أحمد حبشي : في ذكرى احمد المرابط
من هو الأستاذ أحمد أحمد المرابط :
من موالد سنة 1936 بزاوية سد يوسف قبيلة بن ورياغل في حضن جبال الريف، تلقى تعلمه الأولي بالمسيد ودأب على حفظ القرآن، قبل أن ينتقل إلى مدينة تطوان حيث تلقى تعليمه الإبتدائي والثانوي بها، وبعد حصوله على الباكالوريا سنة 1957، اختار أن يستكمل دراسته العليا بمصر، إسوة ببعض الطلبة الذين كانوا يرسلون في بعثات طلابية لتعميق دراستهم في مجالات مختلفة.
اختار مصر لما كان لها من مكانة علمية في تلك الفترة في العالم العربي والإسلامي، وأساسا ليقابل القائد التاريخي للمقاومة في الريف محمد بن عبدالكريم الخطابي، الذي حظي ومازال بتقدير ومحبة سكان الريف وعموم الشعب المغربي، الذي كان شديد الإعجاب بشجاعته وشخصيتها ثم عاد إلى مدينة تطوان ليدرس بجل ثانوياتها مادة الفلسفة.
في مصر عاش أجواء الجدل والنقاش السياسي والفكري حول طبيعة استقلال المغرب وما عانته الحركة الوطنية من تصدعات وتطاحن حول الريادة وتدبير الشأن العام.
ارتبط في مساره هذا بالأمير وأصبح واحدا من أبرز مرافقيه المربين (إلى جانب الهاشمي الطود، خالد مشبال، محمد شهبون…) مما أتاح له فرصا عديدة لمقابلة بعض زعماء الحركة الوطنية المغربية والوقوف على حقيقة آرائهم، وتصوراتهم حول مستقبل المغرب وطبيعة السلطة وصلاحيات مؤسسات الدولة وموقع الأحزاب بها.
في الحوار الذي أجرته معه مجلة الربيع ببيت ابنته بالدارالبيضاء حيث يقضي فترة نقاهة بعد العملية الجراحية التي خضع لها، يتناول الأستاذ أحمد المرابط الأوضاع في منطقة الريف إبان الفترة الإستعمارية وفي مرحلة ما بعد الإستقلال ثم الوضع الحالي وتداعيات الحراك الشعبي وما عرفه من تطورات وأحداث وصولا إلى دور الفاعل السياسي وما تتطلبه المرحلة. أحمد حبشي
xxxxxxxxxx
يستعيد الأستاذ أحمد المرابط فترات من حقبة تاريخية عاشها وعايش الفاعلين الأساسيين فيها، تفاعل مع مختلف الآراء وتبنى مواقف نقدية سعت إلى التحذير من ستؤول إليه الأمور في شمال ألمغرب نتيجة الإهمال الذي عانت منه منطقة الريف بكاملها، سواء في المرحلة الإستعمارية حيث الإستعمار الإسباني لم يعمل على وضع البنيات التحتية الأساسية والمؤسسات التنموية، على مستوى تشييد الطرق وخلق مؤسسات اقتصادية واجتماعية تؤهل المنطقة للإندماج في المسار العام للتحولات التي عرفها العالم على جميع المستويات، إسوة بما قام به الإستعمار الفرنسي في المناطق المغربية التي كان يحتلها. وضعية متدهورة لم يتم تدارك الإهتمام بها في فترة الإستقلال، بل على العكس من ذلك صار الحال من سيئ إلى أسوأ، وبقي المغرب في خانة المغرب غير النافع، وقوبلت كل تطلعاته بالقمع الشديد والمعاملة القاسية، في الوقت الذي كانت المنطقة في أمس الحاجة إلى أهم البنيات التحتية من اطر ومستشفيات ومؤسسات تعليمية، حتى تساير الركب وتحظى بشيء من الإنصاف لما قدمه رجالاتها من تضحيات في الدفاع عن استقلال البلاد ووحدتها، وما تعرضت له من شراسة في الرد على فعلها النضالي القويم ووقوفها ضد كل مخططات الإبادة التي استهدفتها.
يقول الأستاذ أحمد عن واقع الحال في الفترة الإستعمارية: إن المرحلة اتسمت بالعنف والقسوة في معاملة الساكنة والمبالغة في إذلالها، ويستحضر ما تعرض له الصدي شعيب من تنكيل وإرغامه على قطع المسافة بين تطوان والحسيمة مشيا على الأقدام، كمثال على السلوك الهجين الذي اعتمده الإستعمار الإسباني في معاقبة كل المعارضين لوجوده في المنطقة والمقاومين لتسلطه. وما ميزها كذلك هو ضعف الأداء الحزبي في النهوض بوعي المواطنين، فالأحزاب التي كانت تنشط في المنطقة نوعان، الأحزاب المرتبطة بالإستعمار وأجهزته الإستخبارية، والأحزاب الوطنية، حزب الإصلاح بزعامة عبدالخالق الطريس وحزب الوحدة يقوده المكي الناصري، وهذان الأخيران انشغلا أكثر بصراعاتهما الذاتية على الرغم من تطلعاتهما الوطنية، في إهمال واضح لما كان يجب القيام به على مستوى التأطير والرفع من المستوى التعليمي للساكنة لمواكبة التطورات المعرفية وتقوية القدرات الذاتية للمواطن وتصحيح سلوكه. وهي مسألة من أهم ما كان الأمر خصها باهتمام ويندد بتقاعس المستعمر في توفير البنيات التحتية لتعميم التعليم ونشر المعرفة.
يقول الأستاذ أحمد: إن الأمير محمد بن عبدالقادر الخطابي في استقباله لسفير اسبانيا ف مصر، عاتبه على التقصير الكبير الذي عرته المنطقة على مستوى توفير البنيات المدرسية والتشجيع على التعليم، فما كان من السفير إلا أن وافق الأمير في ملاحظته، وطلب منه أن يتقدم بطلب في الموضوع للجنرال فرانكو لتدارك الأمر. فرد عليه الأمير باستهجان بأن ليس هو من يجب أن يقوم بذلك، بل عليه هو كمسؤول أن يتصل برئيسه لينبهه إلى فظاعة الأمر، نائبا بنفسه أن يربط أي اتصال مع مجرم سعى إلى إبادة سكان الريف بقنابله الحارقة.
في تناوله للأوضاع بعد الإستقلال، أوضح الأستاذ أحمد أنه عانق لحظة الإستقلال ككل المواطنين بفرح عارم واستبشر خيرا في مستقبل البلاد، وقتها لم تكن لديه إمكانية تحليل ما كان يعتمل وما كان يلف الوضع من ملابسات، واستفزه في لحظة من تطور أحداث العنف الذي مارسه حزب الإستقلال على المناضلين الذين يخافونه الرأي ونزوعه نحو بسط سيادة الرأي الواحد والحزب الوحيد، في نسخ ممسوخ لما كانت تعرفه البلدان العربية من استبداد وتفرد بالسلطة، كما هو الحال آنذاك ف مصر وتونس، وفي سياق ذلك تمت تصفية العديد من المناضلين كعبدالسلام الطود وابراهيم الوزاني، والحاتمي وغيرهم سواء في شمال أو جنوب البلاد.
هذا التوجه الظالم الموشوم بالإستبداد والتسلط، عزز موقع القصر وسهل مأموريته في إحكام سلطته وبسط نفوذه على جمع مؤسسات الدولة، ثم التخلص من معارضيه وتصفية رموز كان لها دورها البارز في استقلال البلاد والدفاع عن وحدتها، فالملك الحسن لم يكن يعتبر أيا كان في تدبيره للسلطة، فلا زعم ولا فقيه غيره ولا كلمة تعلو فوق كلمته وهو وحده الجدير بالتقدير والإحترام.
يتذكر الأستاذ أحمد لقاءه بالمهدي بنبركة في ميدان التحرير بالقاهرة، والحوار الذي دار بينهما ساعتها، حول الأوضاع في البلاد وما آلت إليه الأمور، حيث تطابقت آراءهما حول الطابع الإستبدادي والإقصائي للسلطة الحاكمة، وإن كان في تقديره أن المهدي نفسه ارتكب أخطاء، كمناضل لا أحد يشك في وطنيته، والوطن يغفر أخطاء المناضلين الذين قدموا تضحيات في سبيل عزته وكرامته. لقد كان الرهان على الثورة الجزائرية في أن تلعب دورا إشعاعيا على مستوى المنطقة وعموم إفريقيا، لكن مع الأسف استولى الجيش على خيرات البلاد وحرم الشعب من حقه في التنمية وتطوير قدراته المعرفية والعلمية.
في تحليل ملابسات هذا الوضع، يعرض الأستاذ أحمد لمرابط كثيرا من الوائع والأحداث، التي استغلت بصد الإساءة للمنطقة وساكنتها وبث التفرقة بين أبناء الوطن الواحد وزرع الفتنة فيما بينهم. فمنذ الهزائم المذلة التي تلقاها المستعمر الإسباني على يد أبطال الريف بإمكانياتهم البسيطة والتي تكاد تكون منعدمة، لم تتوقف الآلة الإعلامية والدعائية في التشكيك في وطنية الريفيين وقادته التاريخيين ونعتهم بالإنفصالية والعداء للوطن. كل ذلك لأن المنطقة أفرزت مقاومين أشداء وزعيما وقائدا مغوارا استطاع بحنكته رص صفوف القبائل وتقوية وحدتها من أجل دحر المستعمر والحد من أطماعه. لقد تم في الماضي استغلال حركة “بوحمارة” الذي سخر من طرف الإستعمار الفرنسي للضغط على السلطان، وقد تعامل الفرنسيون معه كسلطة إذ وقعوا معه اتفاقية لاستغلال منجم “أفرا” للرصاص، بينما بدأت اسبانيا في استغلال منجم “ويكسان” للحديد. ودعموا حركته واستطاع السيطرة على مناطق عديدة وأخضع بعض البائل لسلطته وكان هدفه الوصول إلى منطقة بني ورياغل لإحكام السيطرة على الريف. وقد اشتدت وثيرة الصدام بين الموالين للقصر والتابعين “لبوحمارة” وكادت أن تقع الكارثة في لحظة من لحظات المواجهة، لولا الإعلان عن صلاة العصر، حيث قاموا جميعا لأداء الصلاة، وبعدها هدأوا من روعهم وعقدوا اجتماعا ترأسه الفقيه العزوزي والفقيه عبدالكريم الخطابي الذي اعتبر في كلمته الطرفين فاسدين، وأقنع الجمع بأن السلطان فاسد وبوحمارة أكثر فسادا، فالتفوا حوله وطاردوا أتباع “بوحمارة” وتمت هزيمتهم في معركة “بوسلامة” التي قتل فيها قائد جيش بوحمارة إسمه (الأسود) وهرب “بوحمارة” واعتقل وشهر به بوضعه في قفص والطواف به في مدينة فاس لإذلاله وأنصاره، وقد تدخلت بعض الهيئات الديبلوماسية المعتمدة إذ ذاك لتخليصه من هذه الوضعية والإكتفاء بسجنه. ه الوقائع ظلت مؤثرة في تعامل السلطات المتعاقبة مع منطقة الريف، على الرغم مما قام به القائد محمد أمزيان، الذي كان مرتبطا بالمخزن ورفض التفاوض مع المستعمر نيابة عن السلطان، وظل يقود المواجهات إلى أن توفي سنة 1912، وتركت جثته للتمثيل بها وقد تم عرضها على عبدالكريم الخطابي لترهيبه، وتذكيره بالمصير الذي ينتظره إن هو فكر في المقاومة والتصدي لمخططاتهم الإستعمارية.
لقد كانت خلفية الخطابي في تعامله مع المستعمر، هو الإصلاح وتقوية إمكانات البلاد الإقتصادية والإجتماعية، وكان يندد بكل أساليبهم التي تكرس الغزو واستغلال خيرات البلاد. وقد تعرض بسبب ذلك إلى الإعتقال بتهمة التجسس لصالح ألمانيا، وذلك بإيعاز من فرنسا التي كانت هي أيضا تترصد تحركاته، حيث اعتبرت دعمه للأتراك دعما للنازية وحلفائها.
في سنة 1920 تأكد الفقيه عبدالكريم الخطابي بأن الإستعمار الإسباني لا نية له في الإصلاح، فأعلن عليهم الحرب، فدبروا عملية قتله حيث تم تسميمه من طرف أحد عملائهم بتافريست، فخلفه ابنه محمد الذي واصل عمل والده واستطاع تأطير الساكنة وقيادة المقاومة، ورفض الإنتقام من قاتل والده بعد أن اعقل وقدم له ليعترف بجريمته. كانت أول معركة واجه فيها القوات الإستعمارية هي “ظهر آبران” بعدة لا تتعدى 25 بندقية، تمكن فيها من إبادة جيش مدجج بالأسلحة معتمدا على إرادة المقاتلين الذين قاوموا بكل الوسائل المتاحة لديهم منها العصي والأسلحة البيضاء. هذه الهزيمة المذلة جعلت الفرنسيين يسخرون من الإسبان، وفي نفس الوقت يعبؤون السلطان ضد حركة الريف التي حاولوا إقناعه أنها انفصالية وضد سلطته، وأن الأمر محمد بن عبدالكريم الخطابي، يطمع في بسط سلطته على كامل البلاد. حاول الأمر عن طريق بعض الشخصيات الإتصال بالسلطان ليؤكد له ولاءه للدولة شرطة عدم الإدعان لمخططات المستعمر. غير أن مبادرته لم تجد آذانا صاغية، وظل يعتبر انفصاليا وفي خانة الأعداء، وهو أمر لم يثن الأمير عن مواصلة الكفاح ضد المستعمر الفرنسي، واكتفى فقط بترسيخ سلطته بأجدير وما ارتبط بها في منطقة الريق. كما أنه لم يقطع اتصالاته مع مساعادي السلطان، وتأسيس جمعية من العلماء لعلاج الجرحى الفرنسيين.
لما استسلم في تارجيست طلبوا منه الإنتقال إلى تازة لإبعاده عن المنطقة، ومنها أخذوه إلى فاس صحبة عائلته، ثم عزلوه في مكان بعيد عن أسرته. وهو في عزلته سمع جنرالا من جنرالات الجزائر يسأل عنه، وعندما قابله اعترف له بونه وصلابة عوده.
الأمر محمد بن عبدالكريم الخطابي ف حقيقة شخصيته، لم يكن يرغب في السلطة ولا جمع المال، بل كان همه الوحيد هو تحرير البلاد واستعادة استقلالها، وتطلعاته في التحرير لم تكن تنحصر في المغرب والمنطقة، بل سجل دعمه وتضامنه اللا مشروط مع كل حركات التحرر في افريقيا وآسيا والمناطق التي يحتلها الإستعمار، وهو بذلك أكد على توجهه التحرري الذي لا يحمل أ نزوع نحو الإنفصال.
في تناوله للوضع الراهن وحالة الإحتقان التي تعرفها منطقة الريف، أكد الأستاذ أحمد المرابط، على أن الوضع العام في البلاد يدعو للقلق، وأن ردود فعل المواطنين مشروعة أمام انسداد الأفق، وأن الريف ليس معزولا على هذا المستوى، فما تعانيه كل المناطق من تهميش وتقصير في تقدم الخدمات وغياب المؤسسات الإجتماعية المؤهلة للإستجابة لحاجيات المواطنين، تجعل الجميع يعبر عن رفضه واحتجاجه على استمرار الأوضاع وتفاقم واقع الحال. فأمام صمت السلطة وتقاعسها في اتخاذ الإجراءات المناسبة لا يبقى أمام الساكنة إلا الرفع من وتيرة الإحتجاج. فكيف يموت الناس في العراء ويستمر الصمت؟ ربما أن الريف كان طليعيا في سياق الإحتجاجات العامة، نظرا لقربه من أوروبا ووجود جالية شمالية كبيرة بها، جعل ساكنته السباقين إلى رفع راية التمرد وعدم الإذعان، لكن هذا لا عني أي نزوع انفصالي أو رغبة في خلق كيان مستقل، وإن كانت هناك بعض التنبؤات السلبية التي تعكس مستوى رد الفعل الذي لابد أن نتج عنه بعض الحالات، كما لا أستبعد أن تكون مقصودة لإفساد حركة الإحتجاج وعزلها. فقد عاشرت الحركات، يقول الأستاذ أحمد، ووقفت على حقيقة مطالب السكان وهي في صلب المشاكل التي يقر الجميع بتفاقمها وغياب الحلول العملية الكفيلة بخلق شروط العيش الكريم لكل المواطنات والمواطنين. فالمنطقة تعرضت لهجوم كيماوي أكثر من مرة، وسكانها يعانون من تبعات هذا القصف الهمج الظالم.
في نهاية حدثه للمجلة أكد الأستاذ أحمد المرابط، على ضرورة وجود قوة سياسية شجاعة قادرة على توحيد الصفوف واقتراح مشاريع لصالح الشعب أولا، وتمنى أن يبرز صوت نبيل وشريف وصادق يشحن الهمم ويقوي العزائم، فالمغرب ف حاجة إلى أكثر من ذلك، لأن البلاد مقبلة على كارثة في واقع الصمت وتجاهل معاناة المغاربة ف مختلف المناطق. ويرى ف نبيلة منيب الأمينة العامة للحزب الإشتراكي الموحد أحد الأصوات التي لها صدى طيب عند المواطنات والمواطنين، ويمكنها أن تساهم بفعالية في شحذ الهمم وتعزيز صفوف كل المناهضين للمقاربة القمعية، والتجاهل الذي لا يمكن إلا أن يزيد الوضع استفحالا.
أجرى الحوار وأعده للنشر:
أحمد حبشي