أحمد الخمسي في قلب الأوضاع(35):مفهوم الحكم الذاتي يناقض العقيدة السيادية الفرنسية
ذ.أحمد الخمسي
لفهم ذلك، هناك أسئلة علينا واجب الإجابة عنها. لنفهم أنفسنا كيف نرى ونفسر مواقف الآخرين، وكيف يتصرف الآخرون مع أنفسهم قبل أن يتصرفوا معنا. يتعلق الأمر بحل عقدة عدم فهم الفروق بين اسبانيا وألمانيا وفرنسا، في أنظمتهم، ثم كيف تفاوت تجاوبهم مع المقترح المعقول والواقعي والقابل للتحقيق.
هل تحولت اسبانيا إلى الشريك الأول للمغرب في بعض فروع الشراكة الاقتصادية متجاوزة فرنسا نتيجة لمفاعيل السوق وجدل العرض والطلب أم بإرادة سياسية مغربية متعمّدة؟
لماذا تعمّد الراحل الحسن الثاني سنة 1984، ذكر مثال “اللاندر” (الحكم الذاتي) الألماني، في بلد فيدرالي ضمن احتمال حل النزاع في الصحراء بكيفية مشابهة؟
لماذا تأخرت فرنسا اليوم عن حسم الموقف بصدد القضية الترابية المغربية؟ هل تشتغل هي بمفهوم الحكم الذاتي في تدبير اقاليم ما وراء البحار؟
هذه الأسئلة الثلاثة حول المسافة الرسمية للبلدان الأوربية الثلاثة الأكثر أهمية في الاتحاد الأوربي اليوم، تحاول التوجه رأسا نحو الأسباب الأكثر تأثيرا في قضية الصحراء، على صعيد الرأي العام الغربي أولا والعالمي ثانيا.
أولا الأسباب الأكثر تأثيرا على صعيد الرأي العام الغربي:
كيف يرى المغاربة درجة تفاوت المواقف الأجنبية؟
عموما ينحصر الرأي العام المغربي في مناوشات السياسة الخارجية الجزائرية، بل يضيق أفق نظره عند تلك المناوشات إلى درجة التشكك في المكتسبات الدبلوماسية التي يحصل عليها المغرب. بما يعني هشاشة التحليل الإجمالي الذي تعرضه السلطات المغربية على أنظار المغاربة. والهشاشة المزمنة في موقف الرأي العام المغربي يرجع سببها إلى كون الدبلوماسية المغربية لم يهمها الرأي العام الداخلي، لأن السياسة العامة للدولة تجاه الشعب هي تهميشه في كل القضايا. فالدولة تهمها العلاقات الخارجية، أما الشعب فهو مجرد كتلة من الرعايا الذين لا تتوفر لديهم المدرسة العمومية الناجعة ولا المستوصف الحاضن ولا مناصب الشغل الكافية ولا الضمانات الاجتماعية المحصنة للكرامة.
المغربي لا يفهم التناقض بين التقدم والنجاح في قضية الوحدة الترابية وبين استمرار التدهور في المدرسة العمومية والمستشفى العمومي وتفسخ العلاقات الاجتماعية بسبب الانترنت والوسائط الاجتماعية الالكترونية.. فالدولة فاشلة على الصعيد الاجتماعي. مقابل أشكال الريع والارتشاء وسيلة لفرص النقل التجاري وربح قضايا النزاع والشركات والتجارة.
القول الحسم في هذا التناقض هو أن النظام السياسي جرب خلال الستينات إهمال القضية الترابية فنتج عن ذلك بلوغ الخطر حد العمود الفقري للدولة. مما اضطر النظام السياسي إلى جعل الوحدة الترابية أولوية الأولويات التي لا يمكن للشعب أن يفرط فيها لأنها تلخص الكرامة الوطنية في حدودها الدنيا.
ولقد انتكست الدولة على صعيد الدبلوماسية طيلة ربع قرن (1975-1999). وحدها السياسة العسكرية الميدانية (بئر انزران= 1979)، ضمنت تفعيل الشعار المركزي “المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها”. ثم استدرك النظام السياسي الساحة الدبلوماسية بمقاربة مغايرة، منذ 2007 أهمها مشروع الحكم الذاتي ثم العودة إلى الاتحاد الافريقي، مدعومة بالاستثمار في البلدان الافريقية، واستثمار الجزء الايجابي من السياسة المغربية في افريقيا: الموقف التاريخي من الوحدة الترابية لنيجيريا ضد خطة الانفصال (بيافرا: 1967).
لو كان النظام السياسي يفكر ويعبر ويفسر أن الدولة دولة المغاربة جميعا، مقابل البنية الاقتصادية الاجتماعية التي تضيق عند طبقات اجتماعية تستفيد من التجارة الدولية وتترك الدولة مقصرة في حق طبقات أخرى، لتعوّد المغاربة على الفصل بين الدولة وبين النظام السياسي الذي فرّط في المدرسة وفي المستشفى وفي الضمان الاجتماعي ….وبالتالي لفهم أن الدولة مضغوطة بإكراهات فئات تفضل الاتفاقيات التجارية على الاستثمار في التعليم وفي الصحة.
نعم، إطلاق صيغة الأوراش الكبرى وربطها بالملك على رأس الدولة كان محاولة للحد من الفساد الإداري كلما تعلق الأمر بمشاريع الدولة/الملك. أي محاولة فرز المشاريع التي تقوي الصلات بين الدولة والشعب، عن مشاريع الرأسمالية التي تترك حبل الاقتصاد ينجذب وفق قواعد اللعبة بين أطراف العملية الاقتصادية المحضة. الخلط الذي بقي بين مفهوم الدولة ومفهوم النظام السياسي الاقتصادي هو الذي ترك الضبابية في أذهان المغاربة بصدد مواقف الغرب الحليف للمغرب. فالمغاربة لا يرون مواقف الغرب بوضوح ولا يفرزون بين السلبي والايجابي فيها.
الآن نعود إلى الأسئلة الأولى بصدد ذكر اسبانيا وألمانيا وفرنسا.
لم يكن عودة الملكية الى اسبانيا بعد وفاة الدكتاتور فرنكو أمرا عاديا بالنسبة للدولة المغربية. ولأن لإسبانيا تشابها مع ألمانيا من حيث نظام الحكم الذاتي للمناطق، رغم التسمية المختلفة كون اسبانيا مركزية اسميا وكون ألمانيا فيدرالية رسميا، فقد كانت تقوية العلاقات المغربية معهما تحمل رسالة كون المغرب لا يتناسى فائدة الاستفادة منهما لحل مشكل وحدته الترابية.
في المقابل، لم تتجرأ الدولة المغربية على إعلان مشروع الحكم الذاتي رسميا في عهد الحسن الثاني، لسببين اثنين: السبب الأول داخلي وهو تصلب مفهوم السلطة في عهد الحسن الثاني، وقد كان الأمن الداخلي للدولة مرتبطا من حيث الميكانيزم بشخص الملك نفسه. فلا يمكن تفتيت هذا المفهوم الممركز لأمر يهم يهم الوحدة الترابية. ثم السبب الخارجي وهو أن فرنسا التي كانت الأولى التي ساندت عمليا المغرب وفي كل الظروف، لها مفهوم مركزي يوجد في صلب عقائد السيادة والجيش والإدارة الترابية. ففرنسا وقد واجهت من قبل حركات انفصالية في كورسيكا واقليم بروطانيا، تنظم علاقات أقاليم ما وراء البحار (مارتينيك/كاليدونيا الجديدة/رييونيون/…) على قاعدة الدولة المركزية.
ثانيا:أسباب التأثير في الرأي العام العالمي
طيلة الحرب الباردة (1945-1991)، بعدما بدأت تصفية الاستعمار، عملت البلدان الامبيريالية الاستعمارية على ترك بلدان مقسمة، ثم حركت حركات انفصالية لأسباب إثنية أو اقتصادية. فقد بقيت فييتنام وكوريا والصين واليمن وزامبيا والكونغو وغينيا مقسمة إلى دولتين. ثم ما لبث أن انفصلت أقاليم عن ماليزيا (بروناي وسنغفورة) وأندونيسيا (تيمور الشرقية) والصومال (أرض الصومال) والسودان (الجنوب) ويوغوسلافيا والاتحاد الروسي…منها ما انقسم خلال الحرب الباردة ومنها ما انقسم خلال العولمة.
ولأن الجزائر فشلت منذ موت بومدين (1978)، في ما كانت تصبو إليه من نظام اشتراكي، تقاسم الحكم العسكري ثروات البلاد، فاضطر الجينيرالات إلى خلق ما يخفي المعضلات الداخلية للحكم. وبالتالي أصبح المغرب ذريعة ثابتة لمغالطة الرأي العام الداخلي الجزائري. وأصبح مبدأ حق تقرير المصير مطية للتدخل في الشؤون الداخلية للمغرب.
علما أن تاريخ الامبراطورية المغربية المجاورة معروف عند الرأي العام العالمي معروف منذ قرون خلت، بينما عرف العالم وضعية الجزائر السيادية كولاية من ولايات الامبراطورية العثمانية.
الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء لم يأت بجديد من حيث الحق التاريخي للمغرب، سوى وضعه ضمن ظرفية وسياق التحول في النظام العالمي حاليا.