“عبد السلام المودن.. من منطق السياسة،إلى منطق الفكر…” بقلم:محمد صلحيوي
الوقفة أدناه، للتذكير بالمسار النضالي والإجتهاد الفكري، وكذا القيمي للفقيد عبد السلام المؤدن،القائد الوطني والديموقراطي واليساري.وبمناسبة الذكرى الثلاثين بالتحديد، وبعد انقضاء جيل كامل على استشهاده، نقف متاملين محطات نضاله، مستحضرين دوره في تطوير وعينا للنضال الشعبي، مستلهمين من كتاباته، الإنارات الكشافة لمنعرجات ومآلات قوى التغيير، ممسكين بجوهر “المعنى” الذي كرس المودن له حياته،لقناعة”أن الوطن يعلو ولا يعلى عليه”.
ويمكن-إبتداءَ-الوقوف عند اقتران لحظة رحيله بيوم احتفال الشعب المغربي بالمسيرة الخضراء الشعبية كما كان يصفها الفقيد نفسه، إقتران مولد(بتشديد اللام مع كسرها) لدلالات وأبعاد ذلك الموقف التاريخي للمودن،وهو يقف في المحاكمة الكبرى بالبيضاء1977، ليعلن،عن موقف منظمة 23مارس بخصوص الوحدة الترابية،وأن الصحراء مغربية،وأن وحدة الوطن مقدمة عن وحدة الأحزاب والحركات السياسية آنذاك،كل ذلك وسط الإلتباسآت الكبرى التي سادت الوسط اليساري لمقولات الشعب والوطن والصراع الطبقي،وقد أطر موقفه الوطني بمقولتين إثنتين:
“الحدود الديمقراطية للوطن المغربي، وبرجعية مقولة تقرير المصير”بخصوص الصحراء المغربية.
ومن مكر التاريخ، تتكرر التجربة من الحراك الشعبي 2016.كمعنى ملموس لمفهوم الشعب، ومن زاوية دينامياته المؤكدة لواقع الإستقلالية النسبية للحركة الإجتماعية عن الحركة السياسية؛ومن زاويةالنضال الشعبي،ما أنتج خلافاَ جوهرياَ داخل فيدرالية اليسار الديمقراطي،ما أدى إلى إستحالة إندماج أطرافها.
ولقد وجه المودن نقداَ جذرياَ لليسار الجديد، بتأكيده في مقالة مطولة حول” نظرية الحزب الثوري” ،أن ولادة اليسار الجديد كانت ولادة غير مكتملة إذ وقف، أي اليسار الجديد،على نفس الأرضية السياسية التي جاء اليسار الجديد وولد كقطيعة معها، وعطبه في ذلك عدم مغربة النظرية التغييرية. إذ تبنى اليسار الجديد الإشتراكية العلمية بحرفية، دون امتداد وإخصاب فكريين للوصول إلى مفاصل الطبقات الشعبية.
المأخذ السابق أوصل الفقيد عبد السلام المودن إلى توجيه نقد جذري آخر لمعادلة
“إصلاح أم ثورة” وأعتبر في مقالة” قضايا الديموقراطية والتحديث” أنها متجاوزة في الواقع الموضوعي لنضال الشعب المغربي الذي أصبحت الديمقراطية المهمة التاريخية المطروحة للإنجاز.
وإدراكا من المودن أن الإعتراض ألأقوى على رؤيته،آتية من أطراف اليسار الجديد، لذلك،خص منهجها بالنقد الجذري وبسخرية،ليؤكد تخلفها المنهجي،حين تتشبث بما هو متغير،وتحويله إلى مطلق،ونفيها لمكانة التاريخ.
ماشكل قطيعة مع الفكر الماركسي اللينيني الحرفي،والإحتفاظ بنواته الصلبة،جدلية التناقضات،وبهذا ينفتخ المودن على الطبقات الشعبية،ويعتمد طبيعة الموقع في دائرة التناقص،لنتذكر مثلا موقفه/رأيه في الرئيس العرافي السابق،صدام حسين،إذ أعتبره ثوريا، إنطلاقا من الموقع الذي واجه منه الإمبريالية الأمريكية،وهو الموقع/الموقف الجذري.
إذن،جوهر المنطق المنهجي لعبد السلام المودن،ينطلق من طبيعة صدام التناقضات في كل لحظة ومرحلة،وبناء على ذلك،تصاغ المواقف وتتخذ القرارات،فالسؤال الدائم هو:
اتجاه تطورالمصالح، مصالح الأطراف المتصارعة.من كل ذلك،قالتشبث بالماركسية-اللينينية،كخط أيديولوجي في مواجهة/محاربة الإمبريالية غير مؤثر،لأن ذلك الخط الإيديولوجي الكلاسيكي،المعتمد على طبيعة خاصة للطبقة العاملة وبتحالفاتها،قد أصبحت متجاوزة، اعتبارا لتطور نقيضها الرأسمالي،والذي أفرز واقعا ماديا ملموسا،غابت معه الفكرة البروليتارية كما صاغها ماركس،ونظمها لينين في الحزب العمالي برمز المطرقة والمنجل.
لقد سبقت الإشارة إلى أن عبدالسلام المودن دقيق في منهجه،ما مكنه من رفض الرفضوية الدغمائية، وأيضا المحافظة بكل إصلاحاتهاالشكلية.يقول “إن أطروحتي هي التالية:لقد حدثت تحولات طبقية عميقة،في بنية المجتمع الرأسمالي المغربي، أصبحت تفرض موضوعيا إقامة علاقة ديمقراطية حقة،بين المجتمع المدني والدولة السياسية….إن الديموقراطية يمدلولها الإقتصادي تعني،في هذه المرحلة،إعتراف متبادل بين البرجوازية والطبقات الشعبية،فهذه الأخيرة تعترف للأولى بحقها في الملكية الخاصة وتنمية الرأسمال الخاص،والأولى تعترف للثانية بحقها في الشغل وفي الأجور الملائمة.
وبمدلولها السياسي تعني،المساواة أمام دولة القانون،بين البرجوازية والطبقات الشعبية،مما يسمح بإمكانية التناوب السياسي على رأس جهاز الدولة،بين الطرفين المتعارضين،وبالتالي إتاحة الفرصة لكل طرف في تطبيق برنامجه السياسي الخاص”.
هكذا يحدد الفقيد عبد السلام المودن منطلقين حاسمين،محددين لمسار تفكيره:
-التجاوز النظري لدوغما الماركسية-اللينينية.
-طبيغة المرحلة،مرحلة مابعد 1975،باعتبارها مرحلة شعار الديموقراطية.
وبذلك بدأت ملامح/أسس خط نضالي يساري،ستفرض عليه مواجهات نظرية عميقة حول جملة فضايا داخل الحركة التقدمية واليسارية،ومن هذه القضايا،قضية”إصلاح أم ثورة”وهي المعادلة التي أطرت كل الصراع بعد 1956.يقول المودن”في بداية الإستقلال،كان المجتمع المغربي مفتوحا على طريقين محتملين،لتطور الرأسمالية في المغرب،هما الطريق الإصلاحي والطريق الثوري….تمكن أنصار الطريق الإصلاحي من حسم ذلك الصراع لصالحهم…” وهكذا تولى العقاريون الكبار،مهمة تطوير الرأسمالية،والتي بلغت الإكتمال، لقد مرت من مرحلتين تاريخيتين،مرحلة رأسمالية الدولة،ومرحلة الطبقة البرجوازية القائمة الذات،وبشكل أكثر دقة،يمكن القول:أننا نعيش مرحلة انتقال من رأسمالية الدولة إلى رأسمالية الطبقة.”إن جوهر”الدلالة التاريخية للكتلة الديموقراطية لم يكن فعلاً تتظيمياً وسياسيا
نتيجة تنسيق سياسي بين خمس أحزاب،كانت تسمى بالأحزاب الوطتية الديموقراطيةفقظ،بل، كان ضمن جواستنهاضي نضالي،لم يعرف المغرب مثيله منذ الإستقلال” ، برأي الفقيد عبد السلام المؤدن،الذي نواصل الإستناع إليه،في الجزء الأخير من مقالته”بين ماض بائد ومستقبل مشرق،يقول: “ويمكن أن نسترسل ونسترسل،في جرد مزيد من الأمثلة… وتبقى الخلاصة واحدة:لم يشهد شعبنا مثيلاً لهذا النهوض السياسي،منذ بداية الإستقلال.
وبالطبع،هذا النهوض السياسي التاريخي، يمكنه أن يتطور وينمو إلى أن يحقق أهدافه،كما
يمكنه أن يرتد ويتلاشى ويجهض.
وفي رأيي،هناك نظرتان سياسيتان،يمكنهما أن تقودا إلى الإرتداد والتراجع:
1-النظرة الماضوية:من طبيعتها أنها تقرأ ميزان القوى بعين الماضي،(حينما كان مختلاً فعلا لصالح القوى المحافظة.) وهي لذلك لا تدرك التحول النوعي الحاصل فيه.
وهذه القراءة هي مجرد إسقاط ذاتي على الواقع الموضوعي.
وسلاحها،هو:”الواقعية” الزائفة والتبرير.
2-والنظرة المتذبذبة: من طبيعتها أنها،في البداية،تتموقع
في المكان الصائب،وتتبنى المواقف السياسية السديدة،
وتنخرط في النضال بهمة وحماس واندفاع.
إلا أن مواقفها غير راسخة،وغير نهائية،وبالتالي هي قابلة للتقلب والتذبذب؟”(2).
إن المؤدن،وبفكره اليساري الراديكالي،المؤمن،وكما قال،بكل فكره وعواطفه بالتغيير الديموقراطي،لم يتردد في رفع لواء الكتلة الديموقراطية،وكتب مقالة بعنوان”عاشت الكتلة الديموقراطية”،جاء فيها: “”لايمكن فهم الكتلة الديموقراطية الناشئة، إلا قي العلاقة بتقيضها.
وتقيض الكتلة الديموقراطية المكونة من الأحزاب التقدمية الخمسة، هي الكتلة الرجعية السائدة،المكونة من ثلاثة أركان:
1-البرجوازية الإحتكارية المخزنية(كطرف مهيمن)،،
2-البرجوازية الإحتكارية الجهوية،التي تدور في فلك الأولى،،وتمثلها الأحزاب الحكومية اليمينية،،
3-الإستقراطية العمالية اليمينية التي يمثلها الجهاز البرصوي.
إننا إذن بصدد كتلة ضد كتلة.. كتلة رجعية من طبيعة إقطاعية، تمثل مصالح الفئات
الإحتكارية السائدة،، وكتلة تقدمية من طبيعة شعبية،تمثل مصالح مختلف مكونات الشعب،التي تتطلع إلى إلغاء الوضع القائم.
فالتناقض بين الكتلتين،هو تناقض جوهري،،لا يمكن للكتلة الديموقراطية أن تحقق مصالحها إلا على حساب مصالح الكتلة الرجعية””(3)..
لذلك،فالعداء الطبقي هو السائدبين الكتلتين، وستحاول الكتلة
الرجعية توظيف أسلوب المناورة،والضغط والإغراء،والإستدراح لأطراف
الكتلة،وهذا ماتنبه إليه عبد السلام المؤدن،إذ يقول:
” وفي إعتقادي من بين المناورات الماكرة التي قد تلجأ إليها زعيمة الكتلة الرجعية،البرجوازية الإحتكارية
المخزنية، ،المناورة التالية :
إغراء الطرف الإشتراكي داخل الكتلة الديموقراطية عن طريق السماح له بانتخابات شبه نزيهة، تمكنه من تمثيل وازن
في البرلمان المقبل،،وبالتالي
دفعه لتشكيل حكومة إشتراكية
كبديل للحكومات البرجوازية السابقة،، بما يمكن أن يوحي به
ذلك ظاهريا من تداول للسلطة..مقابل تقزيم وتهميش
أطراف الكتلة الديموقراطية
الأخرى””””(4). سيقدم المودن في سياق المقال ما يمنع نجاح المناورات،من ذلك أن الثالوث الرجعي(البرجوازية والمخزن والجهاز البرصوي) لن يقبلا التنازل عن مصالحهمامنذ1996.لقد تنبأ المودن أكثر من ذلك،في الغرب الرأسمالي،حيث دولة الحق والقانون والتداول الحقيقي للسلطة، لم تستطع الأحزاب الإشتزاكية تحقيق المكاسب للطبقة العاملة،فما أدراك بالمغرب.”مما سبق يتبين أن مناورات النظام لن تمر،،وأنه لاخيار للكتلة الديموقراطية، غير
الإصرار،بشكل جماعي وموحد
على تجذير مواقفها السياسية
ونضالاتها الطبقية..
وتجذير الموقف،يجب أن يتجاوز النقد العام.
وعلى كل حال، فشعبنا والطبقة العاملة، ليس لهما مايخسران سوى سلاسل
عيوديتهما وعقد خوفهما.””(5)
إن نبوءة/رهان المودن لم يتحقق،فقانون الجدل أكبر منه،ومن ايمانه بتقدمية أحزاب الكتلة،لكن منهج المودن العلمي مكنه من المسك بإمكانية المناورة ولطرف معين، وهذا ماجرى فعلا.لكن بعد رحيله بخمس ستوات1996.ولأن المؤدن المؤمن،وبصوفية، بالتغيير،وإثارته
كل ما يعرقل الهدف،كتب مقالة بعنوان””ممارسات مثيرة للقلق،ينتقد قيادة الكتلة،موضعا النقط على الحروف:
“”نحن كمعارضة لم نقرر بعد،رسمياً ما إذا كانت الكتلة ستشارك [1992[في الإنتخابات أم سنقاطعها،مع أننا جميعاًً نقول باستحالة تكرار المهازل الإنتخابية السابقة. مع ذلك هناك العديد من الممارسات المثيرة للقلق،
التي تعطي الإنطباع وكأننا تسير فعلاً في أتجاه المشاركة.
فإذا قبلنا المزيد من مراكمة تلك الممارسات المقلقة،فإننا سنصل إلى القاع الذي تصبح فيه،من
المستحيل أن تكون لنا القدرة على خط الرجعة،حينما يتحدد موعد إجراء الانتخابات، ويصبخ الموقف عمليا لا نظريا.[بعد تقديم أمثلة لإجراءات رفضتها الكتلة، تم عادت وقبلتها الواحدة تلو الأخرى،إنه القبول بالأمرالواقع].ويضيف:
“”وعلى صعيد التعبئة الجماهيرية ،فالكتلة الديموقراطية الحديثة النشأة،التي نظمت مهرجان الرباط،الذي تجاوبت معه الجماهير أيما تجاوب،وحيث أن هذه الجماهير كانت تنتظر من الكتلة، المزيد من المهرجاتات
الشعبية المماثلة حتى تبقى
شعلة التعبئة متوهجة. لم تستمر في ذلك الخط،وبدا وكأن تشاط الكتلة إعتراه الفتور،بعد حماس الايام الأولى.
إن هذه الملاحظات المقلقة،تسيطر على قلب وعقل
كل مناضل، مقتنع بأن اللحظه التي منحها لنا التاريخ، لتخقيق
الإصلاحات الديموقراطية(كما بلورتها وصاغتها المعارضة)،
بكاملها وبدون أدنى تتازل،هي لحظة إستثنائية لن تتكرر.
فهل سنكون،كنخبة وكشعب وكوطن في مستوى اللحظة
التاريخية؟. (6).
ولأن الفقيد عبد السلام المؤدن مسكون بسؤال الفكر في تعاطيه مع معضلات الممارسة السياسية،وراس هذه المعضلات، طبيعة عقلية النخب،لذلك،كان من إسهاماته،دراسة
وتحليل للمنظومة الفلسفية لإبن رشد، وتأثيرها في الفكر الفلسفي الأوربي،يقدم الخلاصة الإستنتاجية التالية،يقول:
“والخلاصة:بما أن أرسطو يضع تماثلا بين الجوهر والصورة (ما يمثله الجوهر بالنسبة للعالم الحسي،هو نفس ما تمثله الصورة بالنسبة للمادة)،وبما أن الصورة ربانية غير فانية،فبالتالي ينتهي طوماس الأكويني إلى نتبجة منطقية مفادها،أن جوهر الأشياء المادية هو حقيقة غير مادية.
وبهذا يعود بفلسفة أرسطو، إلى الإتجاه المثالي الذي منه انطلقت لتتجاوز تناقضاته.
أما إبن رشد الذي قد توقع ذلك التأويل المثالي لفلسفة ارسطو،قبل ولادة طوماس الأكويني نفسه،فإنه سلك نهجاً مغايرا تماما.إن منطقه يقوم على الأساس التالي :كيف يعقل أن المادة التي تشكل مع الصورة وحدة عضوية،تفنى،بينما الصورة تبقى!.فإذا كانت المادة فانية،فإن الصورة هي الأخرى فانية بالضرورة. كيف يعقل أن الكائنات المادية تستمد صورها من واقع غير مادي!..إن اللجوء ألى الله في هذه الأشياء لا يفسر شيئا.ولذلك إتتهى إبن رشد إلى هذه الخلاصة الحاسمة :إن سر الصورة يجب البحث عنه قي المادة نفسها.
وبهذا الطرح، يكون إبن رشد قد عاد بفلسفة أرسطو إلى الإتجاه المادي،الذي منه انطلقت لتتجاوز تناقضاته.لكن ابن رشد لم يعد الإعتبار إلى الإتجاهات المادية الكلاسيكية وحسب،بل طعمها بتأكيده الصارم الموضوعي والمادي لمفهوم الجوهر (وهو ما لم يفعله لا أرسطو،بسبب نظرتة للتمييز بين الصورة والمادة،ولا ديموقريط وأبيقور وكل الماديين الآخرين،الذين كانوا ينكرون أصلا وجود الجوهر).
إن بعض المفكرين البرجوازيين في أوروبا، يقللون من شأن إسهامات إبن رشد في تاريخ الفلسفة البشرية. فبالنسبة إليهم، إن كل إسهاماته تنحصر في شرحه لفلسفة أرسطو.وكلمه شرح تعني بالطبع، إزالة الغموض عن الأفكار والمفاهيم الفلسفية الأرسطية المعقدة. وبالرغم من أن الشرح نفسه ليس بالشيئ الهين،خصوصاً بالنسبة لفكر فيلسوف عملاق ومن طراز أرسطو،وفي وقت كانت قيه أوروبا يعمها الجهل والأمية،إلا أن إسهامات ابن رشد مع ذلك،قد تجاوزت كثيراً دور الشرح.إن فلسفة ابن رشد قد مثلت تجاوزا تاريخياً لفلسفة أرسطو،وبدون الدخول في التفاصيل،يكفي الإشارة الى الإطار العام.ما هو الجوهر الذي قامت عليه فلسفة أرسطو؟ هو الإعتقاد بإمكانية التوفيق والتوحيد بين الإتجاهين المثالي والمادي في الفلسفة.
وماهو رد إبن رشد على ذلك؟ هو البرهنة على إستحالة ذلك.ونقطة إنطلاق تلك البرهنة كانت،هي نقد ابن رشد للأطروحة المركزية التي تأسست عليها منظومة أرسطو،وهي تمييزه الكيفي بين الصورة والمادة.إن هذه الشقة في العلاقة بين الصورة والمادة، التي حملتها معها الفلسفة الأرسطية،منذ نشأتها،كانت بمثابة الجرثومة التي أودت بحياة متظومة أرسطو. وقد جاء انهيار المنظومة الأرسطية،أولا على يد إبن رشد بنسفه للطابع التوفيقي لتلك المنظومة.وثانيا على يد طوماس الأكويني الذي أعطى الضربة القاضية لتوفيقية أرسطو من خلال شقه للطريق المثالي.
إن تجربة أرسطو،وعبرها تجربتي ابن رشد وطوماس الأكويني تؤكد على أن التناقضات بين المادية والمثالية هو تناقض تناحري،لذلك يستحيل حله في إظار وحدة توفيقية.إن التناقضات التي تسمح بذلك النوع من الحلول،هي وحدها التناقضات غير التناحرية.
إن السطور السابقة هي لتوضيح مدى الإسهام الهام لإبن رشد في تاريخ الفلسفة البشرية،
والسادة البرجوازيون الأوروبيون،وكل من حذا حذوهم من عنصريين ومتعصبين لم يكفهم مسخ فكر ابن رشد وحده،بل لقد مسخوا أيضا حتى إسمه نفسه.هكذا قد تحول بقدرة قادر إسم”إبن رشد” العربي،إلى””أفيرويس'”اللاتيني.
ولحسن الحظ،إن اوربا الرأسمالية
شأنها شأن أي واقع متناقض آخر لم تنجب البرجوازيين فقظ،بل ونقيضهم الشيوعيين كذلك، بالأمس تدخل ماركس وأنجلز للدفاع عن الحقيقة التاريخية،وإتصاف العلماء العرب،واليوم تصدى الفيلسوف
الشيوعي الفرتسي الكبير،لوسيان لوسيف،في كتابه العملاق” مدخل لدراسة الفلسفة الماركسية “للمناوئين لإبن رشد،
مبرزا في تفس الوقت تأثيره الحاسم ليس على مفكري عصر النهضة وحدهم،بل وعلى العصر اللاحق أيضا……”(7).
لقد شكل يوم9نومبر 1989تاريخاَفارقاَ في مسيرة اليسار العالمي إذ أشر انهيار جدار برلين على أزمة عميقة لأطروحة اليسار فكان عبد السلام المودن حاضراَ بفكره ومنهجه إذ قدم أطروحته المعنونة”بالوثيقة النظرية” إلى المؤتمر الوطني الثاني لمنظمة العمل الديموقراطي الشعبي 1990،ويقول الشهيد ،في تقديم وثيقته النظرية:
“إن المادية التاريخية تعيش أزمة حادة وعميقة. هذه حقيقة أصبحت دامغة لا سبيل لإنكارها. وإن كل من يؤكد العكس،،يبرهن بذلك عن دغمائية محافظة.
لكن ما المقصود بأزمة المادية التاريخية؟
تلك هي المسألة…
….لننطلق من هذه البداهة: إن الأزمة تدخل في صلب كل فكر إنساني عظيم،، والمتأمل في تاريخ المنظومات الفلسفية الكبرى،،يعرف بأن كل منظومة مهما عظم شأنها،،إلا وتمر حتما بأزمة خلال تطورها،،والاعتقاد بانعدام وجود ازمة في المادية التاريخية هو مجرد تصور تضري مثالي خالص. لأن التناقص بصفته حاملا الأزمة في أحشائه والذي له صفة الإطلاق له القدرة في اختراق كل فكر.
لنطرح السؤال من جديد: ما هي طبيعة أزمة المادية التاريخية؟.
هنا يجب التمييز بين المطلق والنسبي،بين العام والخاص مع التأكيد في نفس الوقت على وحدة المطلق والنسبي. وحدة العام والخاص. وهذا معناه، أن المطلق لا يمكن ان يوجد ويتجسد ويتشخص إلا في النسبي الذي يمنحه صورته الملموسة. كذلك إن العام لا وجود له خارج الخاص.
من هنا يمكن القول بأن المادية التاريخية في عموميتها،تمثل الحقيقة المطلقة بالنسبة لتاريخ المجتمعات،باعتبار أن كل تاريخ مجتمعي،يتطور وفق قوانينها المطلقة.
لكن تلك القوانين المطلقة تعبر عن نفسها في شكل فكر نسبي،وما الماركسية-اللينينية في جوهرها سوى شكل فكري للمادية التاريخية.في مرحلة صعود الطبقة العاملة الصناعية في المجتمعات الرأسمالية،
إننا هنا إذن نميز مابين مبدأ المادية التاريخية(المطلق-العام-الثابت)وبين شكلها(النسبي-الخاص-المتغير).
إن أزمة المادية التاريخة تكمن في كونها دخلت في تناقض حاد مع الماركسية-اللينينية،باعتبار أن هذه الأخيرة أصبحت معيقة لتطور الأولى” .
الخلاصة الكبرى للفقيد عبد السلام المودن هي:
إن الماركسية-اللينينية قد تجاوزها الواقع الموضوعي، لأنها شكل تاريخي.
و”قانون” الصراع”أكبر من ماركس ولينين،وآن الوجود الإجتماعي هو محددالوعي الإجتماعي وليس العكس.وكانت تلك،من الخلاصات النظريةالتي بلورها الفقيد عبد السلام المودن حول الموضوع، والذي ذهب فيها حد التأكيد على أن منطق قانون الصراع يمكن ان يعطي سيادةقطب غير إشتراكي،وكان ذلك إنطلاقاً من تحليله للتجربة الجزائرية أواخر الثمانينيات والإيرانية قبلها.كما خلص إلى ان البريسترويكا تعبير عن تحول تاويخي للطبقةالعاملةوالمجتمع السوفياتيين،وليست
بالقطع تطلعات ميخائيل غورباتشوف بالرغم من دوره الأساسي.
إن الخطأ القاتل الذي وقع فيه اليساريون هو النظر إلى الماركسية-اللينينية كعقيدة وليس كفكرً بشري قابل للأرخنة.
ما سبق،يوقع بشكل مباشر في
السؤال التالي:
لماذا يستبطن اليسار المغربي “العزلة”عن الشعب؟
لا يعبر عن هذا الإستبطان بوضوح، لكن، تجربة خلافاته حول الوحدة تعبر وبشكل عيني عن أزمته الفكرية.
ودرءاً لأي غموض والتباس نظري،حرص المودن على تأكيد إستحالة الموقع التوفيقي/التلفيقي الوسطى،فكرياَ بطبيعة الحال، بين الرأسمال والعمل،وسمى ذلك بالموقع المستحيل.وهذا المنطق التناقضي لوحدة الأضداد لا يلغي توافقاَ سياسياَ،والذي قد تفرضة معطيات الصراع.
وعندما يقول أن اليساري الحقيقي هو ذلك المؤمن بكل فكره وانفعالاته وعواطفه بالديموقراطية،معنى ذلك،أنه لا يجرد تحليله من أساسه الطبقي،لكن، بتحديد مركزية الحركة الإجتماعية في المرحلة التاريخية مابعد انهيار جدار برلين.
قد يبدو أن المودن دوغمائي في تبنيه لطرح الإنعكاس،لكن الحقيقة غير ذلك،فإذا كان العامل الإقتصادي هو المحدد لطبيعة التموقع الإجتماعي،فإن العامل الفكري الفلسفي هومرشد وموجه السياسي ، والتغيير لا يحدث الا لخظة هيمنة فكرالتغير اليساري.
يمكن الآن تحصيل خلاصاتجزئية(أولية) للمقدمات النظرية للفقيد عبد السلام المودن،
إن المنهجية المتبناة هنا،تفرض التنبيه إلى الملاحظة التالية:
لن تكتمل رؤية المودن إلا مع كيفيات تعاطيه مع جملة قضايا تصدى لها تحليلا وأستخلاصا.
من خلال ما تم بسطه من أطروحة المودن:
1-تجاوزه النظري للماركسية-اللينينية باعتبارها شكلا من أشكال المادية التاريخية،،والثابت هو قانون الجدل،وهو أكبر من أي تنظير وتجربة.
2-نقده الجذري لأطراف اليسار الجديد، لذلك، سخرمنها،ليؤكد تخلفها المنهجي،حين تتشبث بما هو متغير،وتحويله إلى مطلق،ونفيها لمكانة التاريخ.
3-نقده لمعادلة”إصلاح أم ثورة”واعتبارها إشكالية متجاوزة موضوعيا،بانطراح الديموقراطية ودولة الحق والقانون كمهمة للإنجاز من طرف الشعب المغربي بكل مكوناته العاملة والمستثمرة.
4-ودرءاً لأي غموض والتباس نظري،حرص المودن على تأكيد إستحالة الموقع التوفيقي/التلفيقي الوسطى، على المستوى الفكري،بين الحداثة والمحافظة.لانه منطق مغاير لمنطق الفعل الفعل السياسي الذي قد تفرضة معطيات الصراع.
5-عندما يقول أن اليساري الحقيقي هو ذلك المؤمن بكل فكره وانفعالاته وعواطفه بالديموقراطية،معنى ذلك،أنه لا يجرد تحليله من أساسه الطبقي، لكن في إطار مركزية النضال الشعبي كحركة إجتماعية .
6-قد يبدو أن المودن دوغمائي في تبنيه لطرح الإنعكاس،لكن الحقيقة غير ذلك،فالإقتصادي هو المحدد،لكن الفكري هو المهيمن و الموجه، مصرح به أو مستبطن ،والتغيير لا يحدث الا لخظة هيمنة فكرةالتغيير.
لقد شكلت إجتهادات المودن إذن مقدمات ومنطلقات مبكرتين ، ومن موقع يساري، لمقولات الظرفية الراهنة:الوطنية المتجددة و المواطنة والعدالة الاجتماعية والمناطقية والبيئية وحسب النوع،والمصالحة التاريخية و التعاقد الجديد بين الدولة والمجتمع……
هوامش:
1-عبد السلام المؤدن -بين ماض بائد ومستقبل مشرق-انوال ليوم11-08-1992.
أنوال ليوم11-08-1992
2-تفس المصدر
3-عبد السلام المؤدن -عاشت الكتلة الديموقراطية -انوال ليوم 01-06-1992
4-تفس المصدر والصفحة. .
4-عبد السلام المودن) -ممارسات مثيرة للقلق-
5-أنوال يوم12-08-19 6-نفس المصدر.
7-غبد السلام المودن -الطبفة العاملة للحديثة والنظرية الماركسية .
الناشر :عيون المقالات-الدار البيضاء.
الطبعة الأولى1990.
المطبعة:دار قرطبة-الدار البيضاء.