكن دائما نتيجة للمخطط الاستعماري الفرنسي والبريطاني، بل كان نوعا من العشق والولع بالنموذج الأندلسي في فن العيش ودمج الفن والأدب ومتعة الحياة مقارنة مع ما عاشته أوربا في نفس التوقيت من شظف العيش والزهد المفرط. فإذا كتب المستكشفون الاستعماريون عن عدم اهتمام ملوك الغرب الاسلامي ببناء الطرق والقناطر، فقد علموا أن الحمام العمومي الذي كان مؤسسة عريقة في المدينة الاندلسية لم تعرفه أوربا سوى بعد الاطلاع على تصاميم المدن الأندلسية. ومن تمّ اعتراف فولتير وميشلي بالدور المدني والحضاري الذي نقل المجتمع الفرنسي من طبيعة القبائل الافرنجية المحاربة الى دور سكان المدن المتحضرة.

فالصورة القزمية التي نحتفظ بها عن أنفسنا من الكتابات الفرنسية الاستعمارية قلصت الملامح الفعلية الكاملة لصورتنا الحقيقية واستبقت منها فقط مرحلة القرون الخمسة الأخيرة عندما انقلبت الأوضاع رأسا على عقب فيما بيننا وبين الغرب. بينما الغرب نفسه ما زال يُعلي التراث اليوناني والروماني الذي مضى عليه ألفا عام. تركيزنا على القرون الخمسة الأخيرة فيه الكثير من نفسية الوعي الشقي مع توابل الأوضاع الحالية التي نعيشها.

أخيرا، كتب أحد الفرنسيين سبق أن عاش أسيرا أكثر من عشر سنوات بالمغرب، عن قصر البديع بمراكش، بلد العزيز عز الدين العلاّم، وقد انبهر بسقوفه وحدائقه واستخلص أن افريقيا كلها لا تملك قصرا عظيما مثله.

هذا وجه ثان من “مسارهم ومصيرنا” أيضا.

ذ.أحمد الخمسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى