أحمد الخمسي في قلب الأوضاع(27):فصل المقال فيما بين حالة اليسار ونقص المراجعة الفكرية من اتصال (1)
لما نشرتُ ملخص ما تعب السي محمد صلحيوي في جمع معطياته وتحليلها وتركيبكها، ضحك صديقي وتساءل: عندما كتبتَ تلك الخلاصة المقرضة للصلحيوي القرض الحسن، هل أردتَ أن تقول أن للأغلبية منظرها؟
التوضيح المباشر الذي أجبتُ به صديقي، ما معناه كالتالي: إنك من الناس الذين لا يتوقفون عن الكتابة. وتعلم أن النوع الصعب من الكتابة الجدّية هو ذاك الصنف الذي يستند على وسائل إثبات المعلومة وعلى مستندات الموقف. بحيث يتجلى الجهد الذي بدله الكاتب من الاستشهادات ومن التواريخ ومن الاحالات على التصريحات ومن مسلسل الردود. أما أن يمتد الحيز الزمني للمكتوب على مرحلة سياسية بكاملها فالجهد مركب ومضاعف التعب. لذلك، رأيت من الإنصاف أن أبلّغ امتناني وتقديري للسي محمد صلحيوي إلى القراء.
وضمن التوضيح أضفت: أما استنتاجك بتمريري عبر المقال أن للأغلبية مُنَظّرُها، فبأحد المعاني نعم. وبمزيد من التدقيق، الفرق شاسع بين الأغلبية المفككة سابقا وبين من تبقّى من الأغلبية، فأنت تعلم من كان ينظّر للأغلبية المفكّكة السابقة ويكتب لها أوراقها. ربما تعني من تبقّى من الأغلبية اليوم. وعند هذه النقطة، من المفيد أن يكون لمن تبقّى من الأغلبية المفكّكة السابقة من ينظر لمن تبقّى. تلك حجة على مناعة الحزب الاشتراكي الموحد بكل تياراته. ولو أن من تبقّى من الأغلبية السابقة يكاد يكفر اليوم بوجود تيارات داخل الحزب الاشتراكي الموحد. لأن المسحة التي ارتبطت بالتيارات لدى أنصار الأغلبية، هي إجازة العمل بالتيارات فقط كمكيف للتوحيد الصعب وأسلوب للتساكن الصعب. وشخصيا كنت أُلطّف حساسية الرافضين للتيارات بالقول بدور المكيّف والملطّف للتيارات. وَ هُمْ مَنْ كانوا ملتئمين داخل نفس “الأغلبية” يعلمون المعاناة المتبادلة فيما بينهم. بالأحرى القبول العقلاني البارد بالتيارات كتمرين على الدمقرطية بين المنظومات الفكرية المتكاملة داخل نفس الحزب. كان دواء الالتئام وصفة متكاملة لرأب التناقضات “المدرسية” المتجاورة المتنافسة التي تعاني من الاحتكاك الشرس بهدوء. سرعان ما كشف السجال الحاد فيما بينهم في صيف الانشقاق فيما بينهم السنة الماضية (2021). سجال نزل بأصحابه منزلا مأسوفا عليه حتى من طرف خصومنا جميعا.
إذن، الخلاصة القائلة أن لمن تبقّى من الأغلبية مُنَظّرُها خلاصة جيّدة. لأن ذلك، سيغذي المؤتمر المقبل بمراجعات وتصحيحات تلائم ما بين الحالة التي يوجد عليه الحزب بعد الانشقاق وبين المهام المنتظرة منه في الحياة السياسية للمغاربة. فالجهد المبذول للحفاظ عليه ترك إنهاكا معنويا، تقتضي مواصلة المسيرة، بعد النقاهة، استرجاع الحزم والعزم، ولا يخفى الدور النظري في استجماع الخلاصات وتركيز الانتباه ورسم الطريق.
ثم إن التحاور بين المكتوبات تخصيب للخلاصات، وتلاقح بين المواقف.خصوصا ما يرتبط بصدد تجربة الحزب تحت سقف الحياة السياسية برمتها ومن خلال التشابك بين استراتيجية اليسار السبعيني وبين التراكم العام، إذ لخصت الحلقات الست للسي محمد صلحيوي أهم محطاتها.
كان المقال السابق حولها مقدمة ضرورية.
وما يلي مهمة ضرورية، تكاملية في النظر، تفاعلية ما بين التيارات. والمكتوب التالي ها هنا، من باب “فصل المقال”، بين تأويل من تبقى من الأغلبية لمهام المؤتمر ومن خلال خلاصاته مهام الحزب، وبين تأويل من لا يرتاحون حتى يدققوا في التعاقدات المبدئية من جديد. وشبه الجملة من الجار والمجرور لا تعني شطب التجربة. بل تعني التقدم في التجربة على أسس ترقى بما ظل المنتمون لهذا الحزب اليساري اللافت للانتباه، يشتغلون على بلوغه من استراتيجيا وبرنامج وتنظيم ووسائل عمل وخطاب سياسي.
فقد سبق لصاحب “فصل المقال لما بين الشريعة والحكمة من اتصال” (ابن رشد)، أن ميّز بين تأويل الفقهاء وتأويل أهل النظر.
وللقياس بين ما ميّز به ابن رشد وما يمكن تأويله في العمل الحزبي، هو الشبه ما بين موقع الأغلبية في كل مؤسسة حيث تطمئن إلى المسيرة الجارية لتنتبه لما يقوله القانون (الحزبي طبعا) في هذا الباب أو ذاك، وما لا يقول به القانون.منظرواالأغلبيات في المجتمع الشرقي غالبا ما يشبهون الفقهاء في ذلك، كونهم يطمئنون الى حدود ما تقول به الشريعة القائمة وما لا تقول به. بينما يذهب أهل النظر الى ما تستوجبه الحكمة في كل عصر. والفارق بين الشريعة الواحدة وبين الحكمة هو أن الحكمة تكاد تكون الصيغة القديمة للعلم المقارِن بين الشرائع المتعددة في الحقب المختلفة وفي المجتمعات المختلفة. يكاد هيغل في كتابه “حياة المسيح” يجسد سلّ شعرة الحكمة من عجين الشريعة العبرانية عندما وصف دور المسيح في العودة بالدين بطابعه الانساني التحرري، تماما مثلما نفهم من البعثة النبوية بلا ايديولوجيا مذهبية جامدة ولا شحن ايديولوجي متعصب.
أعطي مثال عن مضامين جزئية ذكرها السي محمد صلحيوي بصفته يساري يحلل ويركب الذاكرتين الشعبية والرسمية للمغاربة. وعندما يأتي بالمعلومات المعطيات هنا نستحضر العقل اليساري النقدي بذل الذهنية المغربية الوارثة لمصدرين موجهين اثنين: مكتوبات الحركة الوطنية ومكتوبات الكتاب المدرسي الذي منه أخذ الأساتذة ما لقونا إيّاه في حجرة الدرس ولا يخرج عن سلطتين: سلطة الثقافة المخزنية التي لها خطوط حمر ما خارجها من معلومات لم تدرّس للمغاربة في المدرسة، وسلطة الثقافة الفرنسية أيضا التي هيّأها الفرنسيون كي لا يعرف سكّان المستعمرات غيرها.
التقاط معلومة متداولة بذهنية الحكة الوطنية لا بد أن يتم بتيقظ العقل النقدي على مسافة من صيغتها المتداولة.
***
ينطلق السي محمد صلحيوي من بداية القرن العشرين فيذكر معلومة رسخت في أذهاننا معزولة عن سياقها كما لو أنها زرعت زرعا كي تُشغِلَ بالنا دون غيرها. لكن بلا تدبّر ولا تشبيك بالسياق العام.
إنها معلومة مسودّة الدستور التي نشرت في مجلة لسان المغرب سنة 1908.
ها هنا نبدأ باستحضار اليساريين لمعطيات مشتتة، معزولة، ربما منتقاة بعناية لهدف خفي، غامضة، ورثوها عن ثقافة الحركة الوطنية. منها الوصفة القائلة بأن “الأخويين نمور” الشاميين، اللذين دبجوا للمغاربة مسودّتهم الأولى للدستور؟ وقد أقر السي محمد صلحيوي الغموض حول من يكون هذان الأخوان؟ ولا بحث جامعي توقف عند هذا المعطى، بحيث تجهل أجيال اليوم هذا المعطى الذي استخدمه مهندسو الكتاب المدرسي مباشرة بعد الاستقلال. لغرض ما. هل كان غرضهم تحويل انتباه الناس عن الصراع الحاد على السلطة بهدف إظهار طريق سلمي دستوري لحل مشكل السلطة المتنازع حول شرعيتها، بين من ماتوا من أجل الاستقلال وبين من قفزوا الى الحكم بتعاون مع فرنسا مستعمر الأمس؟ الاستعانة على ذلك عبر التجارب المقارنة ظهر – ربما- لأصحاب الطريق الدستوري أنها تجارب محفوفة بالصراع الحاد وظهر أن مكانتهم الفعلية في السلطة مكسب لا يقبل حتى مخاطر الطريق الدستوري التي قطعته الشعوب الأخرى.
سنة 1908 في المغرب، كانت مفترق طرق داخل مربع السلطة نفسه، بين نهاية المرحلة العزيزية وبداية المرحلة الحفيظية القصيرة. سنة 1908 كانت مغامرة الجيلالي الزرهوني (بو حمارة) تكاد تنتهي (1909). سنة 1908، كانت ترتيبات فرنسا قد اجتازت احتلال وجدة وضرب الدار البيضاء من طرف فرنسا، خطوة فعلية نحو تثبيت الاحتكار الفرنسي للحضور الأجنبي في المغرب بعد مؤتمر الجزيرة الخضراء (1906).
لكن ما لا يخطر على بال محلل استراتيجي وهو يذكر سنة 1908 المغربية هو نسيان سنة 1908 المشرقية أو جهل سنة 1908 العالمية.
العشرين يذكر النهضويون العرب في مطلع القرن سنة 1908 المشرقية وهي أحداث تدور حول إقالة السلطان العثماني عبد الحميد الثاني الذي طال حكمه ثلث قرن على رأس الامبراطورية العثمانية (1876-1908). ومن المسيحيين الشاميين العرب الى السلفي الشامي محمد رشيد رضا، الكل يعترف باستئثار السلطان عبد الحميد الثاني بالحكم بعدما ألغى الدستور الذي شكّل به بداية شرعية حكمه (1876-1878).
بالقرب من تركيا، كانت سنة 1908، تعرف في المملكة الفارسية تطورات “الثورة الدستورية” التي انطلقت سنة 1905، واكتملت سنة 1909.
بينما في نفس الفترة عندنا وقد استقرت السياسة الاستعمارية لفرنسا على تهيئة الجو المغربي والعلاقات الدبلوماسية لاحتلال البلاد لم يكن في صالحها أن تخبر صحافتها المغاربة كون ايران – بدل الاستعمار- اشتغلت على طريق الاصلاح الدستوري. وقد أنقذ الاصلاح الدستوري ايران من دخول الاستعمار اليه. لأن المسلسل الفرنسي في المغرب بدأ عسكريا منذ سنة 1903 الى 1906 عندما كان ليوطي يقود الجيش الفرنسي لاحتلال التوات وبشار وتندوف، وقد ألف ليوطي كتاباً بعنوان: Vers le Maroc : 1903-1906 . بينما كانت فرنسا تُشغلُ الرأي العام الدولي بمؤتمر الجزيرة الخضراء وتدعي أنها تخوض المعركة الدبلوماسية فقط ضد ألمانيا، لتحقيق الاصلاحات الادارية في المغرب حتى يدخل عصر الاستقرار السياسي المناسب للاستثمار الرأسمالي الغربي. مثقفونا اليساريون، ومنهم السي محمد صلحيوي يجهلون الثورة الدستورية الايرانية ويجهلون حَمْلَة ليوطي وكِتَاب ليوطي. ولا نتخيل أنهم قرأوا محاضر مؤتمر الخوزيرات حتى. ولا بحثوا في آلة المعرفة الالكترونية عن كل ما يهم ماضي المغاربة مشتبكا مع الوقائع والظرفيات والسياقات العالمية المتزامنة والسابقة واللاحقة.
***
هذا مثال سقناه من السرد نفسه الذي كتبه السي محمد صلحيوي. سرد منقول عن الكتب المدرسية وعن كتب علال الفاسي والمستعاد من طرف عبد الكريم غلاب وغيرهم. لم نبحث فيه وقد أصبحنا محاطين بغابة خضراء منعشة حيث الطريدة الكتبية متوفرة بكثرة إن نحن اخترنا اصطياد ما يطور نظرنا لتطور بلدنا في السياقات والسياسات الدولية كل فترة على حدة حتى نفهم الوعي الطبقي الفوقي الذين صيغ لنا كوعي وطني شامل. لكنه منتقى بعناية ومنقوص بسبق إصرار.
لكي نتوحد مع هموم الشعب علينا أن نبذل المجهود الملائم لنقدم للشعب معطيات تمّ إخفاؤها بعناية على أدمغتنا جميعا. تلك مهمة من مهام اللحظة النظرية التي تنتظرنا في المؤتمر وهي الطريق لاستبدال هواجس الهرولة عند الدوائر الرسمية مدعين توليف “عرض سياسي جديد لمغرب الأفق الجديد”، باقتراح أجوبة تذلل أمام المغاربة جميعا الفهم التعاقدي الرصين لفتح باب الملكية البرلمانية دون تخويف أحد.
لأن السياسة المنتجة ليست السياسة التي تنبني على الضد، بل السياسة التي تنبني على القضايا العادلة. ومهمة من يشتغل لانتصار قضايا عادلة لا ينهك جهده بالرد على خصومه، بل يشتغل لتدليل الصعاب أمام برنامج القضايا العادلة. تلك هي المساحة بين الوعي الشقي والوعي النقدي.