أحمد الخمسي في قلب الأوضاع(30):هل تمثل جائزة نوبل بوصلة للتنوير الغربي الراهن؟
“ما للتنوير الغربي وما عليه: من أجل
بناء تصور موضوعي للغرب؟”
مرة أخرى اقتضى نشاط جمعية التنوير بفاس التفاعل الايجابي، كان التقديم الذي ألقاه الاستاذ عبد الواحد حمزة بالغ الاهمية. لذا يجب تسجيل ذلك. طبعا هناك نقط محورية وهناك تفرعات. نمسك النقطة المحور “التصور الموضوعي للغرب”…نتوقف عندها…قليلا.
***
من حيث “التصور الموضوعي للغرب”، يقتضي من يعتزم إبداء رأي بمثابة “تصور موضوعي للغرب”، أن يبدأ بالحكمة الفرعونية التي نقلها الغرب إلينا كونها من أقوال سقراط: “أعرف نفسك بنفسك”. نحتاج إلى رؤية وجهنا في المرآة، كما يقول المغاربة، حتى نعلم نفسية المغربي الذي يعتزم إبداء الرأي بصدد “التصور الموضوعي عن الغرب”. لا يخفى أن المشارقة يبدون ملاحظة حول الذات المغاربية، باعتبارها ذات “مهزوزة” من فرط التأثر بالمستعمر الفرنسي. يتجلى مؤشر صوابية الملاحظة المشرقية في تحدث المغاربي الذي يفرط في التكيف مع المتحدث معه، إذا كان مشرقيا يحاول المغاربي التكيف معه والتعبير بكلمات دارجة مشرقية، مصرية أو شامية، أو بجمل فرنسية عندما يغلب الحديث الفرنكوفوني من طرف المتحدث معه ولو كان مغربيا. ونفس الحال عندما يكون الحديث بين ذوي النزوع الأصولية إذ يغلب الحديث بالفصحى بدل الدارجة المغربية حتى ولو كان بين مغاربة. كيفية التعبير ترشدنا نحو نفسية التفكير. والنزوع نحو مجاراة المتحدث معه، فيها وجهان: وجه المرونة وتجسيد لحسن وآداب المعاملة، وهذا مفيد ونقطة قوة. ولكن وجهه الثاني يؤشّر على اهتزاز نفسية المتحدث ونقص في صلابة الثقة بالنفس. مما يوحي أننا نحن المغاربة نسعى دائما إلى إثبات جدارتنا لمرافقة ومجالسة الآخر.
المؤشّر الايجابي لا حاجة له في الإطراء والتعزيز، ولكن المؤشّر السلبي هو ما يقتضي التوقف عنده من باب الحكمة الفرعونية المذكورة على لسان سقراط.
وكون الحكمة الفرعونية ذاع صيتها كونها غربية يونانية لهي حجة على عمق التأثير الغربي الآخر، من باب قدرة الغرب على الاستحواذ على تراث الآخرين ونسبته غلى الغرب. ما يتبقى لدى الغير الذي ليس غربا، هو الإحساس الذهني المزمن والضمني الى درجة البداهة أنه أدنى قيمة وحضارة وحكمة من الغرب. مكرمة الغرب، رغم ذلك في كل هذا، قدرته على الاطلاع على تراث الإنسانية جمعاء، وإعادة توضيب معطياتها وفق الهندسة العقلية الحديثة (= العقلانية الحديثة الغربية).
ورغم سلفية الغرب – كونه يُرجعُ أسس التفكير الحديث إلى اليونان في الماضي الأوربي – فبسبب التقدم التقني ورقي نمط التفكير والعيش، فالآخر غير الغربي، لا يشعر بهذه السلفية الغربية الحاضرة أبدا.
***
إذن، الخلاصة، من منا يريد فرز “التصور الموضوعي للغرب”، عليه أن يخرج شعرة موضوعيته الذاتية من عجين الصورة التي تركها الغرب عن نفسه. والصورة التي تركها الغرب لدينا عن أنفسنا، هي تلك الصورة البئيسة، صورة الإنسان المتخلف، الذي لقحه الغرب – خلال فترة الاستعمار وإلى اليوم- بها ضمن الدور “الحضاري” للاستعمار الغربي. فالهاجس الذي بقي متراكما في ذهننا وليس فقط في نفسيتنا هو أننا مصابين – نفسيا بالشعور- بالنقص الحضاري: على أننا من العيب أن نكون كما نحن. بل علينا أن نتكيّف مع الآخر كي نبدو كما تقتضي الحضارة الغربية. مقومات هذه الصورة التي بقيت تتجلى في ذهننا ونفسيتنا قيل لنا – عبر الكتاب المدرسي والإعلام وطريقة عيش بورجوازيتنا كنموذج للتحضر- أنها كامنة في نمط عيشنا وفي طريقة تفكيرنا الموروث ومظاهر تديّن متدينينا وقيم الانتهازية وفي ازدواجيتنا…وفي الأخير ليست حالتنا أقل ولا أكثر من حكمة ابن خلدون: “المغلوب مولع بتقليد غالبه”. لحظة الصحو في نفسيتنا الكفيلة بالانطلاق في عملية البحث عن “التصور الموضوعي للغرب” تبدأ من لحظة بحثنا عن “التصور الموضوعي لذواتنا” بدل الاستمرار في استهلاك “المنتوج الايديولوجي” الذي تسلح به الغرب لهزمنا في عقر نفسيتنا ومعنوياتنا.
لم يجانب الصواب ياسين الحافظ الذي ألّف كتاب بعنوان “الهزيمة والايديولوجيا المهزومة”. ما زلنا نشتغل للبحث عن “التصور الموضوعي للغرب” من زاوية “الهزيمة – أمام الغرب- والايديولوجيا المهزومة”.
***
ولأننا نشعر تلقائيا باحتقار الذات نمارس متابعة الأحداث وننخرط في ديناميات التغيير، إما من نقطة “سندروم سطوكهلوم”، فننبطح للسلطة ونعتبرأنها الأدرى بتخطيط طريق المستقبل، أو على الطرف النقيض تماما، نركب رؤوسنا ونتخيل أن “الحجيم هو الآخر” بالجملة والتقسيط. الجحيم هو الآخر بالجملة أي السلطة والدين والأثرياء منا. والجحيم هو الآخر بالتقسيط نعيشه بنفسية الحرب في العائلة والعمل والمجتمع. الحروب المعوية الصغيرة التي لا تهدأ.
في الحالتين، حالة الاذعان التام، وحالة “الثورة” الدائمة، تغيب عنا العقلانية بسبب أننا لا نمارس التصالح من أنفسنا أولا. ونبقى تحت تأثير الايديولوجيا المهزومة.
اكتساب “التصور الموضوعي” عن الذات وعن الغرب، عملية تحررذاتي لا تنتهي. يتفوق الغرب على غيره لأنه يعي هذه الضرورة البديهية في عيش كل انسان، في الغرب وفي غير الغرب.
بينما توقفنا عند مفهوم الحرية بالمعنى الذي شرحه العروي في تاريخ العرب المسلمين: كوننا لسنا في وضعية العبيد الذين يؤخذون للبيع في الأسواق. ذاك تأثير تراجعي ماضوي تحصنا به بعد ما هزمنا الغرب الاستعماري.
***
لذا، الخلاصة الثانية التي نجدها بديهية أمامنا هي: علينا أن نتوقف عن اعتبار الغرب خصما متربِّصًا بنا. ساعتها سنصبح، بعد التصالح مع أنفسنا، في حالة ذهنية صاحية قابلة لقبول الغرب كما هو. ومن يكون مستعدّاً لقبول الآخر كما هو سيسهل عليه الوصول الى الهدف: أي “التصور الموضوعي للغرب”.
فالغرب لا يتوقف عن التحرر كضرورة انسانية. واذا اعتبرنا التحرر من الاديولوجيا المهزومة في نفسيتنا ومن عقدة الاستعمار الغربي عملا يوميا لا يتوقف، سنشعر بطمأنينة ونحن نبحث عن “التصور الموضوعي للغرب”.
يردد المثقفون عن ج. ج. روسو قوله: عندما تنطلق الارادة، تتنحى الطبيعة عن الطريق. والطبيعة قد تكون عقبة كأداء في تضاريس الأرض أو صورة نمطية جامدة في الذهن، فالإرادة تهزم الطبيعة كيفما كانت.
إذن، منطلق “التصور الموضوعي عن الغرب” منطلق جيد. والشرطان الضروريان قبل انطلاق البحث عنه جزءان من عملية تحررية وجودية ووجدانية لا تتوقف: التصالح مع الذات والكف عن شيطنة الغرب. فحضارة الغرب ككل الحضارات لها نقط القوة ولها نقط الضعف.
ها هنا نجد أنفسنا وقد حددنا منهجية مسبقة للتعامل مع البحث عن “التصور الموضوعي للغرب”. نقطة الحذر تقع في الابتعاد عن طرفَيْ الاذعان والرفض المسبق. الابتعاد عن طرفي الاذعان والرفض المسبق للغرب، يعني التعامل مع الغرب ليس فقط بنفسية الندية، بل نفسية السلم وليس بنفسية الحرب. فالتفوق الاخلاقي الذي يضخ الطاقة الايجابية كفيل بالتعامل السليم مع كل مؤشرات الحضارة الغربية، دقيقها ونخالتها. لبها وقشرتها. مما يشذب الذات المتفحصة الراغبة في كشف “التصور الموضوعي للغرب”، من شوائب “الذاتية” وضبابية التشكك المرضي والتردد الصادر عن جهل.
ولا يغرب عن البال أن طرفَيْ الاذعان والرفض المسبق يتكاملان. فالنزوع الى حضارة الغرب قد يحمل معه آفة الإذعان لكل حمولة الغرب بينما يفرط في رفض ما يأتي من التراث المحلي. ونقيضه يعكس الأمرين على النقيض: بالرفض هنا والاذعان هناك.
***
هل البدء بالموجة الفلسفية الأنوارية الراهنة (دولوز..مدرسة فرانكفورت مثلا) ليس شكلا من الاذعان لما يراه الغرب نفسه اليوم عن ماضيه لا يناسب من ليس غربيا وهو يسعى للبحث عن “التصور الموضوعي للغرب” اليوم؟
هل يكفي التوقف عند “خطأ ديكارت” من جانب مَن مِن بيننا يبحث عن “التصور الموضوعي للغرب”؟
أليس ذلك إغراقا في التفاصيل الفرنسية البحثة بينما الغرب أوسع من فرنسا وأعمق في الزمن من القرن العشرين؟
يتمادى الفرنسيون في تجاهل القهقرى التي عاشوها مع نابليون حتى بلغوا قعر ما قبل التنوير عندما استعادت فرنسا الامبراطورية الحالة القانونية لتجارة العبيد، قصد توفير المال لخوض حروب نابليون. بل باع ولاية لويزيانا. مما يفسر تخلي الفرنسيين عن نابليون منبوذا في المنفى البريطاني. التنوير الراهن الذي لا ننتبه اليه هو ما ذهب اليه المثقف السويدي غونار ميردال الذي بحث مبكرا (1944) في بؤس الحضارة الغربية من خلال وضعية الامريكيين الافارقة في حالة مؤسسة الابارتهيد والعنصرية، متكاملة مع أكذوبة “اليد الخفية” في السوق.
إسقاط تماثيل آباء الدستور الامريكي في النهر هو الشكل الأكثر حداثة للتنوير الراهن. هذا يعني أننا قد نستهلك بوصلة سوّقتها لنا الجامعة الغربية، وهي في حالة إذعان للرأسمالية. فالنسر الرأسمالي للحلفاء في الحربين هو الذي صمّم على نهش المجتمع الالماني، بمحاولة التوقف عند القارة العجوز لتشكيل المخيال الفلسفي لدى مثقفي الحديقة الخلفية لفرنسا، بينما الجبروت التنويري ينهض من تحت الرماد الرأسمالي في سكاندينافيا وفي الولايات المتحدة نفسها. لم يته الفكر الامريكي التقدمي في التقليد التجريدي الاوربي. بل منذ البركان الفييتنامي الذي أحرق “العقود الراشية”، في العقل الامريكي نهض تنوير القرن “حركة الحقوق المدنية في امريكا. لقد توارى هتنغتون وفوكوياما الى الوراء وعاد جون رولز الى الواجهة بفضل نقد امارتيا سين للعدالة كإنصاف إن لم تكن كفكرة. العدالة من تحت (فكرة) ومن فوق داخل المؤسسات والقانون (انصاف). وليس فقط داخل امريكا يشتعل التنوير الراهن، بالجدب (احتلوا وول ستريت) والطرد (احتلوا الكابيتول). بل من حول امريكا يصعد تيار العدالة: على حدودها مباشرة يحكم اليسار في الرئاسة واغلبية البرلمان، وفي ابعد نقطة، في الشيلي، يجري ردم مخلفات الاستيلاب والدكتاتورية. إنه البركسيس الذي يحفر للتنوير الراهن مجراه عميقا.
من سكاندينافيا الى الشيلي الى قلب امريكا عملية بحث واشتغال لتجديد حضارة الغرب.
***
الخلاصة الثالثة:
ما يظهر في الولايات المتحدة جرحا عميقا في الجسد الغربي (النظام الذهني والعملي للابارتهايد والعنصرية) سبقت إليه أوربا بإخراج مسرحي على الخشبة الدولية كامتداد لأكذوبة نابليون كون حروبه استهدفت القضاء على النظام القديم، لتدعي الدول الاوربية أن للاستعمار غاية مماثلة لما قام به نابليون داخل اوربا: نشر التحضر…بينما جائزة نوبل التي ليست سوى الوجه الثاني لاكتشاف/اختراع الديناميت، كوسيلة لصناعة القتل. تجلت ثمار هذه الثنائية الاوربية، الشكل القديم “للجمرة الخبيثة”، في ترشيح هتلر للجائزة. لتفادي كسر خاطر النازية ومحاولة دمجها في الكيان الاوربي. بينما لم يسجل اسم الماهتما غاندي اصلا في لوائح المرشحين للجائزة. راجع مقال (les recalés du Prix Nobel). وقريبا منا نعلم قصة منح التلميذ ألبير كامو،الذي كان كل أمله أن يصافح الأستاذ جان بول سارتر، مُنِحَ الجائزة (1957) قبل الاستاذ (1964) بسبع سنين. ونعلم السر في ذلك. إنه تسييس الجائزة مثل ما مرَّ ذكره مع هتلر(ترشيحه) وغاندي (تجاهله). إذ كان الموقف من استقلال الجزائر حاسما في تسجيل كامو وتجاهل سارتر. فتصريح كامو المخجل منحه الجائزة، وتوقيع سارتر على بيان 121 سنة 1961، زاد في تأخير منحه الجائزة حتى صار موقفه العادل أمرا واقعا بعد استقلال الجزائر. ولأنه عرف أن مغزى منحه الجائزة بمثابة تبييض لسلوك القيمين على التسييس المغرض للجائزة فقد رفض تسلمها.
علينا فقط، لنتابع مسار هذه المقاييس النموذجية في ما يعتبره الغرب الراهن بوصلة لتقييم الإبداع والتقدم العلمي، أن نتساءل: لماذا تجنب سارتر التعامل مع مراكز الحرب والظلم في الغرب….مدة طويلة ثم… قَبِلَ تسلّم جائزة جامعة القدس الصهيونية سنة 1976؟