أحمد الخمسي في قلب الأوضاع(31):الإنصات آلة دقيقة تحفر عميقا لفرز الذهب بين التراب
هناك أنس وهناك أنس، أنس من “هنا” وأنس من “هناك”.
وحده الإنصات لهما يمكّنُك من اكتشاف المشترك بينهما. ليست بين “الهنا” و”الهناك” مفاضلة. فقط سعيك لفهم الناس يفرض عليك وضع شبكة قراءة منهجية. شبكة معايير لتحديد جودة المعدن.
هل يستقيم في ذهنك، مسبقاً، أن تقبل أن بين “أولاد الناس” من ستكتشف أنه أفضل منك؟ إذا كنتَ مهيّأً نفسيا للاعتقاد جازما أن هذا الاحتمال كثير التحقُّق، وحده هذا الاعتقاد يُرسّخ لديك الأمل القوي، بأن هذا الشعب المغربي، جدير بالثقة.
لستُ من فئة الطاووس الذي يثق فقط في جمال ذيله. لأن معيار الجمال ليس فقط مواصفات شكلية، فالعين خدّاعة، إذا استسلمت لمقياسها البصري منفرداً. عبر الهاتف علقت زهرة الرودانية البلجيكية، “لو لم تكن لدينا روحانيات، لاستسلمنا لواقع الفساد والكسل والأنانية التي تنخر الجسد الاجتماعي وتفترس الثقة الموجودة بيننا”. طبعا، عندما نضع الثقة قبالة نظرنا البعيد، تكون البوصلة شحنة ضوئية تجعلنا لا نفقد الاتجاه حيث يوجد الهدف الروحاني من سعينا الدؤوب.
طبعا لكل روحانياته. ومن روحانياتي السعي أبدا، لاقتلاع نوازع “العبودية” في العلاقات بين الناس، بين الحاكم والمحكوم. أيًّا كان المحكوم وأيّاً كان الحاكم. ومن روحانياتي النظر جيّدا في اكتشاف المفيد في العلاقات بين الناس. ومن بين روحانياتي الحرص على أداء واجباتي كي تبق علاقاتي مع الناس جميلة ومفيدة. حتى ولو وقف الاختلاف في تقدير الحالة بيني وبين الآخر. فالمهم هو أن تبق المحبة والمودة عن بعد أو عن قرب سيّــان.
تلك شبكة القراءة التي أهتدي بنورها لمراكمة الاحترام لنفسي والاحترام المتبادل مع الناس.
لأن أخطر ما يؤدي إلى حالة سيزيف، هي أن تهدر ما راكمْتَهُ من الاحترام السابق لتتوهم –عبر مرحلة موالية- أنك ستراكم كتلة جديدة من الاحترام مع قوم لاحقين. فمن لا يستطيع الاحتفاظ باحترام السابقين لا يستطيع إضافة كتلة جديدة من احترام اللاحقين أو المتبقين. تلك تكملة من منظومة النظر والعمل لتقوية الصفوف. تقوية الصفوف تبدأ برصِّ الصفوف الموجودة.
نحن، وبفائض من حسن النيّة، نعتقد أننا نقوي الصفوف، ندمّر ما بيننا. لأننا أولا لا ننصت لبعضنا. فتبقى بيننا العلاقات سطحية ولو طال الزمن. ونبقى سطحيين في تبني الوهم بدل الحلم.
أعود إلى أنس وأنس.
تلك دينامية مركبة. ما كان أن أتعرَّف على أنس وأنس، وغيرهما كثير، لولا عبد الاله. فالذين ترجموا camarade بالرفيق أحسنوا يوم ترجموا، حتى بمفهوم طه حسين كون القرآن الكريم أحسن مترجم لحياة العرب مقابل من قالوا بالمعلقات، فمن أحاديث خاتم الأنبياء “من يُحرَمُ الرفقَ يُحرَم الخير” وأيضا “إن الرفقَ لا يكون في شيءٍ إلا زانه، ولا يُنزَعُ عن شيء إلا شانَهُ”.
والعرفان بالجميل يجدّدُ تبادل الخير بلا انقطاع. كالماء منه كل شيء حيّ.
أتحدّث عن أنس بايسَف، مناضل من الطبقة المترفة ضد نزع الملكية الظالم…منه تعلّمت الكثير في مساطر الاعتداء المادي في مختلف أوجهه. صاحب شركة يعلم جيّدا أصناف التدليس والتحايل التي تمارس على الناس ذوي المصالح والحقوق من مختلف الطبقات.
وأتحدث عن أنس مرزوق، المنتخب النبيه في المجلس البلدي، يتيم الأب الذي علمته الأم كيف يكون مجتهدا مثابرا جسورا في الحق ومؤدّبا في التواصل، نقابي وحزبي وإطار إداري من الطراز الرفيع بروح جماعية يستشير في الشاردة والواردة.
لست من الذين يتغاضون عن الآخرين الذين أختلف معهم. كم جالسنا بعضنا، كل أسبوع، آخرها عشرون يوما قبل استوزاره. أتحدث هنا عن رشيد، النبيه التواصلي بخبرة استثنائية، أعني هنا رئيس مجلس النواب. ويمكن أن أذكر ها هنا، السفير عبد القادر، الذي يعلم من عضويته في الهيأة العليا للسمعي البصري (HACA)، أن موقفي وأن أتحدث في الإذاعة الوطنية لم يكن يوما تبييض المفسدين سواء في اتحاد الكتاب أو في غيره، وليشرب البحر من وضعني على القائمة السوداء في القطب العمومي للإعلام. ولا انتظرت مقابلا يوم ذكرت بالحسنى مواطنا بركانيا وقد غيّر وجه مدينة المضيق بعد تعيينه عاملا ببضع سنوات. لم أذهب لتحيته وقد نهض رشيد الودود بعد المناداة للسلام بيننا، ولم أسلم على ساعتها على عامل اقليم المضيق الفنيدق، لأننا لسنا أصدقاء.
اعترافي بالمواصفات الايجابية الفردية عند الخصوم السياسيين، يأتي من أن الحقيقة وإقرارها شكلا من أشكال العدل. كتب يوما المؤرخ الفرنسي بصدد مأساة الكابتان ألفريد دريفوز كتابا تحت عنوان: “تاريخ قضية دريفوز: طريق العدل عبر الحقيقة”.
ذات صباح، استوقفني العالم الأستاذ الراحل أحمد الادريسي في “بلاصا ريمو”، وخاطبني بالود الجميل ليعبر عن احترامه لمحمد بنسعيد آيت يدر. طبعا لم يكن مخطئا، فالأستاذة مونيا بناني الشرايبي التي ألفت كتابا عن “الأحزاب السياسية والاحتجاجات: 1934-2020″، من باب التقدير لمحمد بنسعيد آيت يدر، وهي تشرح إحدى أفكارها وضعت اسمه رفقة الطيب الراحل محمد الخامس في نفس البين قوسين.
طبعا الأستاذ الراحل أحمد الادريسي هو الذي علّم رشيد الطالبي العلمي، رئيس البرلمان، السياسة بالخشيبات مما لم يعلم. كان الأستاذ الادريسي يجالس بعض أصدقائه الاتحاديين ويشاركهم روح النكتة فيردد على مسامعهم مازحا “كيف استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا”، يعني أن الأصل في التحزب أن يصبحوا الناس في التجمع الوطني للأحرار. احترام الأب لحزب محمد بن سعيد آيت يدّر، هو الذي جعل الإبن، عالم اللغة العربية، السي محمد الادريسي يهدي مكتبا رفيعا للحزب الاشتراكي الموحد في تطوان بعد افتتاح مقره الجديد.
المودة كنز ضخم، والمواقف الراسخة كل في موقعه الحزبي هي العمود الفقري الذي يترك المغاربة قادرين على الوقوف باستقامة حيث تشير البوصلة المستقبلية. بلا تنابز ولا نميمة.
فإذا كانت الحقيقة طريق العدل، فمن العدل البحث عن المشترك، بين المغاربة. فالصراع الطبقي لا يعني قط الحقد الطبقي. بل يعني السعي والتضحية بالنفس والنفيس من أجل تكافؤ الفرص، وإعطاء النموذج والقدوة أن الاشتراكيين أرحم وليس أشرس من الرأسماليين. ولكي يتأكد ما تدعيه لمن تدعي أنك تدافع عنه ضد الأنانيين الطبقيين يجب أن تعطيه الدليل الحي أنك أرحم من الأشرس. ولا دليل لك مقنع أكثر من أن تبدو وتكون فعلا لك روح رحيمة بالأشرس نفسه. في أدب السيرة، ذكر أحدهم أن أحدا في عهد البعثة، اضطر أن يتبوّل داخل المسجد (الناس ساعتها لم يكونوا على علم بالعلاقة بين التبول ومرض السّكّري)، فاستشاط المصلون، وغضبوا وكادوا يقتلون المتبوّل، ولما بلغ الخبر إلى النبي، قال: “بُعِثْتُمْ مُوسرين ولم تُبعَثُوا مُعسِرين، صبوا الماء في نفس المكان”…تلك حادثة جعلت من عسر التبول ممحوا بيسر الماء.
مدرسة الرفقة الطيبة والمودة ليست مناقضة للصبر على الموقف الصلب. تلك تكملة راقية للأصل الكريم. وهي مدرسة تجعل بلال حلبوز وجويرية ومحمد الهراس وعبد الاله العلوي وسلوى وجمال وبدر ومنى وبشرى وعبد الله ومحمودي ومصطفى ومحمود وسارة عقد ذهب في عنق السياسة. فالسياسة التي يجب أن تعتذر لتطوان هي التي تغلق المقرات.
رفقةُ المودةِ طبعٌ لا يُفسدُ الطبيعةَ بل يكتشف ما تختزنه من طاقة ومهارة وخبرة وتواصل عند الصامت والساخرة والحذرة والمبتسم والمتجهم. وتجعلهم جميعا يتحلقون من حول رفيقة بحجم النملة الشغيلة التي ما هدأت حتى أمسكت بورقة وصل الايداع “كتعرق وتنشف” ما بين عملها المهني ونضالها السياسي: نعيمة آيت ابراهيم.
لكن، شرط ذلك أن يكون معك في السراء والضراء طبيب ذو شهرة في المدينة يلتزم بالحضور في الاجتماعات: أحمد القايدي. ويكون لك الولي والنصير نبيل ثانٍ يحبه مغاربة الحي الشعبي حيث مكان اشتغاله: المستوصف.
أن تكون يساريا ليست مهمة صعبة. يكفي أن تكون الإنسان الذي يحترم الناس جميعا.
هذه المكرمة بكل التفاصيل الواردة أعلاه، ليست سوى نتيجة لخصلة الإنصات بين المذكورين جميعا. وقد أفرزت في المدينة ولم نكمل السنة الأولى بعد الانتخابات الأخيرة (8/9/2021) أحسن منتخبَينِ اثنَينِ بين 55 منتخبا في المجلس البلدي بالمدينة.
لقد تربينا وقد سمعنا ونحن صغارا في المسجد: “انصتوا رحمكم الله”.
ذ.أحمد الخمسي