وجهة نظر

سباعية العد العكسي(2)= العمل في سياسة القرن 21 يتطلب التقييم العميق لتجارب القرن 20

في قلب الاوضاع 51 بقلم أحمد الخمسي

إذا كان خطاب ساسة اليسار يظهر قديما وغير ملائم لمزاج شباب اليوم، فعمق الهوة يكمن في بقاء اليساريين في أجواء القرن العشرين. بينما مستجدات المعلومة التي بقيت خفية تكشف علاقات الترابط بين قوى الأمس بشكل أوضح.

سواء تعلق الأمر بقضية الريف أو مشكل فلسطين. ومهمة اليسار اليوم هو الإفلات من مآزق القرن العشرين، وكشف نقط التراجع ونقط التقدم. وإعادة بناء منظور اليسار للسياسة في ضوء ما لم تتحه حدود الاطلاع خلال القرن العشرين.

واجب اليساريين اليوم فتح نوافذ التفاؤل لشباب يسار اليوم. ولا قدرة محتملة تتوفر لتحقيق هذا الهدف التفاؤلي إذا اقتصر دور القياديين على معارك حروبهم الأهلية الصغيرة.

***

غالبا ما ننسى أن اقتحام الناس لمجال السياسة، وراءه خلفية افتراضية أصلية هي المساهمة في تقدم المجتمع بالموازاة مع اشتغال مؤسسات الدولة. والهدف هو إسماع صوت الشعب، إما من داخل المؤسسات، إن كانت الحياة السياسية تعتمد الطريق الديمقراطي في تجديد المؤسسات، وإما أساسا عبر التضحيات النضالية إن اتبعت الدولة نهج سياسيا مغلقا تفتح أبوابه لمن تريد وترضى عنه.

إن تجربة كل واحد منّا تؤكد فوائد ممارسة السياسة من حيث توسع النظر الى الأشياء وتعمق فهم ما يجري بكيفية أوضح. ولذلك مهمة اليساسيين جميعا التعاون بدل الصراع. ونعلم أن اختلاف المصالح الطبقية ينتج عنه بشكل تلقائي الصراع في السياسة بين اليساريين والليبراليين. ولكن عندما تفتح الحروب الأهلية داخل الصف اليساري، نتأكد أنهم نسوا الأهداف الكبرى وغلب عليهم تخلف العلاقات الاجتماعية وانغمسوا في الجزئيات، وغاب خيط النور من مخيلتهم السياسية وأصبحوا يرون الأعداء في كل مكان وفي كل لحظة.

لا يميل السياسيون إلى الإصلاح بدل الثورة، سوى إذا سارت الدولة، سيرا متوازنا، آخذة في العمق، مطالب الشعب وفق الممكن، القابل للتطبيق. وإذا كان المشتغلون في الحياة السياسية وفق قواعد العمل الاصلاحي من داخل قواعد العمل، واعتقادهم الضمني غير ذلك، فهم إما جبناء خوافون، وإما يشتغلون بخلفية انتهازية مع قواعد العمل الرسمية.

وهو ما أسرعت اليه الدولة بعد محاولة الانقلابين،

 

عندما انتقلت المنظمات السياسية السرية إلى العمل السياسي الرسمي القانوني، جرى ذلك تجاوبا مع الدولة التي وصلت إلى الباب المسدود بعد سياسة الانفراد الاستبدادي بالسلطة طيلة خمس سنوات (1965-1970). نتج عنه زلزال داخل المؤسسات السيادية نفسها (محاولة الانقلاب العسكري مرتين)، لأن الأسلوب البوليسي ساعتها، فاق الحدود الأمنية إلى تسميم الحياة السياسية بمخزون التخويف.

ولما أصبحت القضية الترابية على رأس جدول أعمال السياسة الوطنية، راجع اليسار سياسته السابقة تباعا، الاتحاد الاشتراكي سنة 1975، ومنظمة 23 مارس سنة 1979. ولما سقطت تجربة الثورة الروسية (1917-1991) التحقت منظمة إلى الأمام بالحياة السياسية رجل داخلها ورجل خارجها سنة 1995.

***

ولأن البلدان الملكية الراسخة في التاريخ، تعتبر انتقال العرش، لحظة سيادية مفصلية تهم البلد برمته دولة وشعبا وأرضا، لم يستوعب يساريو ما بعد السبعين، عمق انتمائهم ودورهم، وواجبهم، فغرقوا في تفاصيل السياسة ناسين وحدة الصف في لحظة السيادة. طبعا، لأنهم يجهلون في الشمال، أن هولندا وبلجيكا كانتا دولة واحدة وانقسمت، ويجهلون أن النورويج كانت اقليما من السويد وانفصلت، وبطبيعة الجهل المُطبَق، لا يستوعبون مبادرة فرنسا اليوم بصدد كورسيكا خوفا مما قد يقع غدا في كاليدونيا في المحيط الهادي، أو حتى لامارتينيك وغويانا في أمريكا الوسطى؟

***

ولم يعلموا أن أمريكا وفرنسا نسقتا بينهما سنة 1953، لتنفذ بين يوم (أمريكا الأربعاء 19 غشت) وليلة (فرنسا الخميس 20 غشت) مؤامرتهما ضد الديمقراطية في إيران (إزاحة الحكومة المنتخبة) وضد الوطنية في المغرب (السلطان الشرعي). لأن مصدق الايراني أمّمَ البترول، بينما أعلن سلطان المغرب تأميم السيادة وانتهاء صلاحية عقد الحماية.

***

وبصدد فلسطين، ما زال اليساريون يجهلون إلى اليوم، وجهلهم ثلاث مستويات=

الجهل بحجم الحركة الصهيونية ضمن الرأسمالية العالمية. فقد جرت طيلة الحربين العالميتين= الأولى دور حايم وايزمان (عالم كيمياء وأول رئيس للكيان الصهيوني) في صناعة السلاح الناري بلا دخان استعملته انجلترا بدأ من سنة 1916 وردت الجميل للحركة الصهيونية ببلاغ وعد بلفور تم تسليمه إلى أكبر ميليادير صهيوني ساعتها (روتشايلد)، سنة 1817. وفي الحرب العالمية الثانية، ألبير انشتاين الذي استقطبه وايزمان للحركة سنة 1921، هو صاحب فكرة(يوليوز 1939) اختراع القنبلة النووية الأمريكية ولم يكن أوبنهايمر سوى منفذ البرنامج العملي للفكرة (سبتمبر1939).

الجهل الثاني بصدد فلسطين، المقايضة بين الغرب الرأسمالي والنخبة السياسية في البلدان الاسلامية، القاضية بتسليم أغلب فلسطين للصهاينة، وتسليم جزء من الهند بذريعة الأغلبية المسلمة. بحيث ظهرت باكستان (بعد قرار تقسيم الهند) في صيف 1947، لتظهر اسرائيل في نوفمبر في الخريف (بعد قرار تقسيم فلسطين).

الجهل الثالث الذي يغشى عيون وأدمغة اليساريين، هو اعتراف ستالين مباشرة بعد اعتراف أمريكا. لم تسرع أمريكا للاعتراف سوى ردّا لجميل القنبلة النووية، لاستكمال وعد بلفور البريطاني الذي كان ردّاً لجميل اختراع الطلق الناري بلا دخان وتسليمه الى الجيش الانجليزي. اعترف ستالين باسرائبل في فلسطين لأن شبه جزيرة القرم كانت مرشحة لتصبح الوطن القومي للاشكيناز.

ولم يكن من اليساريين في العالم ضد تقسيم فلسطين والهند سوى الأممية الرابعة التروتسكية.

 

***

وفي قضية المقاومة المغربية الريفية، ليس لليساريين علم بالإسفين الذي دقته السلطة الاستعمارية الفرنسية بين الدولة المغربية والزعامة الريفية ما بين 1925 و1926، وهو العامل السياسي الإعلامي التضليلي الخارجي، ساعتها لم يكن المذياع قد ظهر ليتابع السلطان يوسف بنفسه ما كان يجري في المشرق إثر إعلان إلغاء السلطنة (1923) ثم الخلافة (1924) في تركيا. فقد ألّبت الإقامة العامة السلطان يوسف ضد عبد الكريم الخطابي مرتين، المرة الأولى عندما توصل (1925)- بدلا عن الممثل الشرعي للمغاربة/السلطان- بدعوة لحضور مؤتمر تهييئ إعلان مصر خلافة المسلمين، ولما فشلت مبادرة علماء الازهر، توصل ثانية بدعوة(1926) من السعودية لحضور مؤتمر تهييء إعلان الجزيرة العربية خلافة المسلمين. علما أن الزعيم عبد الكريم اعتذر عن الحضور في المرتين. وفشلت المبادرة السعودية بدورها.

ثم بعد هذا العامل الخارجي، جاء العامل الداخلي لانتهاء المقاومة المغربية في الريف، وهو خطأ فتح جبهة ثانية ضد فرنسا شمال فاس. مما سهّل مامورية التحالف بين فرنسا واسبانيا ضد المقاومة المغربية في الريف.

وما لبث في الأذهان هو تأسيس الجمهورية، دون أن يقرأ علينا أحد نص وتاريخ الإعلان قصد تفحص مضمون التفاصيل. ولكن هوى اليعقوبية الفرنسية العالقة رومنسيا في أذهان اليساريين يسقطهم في نفس الحفرة التي تركها اسفين الاستعمار. فالأوهام دائما تخطو على أثر الجهل بالوقائع.

في هذا الأمر يكفي استجلاء المدى الزمني بين التحول الطارئ في ميزان القوة العسكري في 21 يوم بين 21يوليوز عند انتصار أنوال و18 سبنمبر الذي يقال عنه يوم تأسيس الجمهورية، بلا أثر يُذكر؟ ولا حديث عن الإعداد ولا عن الأبعاد والاهداف والضرورة.

ما يذكره الفرحون بهذا الانتقال الغامض، هو ترديد رجاحة العقل الاستراتيجي لدى عبد الكريم الخطابي. فلا ندوة صحافية وهو العارف بأهمية المصاحبة الإعلامية لأية خطوة نوعية مؤثرة في محيطه السياسي والاجتماعي. ألم يكن الهدف من نشر هذا الخبر من طرف الصحافة الأوربية، استدراج المقاومة الريفية إلى متراس فاصل –مجانا- بينها وبين المغاربة الذين لم يكن بين نخبهم جماعة مؤثرة كافية مع إعلان الجمهورية. دون ذكر تناقض الجمهورية وسط تقاليد اجتماعية حيث الحصار المضروب على النساء والتقليدانية الشاملة. بحيث يتردد إحجام عن استرجاع مليلية خوفا من السلوك المتوحش تجاه النساء في المدينة. ثم الغياب الغامض لفضح دخول الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب الاستعمارية بواسطة فيلق الطيارين المتطوعين. ومن يدري أنهم هم من نفّذ القصف بالغازات السامة.

من جهة ثانية، يحلو للمتحدثين أن يذكروا تأثر عبد الكريم بمصطفى أتاتورك، وفي مواضع أخرى من التحليل ينسبون إلى عبد الكريم التأثر بالتوجه الاصلاحي السلفي. وإذا كان من تأثر عملي في ميدان واضح، هو تأثر مصطفى أتاتورك بمعركتي الهري (1914.11.13) ضد الفرنسيين ومعركة أنوال ضد الاسبان، لأن صدى كل واحدة منهما كان عالميا لفداحة الخسائر التي نتج عن كل واحدة منهما بشكل استثنائي…غير مسبوق. ويرجع التأثر كونهما جرتا في مناطق جبلية شبيهة بالاناضول. شجعتا الزعيم التركي على قلب موازين القوى العسكرية للتشطيب على شروط اتفاقية سيفر وتغييرها باتفاقية لوزان لطرد الفرق العسكرية اليونانية والايطالية والفرنسية والبريطانية من الأراضي التركية مع الاحتفاظ بالجزء  الأوربي من تركيا.

يقارن الفرنسيون بين عبد الكريم الذي يحقق النجاحات ويوسع دائرة النفوذ الترابي ويسبقه النفوذ المعنوي، وبين ليوطي الملاحظ المتربص الهادئ الذي لا تهمه سوى منخفض ورغة حيث المخزون الغذائي الذي لا يحق للفرق الريفية الوصول إليها. مع حرص ليوطي على عدم المس بتمثيلية السلطان الشرعية.

يقارن الفرنسيون بين عبد الكريم سنة 1925 وبين الروكي قبيل الحماية لتأليب السلطان عليه، وهم يخفون الخوف من التحاق الجزائريين بمشروع الحرب المسلحة ضدهم هم.

***

هكذا بقيت “العدائية” سيدة الموقف. ونسوا دروس 14 قرنا “ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌّ حميم”. ولأن الانغماس في تفاصيل المجتمع  الاستهلاكي، بحيث لا يتميز أمام الناس الاشتراكي عن الليبرالي، تنحصر القناعات بين الجدران في الاجتماعات للتعويض عن غياب التضامن الاجتماعي اليومي. لا أعمم، ولكن غياب القدرة على تميز اليساريين في مجتمعهم، تنعكس في شراسة الخلاف المزمن. نعم للخلاف لحظات بعينها، ومن حسن الطالع التشبث بالموقف، لكن تحويل الخلاف المحدد في قضية بعينها الى صراع مزمن، خصوصا حول المواقع الحزبية، تعطي صورة التفاهة عمن يضحون بوقتهم طول العمر حول قضايا نبيلة.

***

هكذا نضيع التثقيف الذاتي لتجديد منظورنا للقضايا ونضيع فرص التآزر فيما بيننا ونتشتت مجموعات صغيرة، وفي الأخير نشتكي كوننا أصبحنا في “هامش الهامش”.

وأخيرا، لمن أصابهم الدوار بصدد التعبير عن وجهة النظر في الرباط، لست مأجورا عند أحد، ليزمني بما يريد هو الدعاية لزاوية نظره هو. وفي جميع الأحوال، الأرضيتان لا تختلفان في قضية معينة، كل ما في الأمر أن مضمون أرضية التغيير الديمقراطي تتجه أكثر نحو التقييم لما سبق، بينما تتجه أرضية السيادة الشعبية للمقترحات المستقبلية. وهذا التكامل بين التشخيص وبين الإحاطة بما يقتضي عمله ينفع أشغال المؤتمر ولا يضيره.

وهذا ما لخصته عبر التشبث بالتفاؤل، وبالمناسبة، لم يمر أسبوع على الرباط حتى تمكنت المقاومة الفلسطينية عن حذف الحرب بين روسيا والغرب في أوكرانيا، من الصفحات الأولى وأصبحت القضية الفلسطينية تتصدر الرأي العام العالمي. وأعطتنا الدرس جميعا أن الفائدة لم تكن يوما في الكلام بل في مراكمة الطاقة لرسم الإرادة في تضاريس الأحداث، تدفع بها إلى قدرة فعلية تزلزل موازين القوى، وليس مجرد بيانات قولية.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى