ثقافة و فن

من “الإخوان” إلى “قرعة دميريكان”.. الضحك متواصل.

يبدو أن السينما المغربية أصبحت تتجه رأسا نحو السينما الجماهيرية “الشعبية”، التي تسعى في المقام الأول، إلى المراهنة على شباك التذاكر، من خلال تقديم أفلام تبحث عن الضحك والإضحاك، ومحاولة اقناع الجمهور، بكل الطرق، المجيء للقاعات السينمائية، ومعانقة تجارب لا يهمها غير التصفيق، وعد عدد الوافدين. وإذا كان فيلم “الإخوان قد انطلق بشكل جد ناجح في جر الجمهور للقاعات، حيث حقق بقاعات ميغاراما وحدها خلال يومين فقط، السبت والأحد الماضيين، سبعة وعشرون ألف متفرج، وهو رقم كبير جدا، مقارنة مع ما كان يتوافد من قبل لمشاهدة أشرطة مغربية، كانت “تخيب” الأمال، في عمومها، لأنها أفلام تغازل النقاد، وتراهن بالأساس على المهرجانات، ولا يهم أصحابها سوى تصفيق أصحاب الياقات والمتحذلقين، والعارفين العميقين الذين يجلسون في الحانات للمناقشة، ومنح كل فيلم ما يستحق من نجوم وجيمات (لايكات)، حسب تقديراتهم ومعرفتهم، دون نسيان تصفية الحسابات مع من لا يعجبهم، أو لا ينتمي، روحا وكأسا، للوبياتهم المثقفة جدا، ولو صنع تحفة تضاهي “المواطن كين”….
يوم الأربعاء 18 ماي 2022، يدخل الفيلم الروائي الأول لهشام الركراكي “قرعة دميريكان” (Green card)، هو الآخر، غمار التنافس على جذب الجمهور ، وهو تنافس لن يكون سهلا مع التواجد المتواصل لفيلم “الإخوان” في القاعات. رغم أن أجواءه الفكاهية مختلفة، حيث يقدم لنا قصة خفيفة ظريفة لصديقين شابين لا يفترقان، يبحثان عن وسيلة للهجرة، من أجل تحقيق حلمهما في حياة أفضل، لذلك يقرران المشاركة في “قرعة أمريكا”. متعاهدان بكل ما في الصداقة من معنى على شعار: “نهاجر معًا، أو نبقى معًا”. الحظ سيحالف لبيب (هاشم بصطاوي)، بينما يصيب حبيب (فيصل عزيزي) بخيبة أمل كبيرة. يجعله يرى حلمه الأمريكي يتلاشى أمام عينيه واماله تنهار ، لكن فكرة جهنمية تخطر على بال صديقه، الذي يقترح عليه التنكر بزي امرأة لكي يصطحبه معه “كزوجة” إلى ديار المهجر، فتقودهما سلسلة الأحداث إلى العديد من المغامرات المثيرة، والمواقف الكوميدية، ستقلب حياتهما رأسا على عقب. خاصة أنهما يسعيان للنصب على “خونا” (عزيز حطاب) الذي هو نفسه نصاب، أو الرجل الذي يعشق النساء حد الوله، فينجحان في تحقيق مرادهما، من خلال إغوائه، وجعله يسقط في حب فاتي فلور أو فاطمة الزهراء، الشخصية النسائية المزورة، ويستطيعان الإفلات، والهرب من مطاردته، بعد تزوير الأوراق، وسرقة أمواله من الخزنة، وبعدها عبور الجمارك، وركوب الطائرة نحو أمريكا أرض “الأحلام”…..
إلى جانب القصة المركزية للفيلم، قدم الشريط مجموعة من المواقف الاجتماعية في قالب كوميدي، من خلال شخصيات سينمائية قديرة، فقد اختار المخرج هشام رڭراڭي لائحة مميزة من الممثلين الموهوبين، مثل: فيصل عزيزي وعزيز حطاب، وهاشم بسطاوي، وفاطمة الزهراء بلدي، وحسناء المومني، ونفسية الدكالي، وسعاد النجار، ومحمد حميمصة، وحميد النيدر…..
حاول (Green Card) “قرعة دمريكان”، جمع كل المكونات، “الفنية والتقنية”، ليوفر للجمهور لحظات من الضحك والمتعة المقرونة بالحركة. ضحك حاول لمس المشاعر، وطرح قضايا نابعة من واقع المجتمع المغربي، واستثمار ما يسود بين بعض الشباب المغربي من شعور بالإحباط والإقصاء، نتيجة تراكم وضغط الاكراهات الاقتصادية والاجتماعية، والانسداد الأفق، والأحكام الخارجية، وعبثية الوضع، وتسلط المتسلطين على رغبة الشباب في تحقيق أحلامهم.
الحبكة الرئيسية للفيلم تأسست على مفارقات التشبه بالجنس الآخر، من خلال لبس قناع نسائي مثير، مع توظيف بعضا من الجرأة في التعامل مع المحيط، ورصد واقع التحرش بالنساء في الشارع العام والإدارات، نتيجة سيطرة الفكر الذكوري القائم على تقاليد النيل من النساء، وتعريضهن للاضطهاد ماديا ومعنويا. الحبكة، وتفرعاتها الكوميدية، كانت الرافعة الأساس، والخلفية التي حاولت أن تسند ظهر الفيلم وتعضد هويته، ومنحه بعضا من المصداقية، الشيء الذي سمح، ونحن نشاهد الشريط، بتجاوز بعض الهنات الإخراجية، والمزالق التوضيبية، وهي تفاصيل هامة قللت من قوته التعبيرية، حيث بدت بعض المشاهد وكأنها موضوعة هكذا دون أي وازع تقني، أو انتباه للبناء السردي وتواتر المعاني ، مثلا مشهد سرقة الخزنة التي جاءت مباشرة بعد مشهد عشاء الأصدقاء، حيث لم نحس بأن هاك رابطا يجمع بين المشهدين، بل أحسسنا وكأننا قفزنا في الفراغ، وانتقلنا من حالة لحالة أخرى لا علاقة بينهما. كما أن الموسيقى التصويرية، لم تعمق البعدين الفني والتقني، بل وضعت هكذا، لتأتي في كثير من الأحيان مزعجة لا علاقة لها بالصورة ولا تضيف لها شيئا، مثلا (أغنية يما) الموظفة في خلفية مشهد غضب خطيبة حبيب وتركها له، وحتى على مستوى الميكساج فقد انتصرت (الموسيقى) وفرضت نفسها لحد الازعاج في بعض اللحظات…
ورغم ما يمكن أن يقال عن الفيلم، فإن ذلك لا يقلل ولن يقلل من قيمته وقوته، من حيث أنه راهن مراهنة كبيرة على التطرق لموضوع لم تتطرق له السينما المغربية من قبل، موضوع يصعب القبض عليه في مجتمع أضحى جزء كبير من أبنائه يمارسون الوعظ الديني، ويفتون في السينما والفن لحد البله، وركوب موجة التكفير، وهي موجة دفعت بكثير من الفنانين المغاربة إلى التراجع إلى الوراء والاستقالة في الدفاع عن قيم الفن، كنتيجة لانعدام الشجاعة على المواجهة، وممارسة حق الإبداع بكل أريحية.
هشام الركراكي في تجربته الروائية الأولى، كانت له شجاعة حقيقية في صنع فيلم ساخر ضاحك، دون التفكير في ما يمكن أن يقول عنه قليلو المعرفة والحياء من الباحثين عن الأخلاق في ثنايا فن لا يعترف بالأخلاق إلا أخلاق الإنتصار للإبداع، والوفاء لقضايا المجتمع. فيلم يسير سيرا واعيا على خطى السينما العالمية، من حيث الذكاء في تناول ومقاربة الموضوع، وتجذير الرؤية التي حاولت التحكم فيه، والإلتزام بأعراف كوميديا ​​”التشبه بالجنس الآخر ” (الشخصية تضطر الى التنكر في لباس امرأة بالنسبة للأدوار الذكورية، والعكس صحيح بالنسبة للأدوار النسائية)؛ أسلوب (وكما جاء في الملف الصحفي للفيلم) نشأ منذ بداية القرن العشرين مع الأفلام الصامتة، بما في ذلك فيلم شابلن “امرأة”، وستان لوريل في فيلم”That’s my Wife”، وبيلي وايلدر” في “Like it hot Some “، أو حتى الكوميديا المصرية في خمسينيات القرن الماضي، مع المبدعين إسماعيل ياسين وعبد المنعم إبراهيم، ومؤخراً محمد هنيدي.
شكرا للسينما التي تفكر في الجمهور الواسع، السينما المدججة بالوعي الخلاق، الوعي الذي يكرس سينما الضحك المحشوة بكثير من قيم الإلتزام بالأعراف الفكرية والفنية القادرة على جر الجمهور للصعود إلى الأعلى بدل النزول للأسفل.
شكرا هشام الركراكي، شكرا للطاقمين الفني والتقني، وشكرا لمن حضر العرض الأول، وبادل الفيلم حبا بحب….
والكلمة الآن للجمهور الذي يجب أن يقول كلمته بالذهاب للقاعات لمشاهدة “قرعة دالميريكان” ومعه كل الأفلام المغربية، كوميدية كانت أو تجريبية….
ذ.عبد الاله الجواهري / مخرج مغربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى