ثقافة و فن

“الوجه الضائع ” قصة للأستاذ عثمان المنصوري

استيقظ أحمد كالعادة بعد أن رن جرس الهاتف معلنا حلول الساعة السابعة صباحا. لم يكن معه أحد في المنزل، لأن زوجته سافرت في إطار رحلة عمل. وقبل أن ينهض من الفراش، شرع في تصفح بعض التدوينات في الواتساب، وكان ينتظر تدوينة بعينها من بين التدوينات الكثيرة التي تفتتح صباحه بالسلام والدعوات الطيبة. لكنه كان يتفاءل بواحدة منها، ويرد عليها بمثلها. قرأ فيها: صباح الخير يا وجه الخير. لم تكن مثل سابقاتها مستعارة من المنقولات، بل كانت مباشرة، فرد عليها بأحسن منها. ثم أغلق الهاتف، ونهض متثاقلا على الحمام. بعد لحظات، تلمس وجهه، ووجد أن ذقنه في حاجة إلى الحلاقة، فتوجه قبالة المرآة ليحلقه. لكنه تسمر في مكانه. مسح عينيه وفركهما وأعاد النظر في المرآة ليتأكد، ومسح المرآة، في ذهول كبير. لم تعكس المرآة صورته. هل هذا معقول؟ خرج سريعا من الحمام، وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومن الجن، وتمتم مرددا آية الكرسي. في بهو الشقة، توجد مرآة كبيرة، قصدها مسرعا ليتأكد أنه ليس به مس من الجن، ووقف أمامها. فاقشعر جلده من الخوف. هي أيضا لا تعكس صورته. ما الأمر يا ترى؟ هل هي كاميرا خفية؟ تذكر فيلما شاهده ذات يوم، عن حالة مشابهة، مات فيها البطل، ولم ينتبه إلى ذلك. تساءل مع نفسه: هل مت؟ لذلك لا تظهر صورتي في المرآة؟ تلمس الأثاث، وتنفس، فوجد أن إحساسه لم يتغير، وأنه ليس شفافا، مثل الأشباح. لا أحد في المنزل ليؤكد له هل هو حقيقة، وهل يراه الآخرون أم لا. لبس ثياب الخروج على عجل، وخرج من المنزل قاصدا أقرب مقهى ليتناول فطوره، وليتأكد من حاله. كانت الأمور في الخارج عادية، تعمد أن يحيي بعض المارة، وحارس السيارات، وسلم على هذا الأخير بيديه ليتأكد من أنه لم يصبح شبحا. دخل إلى المقهى الذي اعتاد ارتياده، وجلس في طاولته المفضلة الواقعة في ركن منعزل، وانتظر وصول النادل. كانت هناك سيدة تتحدث بالهاتف بصوت عال، وتجلس على طاولة قرب باب المقهى، كانت تقول لمخاطبتها:
والله حتى نوريه وجهو فالمرايا.
حملق فيها ، وتأكد أنها لا تقصده، بل تقصد شخصا آخر ربما ضاع وجهه أيضا، وهي من ستظهره له. تأخر النادل فصفق مناديا عليه، وطلب منه إحضار وجبة فطور. في انتظار ذلك، فتح هاتفه، وبحث فيه عن كاميرا التصوير، وأراد التقاط “سيلفي”، ولكنه كاد يقفز من مكانه. حتى الكاميرا لا تلتقط وجهه. عندما وصل النادل حاملا طلبه، سأله:
-هل تراني جيدا؟ ا
ستغرب النادل من سؤاله، ولكنه أجابه :
– نعم.
حاول أن يداري غرابة السؤال، وقال له:
– فلماذا إذن تأخرت في أخذ طلباتي، وتركتني أنتظر هنا؟
اعتذر النادل ثم انصرف إلى حال سبيله.
فكر كثيرا، وقلب الأمور في رأسه، وقرر أن يذهب إلى طبيب العيون، ليتأكد من سلامة عينيه، وليسأله عن هذه الظاهرة الغريبة. وفي العيادة أجرى له الطبيب بطلب منه فحصا شاملا، فوجد عينيه سليمتين، وكان يرى الحروف بشكل جيد. سأله الطبيب عن سبب مجيئه؟ وهل لديه مشاكل في النظر؟ ولكنه لم يستطع أن يصارحه بكل الحقيقة. فقط أخبره أنه حين ينظر في المرآة أحيانا، لا يرى صورته بشكل جيد. وأكد له الطبيب أنه لا يشكو من مرض عضوي.
فكر في استشارة صديق من أصدقائه، والبوح له بالحقيقة، التي لا يمكن أن يصدقها أحد، وكان لديه في الهاتف أرقام هواتف كثيرة للعديد من الأصدقاء، لكن صلته بهم انقطعت أو كادت تنقطع، فهو من مدة بعيدة، لا تصله بهم سوى السلامات في المناسبات، وفي وسائل التواصل الاجتماعي فقط. وهنا تذكر صديقه ادريس. صديق الطفولة، الذي حافظ على صداقته سنوات طويلة، والذي يقطن غير بعيد عنه.
التقيا في نفس المقهى، ومن دون مقدمات، حكى له مشكلته. نظر إليه ادريس مستغربا، وسأله: – هل هذا مقلب من مقالبك التي اعتدت أن تفاجئنا بها؟
فأجابه :
– اقسم بالله أنني أقول الحقيقة. وقبل أن تسألني هل ذهبت إلى طبيب العيون أجيبك أنني فعلت، وأن نظري سليم.
بعد نقاش مستفيض وأخذ ورد، خطرت ببال ادريس فكرة عرضها على أحمد. قد يكون ما بك حالة نفسية، أنا أعرف أحد أصدقائي، اختصاصي في الأمراض النفسية، هيا بنا إليه لنتأكد.
في اللقاء مع الاختصاصي النفساني، سأله عن أحواله، ومعارفه وكيف يعيش، فأجابه بأنه سعيد في حياته، وليست له مشاكل أسرية، وليس له أصدقاء كثيرون، وليس له مشاكل مع الجيران، وأنه يقضي جل وقته في المنزل، ولا يحب المناسبات والضجيج. لم يتوصل الطبيب إلى نتيجة لتفسير المشكلة، ووعدهما أن يفكر فيها، ولكنه قال له مازحا؟ لا عجب أن لا ترى نفسك في المرآة، فلا أحد يراك في الخارج. أنت بالنسبة للآخرين مختف، والمرآة تعكس رؤية الآخرين لك.
حين عاد إلى المنزل، كان التوجس مسيطرا عليه، ولكنه فكر كثيرا في جملة الطبيب الأخيرة: فعلا، لقد تحول مع مرور الأيام إلى ما يشبه الشبح. انعزل بالتدريج، عن العائلة والأهل، والأصدقاء، تقاعد عن العمل، فلم تعد له صلة بأصدقاء العمل، ولم يعد يخرج إلا لماما من المنزل. وحتى المقهى يذهب إليه وحيدا، ويجلس منزويا، وفي الشارع لا يحيي أحدا ولا يأبه للجيران ولا يحدث أحدا إلا بالاختصار الشديد. لقد توارى بالتدريج عن الأنظار، وكأنه سلم مفاتيح حياته وأغلق كل الأبواب. وخلص إلى نتيجة وهي أن حياته بهذا الشكل موت بطيء، وأن عليه أن يعيش حياته وينفتح على الآخرين.
في اليوم الموالي، خرج متأنقا، ومستعدا لتغيير عاداته، والانفتاح على الناس. وعلى غير عادته، وزع السلام على من صادفه من الجيران، وعلى البواب وحارس السيارات، وضرب لأحد أصدقائه موعدا، وقضى معه لحظات ممتعة تذكرا فيها الأيام الماضية، وتناول غذاءه في مطعم شعبي، وقرر أكثر من ذلك أن يشاهد مباراة في كرة القدم في المقهى، مع الجمهور.
حين عاد إلى المنزل، كان قد نسي أو كاد مشكلة المرآة، ونام مرتاحا، مغتبطا.
عندما استيقظ من النوم، في اليوم التالي، وقبل مغادرة المنزل، نظر إلى المرآة، فلمح فيها شكلا مضببا، غير واضح، فمسح المرآة، ودقق فيها، ولم يتبين أي شيء يعطيه جرعة من أمل. فخرج، وقضى جل يومه، بين زيارة العائلة والأصدقاء، ومحادثة الناس، والتجول في أرجاء المدينة، متأملا أحوال الناس وحركتهم، ولعب الأطفال وصخب الشبان، وكأنه يسبح في بحر عميق كان يخشى من قبل خوض لججه.
مر أسبوع على هذه الحال، وفي كل يوم ينظر في المرآة فتزداد الصورة وضوحا. وربط بين تغير أحواله، واتضاح الصورة. كلما ظهر للناس أكثر، كلما بدأت ملامحه تظهر أكثر في المرآة. حتى أصبحت شبه كاملة.
وعندما عادت زوجته من السفر، وجدته متهللا منشرحا، بشوشا على غير عادته، وأخذها معه في جولة بالمدينة، وتناولا الغذاء في مطعم شعبي، وقاما بزيارة إلى منزل أصهاره، وعادا إلى المنزل في العشية ، في غاية السعادة.
تركته زوجته يشاهد التلفزيون، وذهبت إلى المطبخ لإعداد أكلة خفيفة، وقام هو إلى الحمام ليغسل يديه، وفجأة سمعته يناديها بأعلى صوته، فهرعت إليه، فقال لها مشيرا إلى صورته: أنظري إلى صورتي في المرآة. لقد عادت. سألته: من التي عادت؟ تذكر أنه لم يفاتحها في الأمر، وقرر أن من مصلحته أن يحتفظ بالسر لنفسه، ما دام قد عرف أصل المشكل، وقال لها: لقد عادت المرآة إلى الاهتزاز. يجب أن أثبتها جيدا. ذكريني بذلك غدا إن شاء الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى