وجهة نظر

هموم الحروب الصغرى والكبرى بقلم أحمد الخمسي

في قلب الاوضاع 56

نصف قرن من السياسة (1973-2023) من 70 عاما عمرا. في ابتدائي تعليم، من الأبيات الشعرية التي على كل يافع أن يكون لها حافظا مردّدا= سئمت تكاليف الحياة ومن يعش، ثمانين حولا لا أب لك يسأم. وبعده تأتي روايات توفيق الحكيم، الموسوعة الذي ألّف حول “زهرة العمر” ثم “سجن العمر”. لم تكن الدراسة سوى منتزه عبر حيوات المؤلفين، شعرا ونثرا. حتى مضمون النضال كان ممهورا بنجاح اعتيادي مسبق، ممزوج بين تكاليف الحياة (=مدرسة المسؤولية) وبين وسائل إثبات حسن “الترابي”(=المعاملة) تجاه الغير(= اللي كيحسب بوحدو كيشيط لو). المنافسة في الجودة نعم، لكن ممهورة بكثير من العفة والإيثار والانتباه إلى من يستحق العون، لأن الدنيا دوّارة، ودوام الحال من المُحال. كان التأمين من تقلبات الدهر وصروف الزمن يجري عبر تسبيق المودة، “اعمل الخير وانساه، قدّامك تلقاه”. بينما كان الطمع والجري وراء المكاسب محسوب بمعادلة الربح والخسارة نعم، لكن بحكمة البصيرة التي تحسب للزمن البعيد والحذر من أن ينطبق على “الذكي الحاذق” أنه “شاف الربيع ما شاف الحافة”.

ولأن الدراسة كانت دراستين= دراسة من أجل كسب العيش، والدراسة من أجل تجنب الأوهام ومزالق الأنانية. ولأن الأنانية غريزة لا يمكن العيش دونها، كان المعنى الثاني للدراسة يهدف إلى الدمج بين الأنانية والغيرية، والبحث عن التكامل بين الأنانية والغيرية بدل البقاء – على الطريقة الكلبية كما يعبر بعض الفلاسفة- في لحظة التناقض بينهما. ولأن مكر الزمن أكبر من حذق الأفراد، كان الحرص من الاختباء وراء الغيرية لإخفاء الأنانية. بالتالي، جَدَّ الأجدادُ للتوليف الموضوعي بين الأنانية والغيرية.

التجربة الأمريكية في فهم عمق الحياة ليس فيها فقط الوجه البراغماتي الذي يكاد يخفي “الانتهازية” والانقضاض على الفرص، كل الفرص، بل في الجامعات الأمريكية روحانيات جديدة تنير طريق الأمريكيين وتعين الأحفاد على تلافي همجية الأجداد الأوربيين الذين ربحوا الأراضي والذهب على حساب الهنود الحمر. ومن خلفية الأمريكيين القائمة على الاستعانة بالعلم في كل مناحي العمل، اتجهوا إلى التسلح بالتعلّم دوما كي يقللوا من عمى المصالح ويجدّدوا فرص الاستنارة الدائمة ما دام التقدم قدَرًا يساوي معنى الحياة نفسها. لذلك، كتب جون ديوي “الفن خبرة”، وكتبت بعده بأكثر من سبعين سنة إحداهن عنوان “أخلاق العناية”.

بشرح مفهوم “أخلاق العناية” بدأت بضرورة تجاوز ثنائية أخلاق الفضيلة، التي تتناقض- ميكانيكيا- مع سلوك الرذيلة. وذكّرَت القارئ كون الكنيسة ورهبانها اعتقدوا أنهم مركز الفضيلة وسواهم لا حظ له – كلما ابتعد عن الكنيسة وعالمها- سوى السقوط في الرذيلة، لأنه بابتعاده عن الكنيسة يبتعد عن المقدس وينزلق نحو المدنس. وهو في تقربه الدائم نحو المقدس لا يخدم سوى نفسه، بينما الأخلاق في المجتمع لا قياس لدرجاتها سوى العناية بالغير، مهما كانت علاقتك بالمؤسسة الدينية فهي لا تنفع الناس سوى بدرجة انتفاعهم منك. ولكي ينتفع كل حيّ من عمل الأحياء الآخرين لا بد له من أن يعتني بما ينفعهم هم كي يبادلوه بما ينفعه هو. فالطاقة المنتجة للأخلاق في العلاقات الاجتماعية هي العناية المتبادلة بين الناس “اعطيني نعطيك”، لكن بحساب الدياليكتيك طبعا وليس بحساب الآلات والميكانيك.

447 كلمة في السرد أعلاه حديث عن سبب الحروب الصغيرة. من لم يعتن في الأصل وفلسفة الحياة بالآخرين، سيجد نفسه في لحظة متروكا لنفسه. تبدأ الحرب باليأس من التواصل. ويبدأ اليأس من التواصل عندما نكتشف أن أنانيتنا لم تقف عند حد. ولم توازن مراكمة الفرص بإعادة توزيع الفرص بمقياس التكافؤ والعناية بالآخرين، لأن الدنيا دوّارة والزمن في دورته التلقائية لا يرحم، وهو ما سمي بمكر التاريخ. ومكر الواحد منا ليس مرفوقا بسوء نية بالضرورة، لذلك قيل إن طريق جهنم مفروش بالنيات الحسنة. والتفاوت بين الناس في المجتمع يأتي هكذا من تفاوتات “موروثة”، مِنّا من وجد ثروة مالية نفعته دون أن يجد غيره ثروة، ومِنا من وجد حكمة الوالدين بينما حُرِم آخر من رحمة الوالدة وعطفها وتوجيهها، ومِنّا من حصل على فرصة تعليم بينما آخر لفظته ظروف المجتمع ولم توفر له مقعدا في المدرسة… وفوق هذه الموروثات الجميلة أضاف “المحظوظ” فرص النجاح الذاتي إلى فرصه الموروثة. بينما لم يجد آخر ما يراكمه فوق “الهمّ” الموروث سوى “السواد” المكتسب.

عندما يتأمل الواحد مِنّا نقد الكتب الغربية طيلة القرون العشرين الماضية “لليهودي التائه”، يستخلص وفاء اليهودي لمجتمعه المغلق وفق “وصايا حكمائه…” ومجملها في الأصل ما ورد من بعد عند المسلمين في صيغة دينية كما يلي= “رحماء فيما بينهم، أشداء على الكفار”. يشتكي مثقفو المجتمع الغربي من اليهودي الذي يعيش بينهم كونه يتصرف مع جماعته اليهودية بالمبادلة المالية دون ربا، بينما يتصرف مع قومه –من غير اليهود- بأعلى معدلات الربا. تجد هذه الشكوى عند هنري فرود الأمريكي كما تجدها بصيغة عنصرية متحرشة عند الألماني ريشارد فاغنر وعند الفرنسي شارل موراس أيضا كما تجدها خفية ناعمة عند الروسي سولجينيتسين. أما شيكسبير الانجليزي فعناوين مسرحياته وتفاصيلها فهي التي نبهت آل روتشايلد إلى ما انتقده ماكسيميليان روبيسبيير عند الغربيين من العزلة التامة المفروضة على اليهودي في الغرب مما جعله ينتبه للقيمة الوحيدة المتبقية فرصة له وسط الدونية والاحتقار الذي لا ينتهي. قيمة المال الذي يحتاجه الغربي فلا يجد مندوحة من استعمال اليهودي خزانا للمال يطلبه منه يوم يحتاج إليه في السلم وفي الحرب. لذلك قرنت البرجوازية الغربية بين الثورة الفرنسية وبين “مؤامرة” الماسونية. وقبلها أصدرت الكنيسة الفرنسية منذ القرن الرابع الفتوى لمنع المجتمع الميسيحي من التبادل التجاري مع اليهود داخل نفس المجتمع. ليبقى الأقنان تحت رحمة الإقطاع المسيحي وحده.

اعتصر الغرب اليهود ليحاصرهم في مجرد خزانات للمال. وفي بداية القرن العشرين، كتب أحدهم حول اليهودي البنكي والسياسي والصحافي والبرلماني، ومن هذا الكتاب الأصفر بتوقيع مستعار، خرج جان هيس الفرنسي ليكتب وجهة نظره بصدد مغرب بداية القرن العشرين تحت عنوان= اسرائيل في المغرب، ومن المقدمة ذهب يوصي بضرورة حل مشكلة فرنسا بصدد المغرب بتنظيم الحل العسكري فستجد فرنسا العون في اليهود لمدها بالمال  ومساعدتها على إبعاد ألمانيا والاستئثار من ثمّ بالبلد الغني الجميل. وقبل بضع سنوات من ذلك، كانت العنصرية الفرنسية قد ألصفت هزيمتها أمام ألمانيا في ضابط فرنسي يهودي دريفوز، وفاحت ورائح الفساد من المؤسستين العسكرية والقضائية الفرنسية. حتى لما تجدد التحقيق وظهر بائع الأسرار في شخص إيستيرهازي، برأته المحكمة. في المقابل دفعت البرجوازية بالتهمة نحو المستعمرات لتبرئة الذمة في العداوة بين المسيحيين ويهود أوربا.

وعلى النقيض من جان هيس كتب جان جوريس كتيبا تحت عنوان= ضد الحرب في المغرب. اليمين الفرنسي الذي ينتقد اليهود في الغرب مثله مثل كل اليمين الغربي اعتبر القائد الاشتراكي جوريس عميلا لأهداف ألمانيا إذ اغتيل جوريس قبيل إعلان الحرب العالمية الأولى. بينما تكللت نصيحة جان هيس بالدعوة الى الدخول الفرنسي عسكريا إلى المغرب. وبالضربة الموجعة التي ردّ بها أمازيغ الأطلس على الحضور العسكري الفرنسي، بحيث قتل أجدادنا المقاومون 30 ضابطا من أصل 43 و500 جندي فرنسي من أصل 1200. تلك هي مأثورة معركة الهري الخالدة قرب خنيفرة في 13 نوفمبر 1914.

تأتي الحروب عندما تتغول أطماع الطامعين. وغالبا ما يتغول الناجحون فيصيبهم الغرور “بنجاحهم”. كتب الفرنسيون كثيرا عن المقارنة بين ملكهم الشمس لويس الرابع عشر، وبين سلطاننا اسماعيل العلوي. يصفون ملكهم بنجاحات وهمية، ولم تزد في واقع الأمر عن بناء قصر فيرساي بحدائقه، أما ما اقترفه في حق الفرنسيين فهو تصلبه تجاه مواطنيه الذين لا يشتركون معه في مذهبه الكاثوليكي. وعندما يأخذ القارئ نفَسَهُ الصبور لحل ألغاز حروب أوربا بين أممها، يجد لويس الرابع عشر، قد فقد في آخر أيامه من التراب الفرنسي كل ما جمعه الملوك السابقون على حواشي اسبانيا وايطاليا والنمسا. ليترك للويس الخامس عشر من بعده منظومة أعداء من كل جانب، بحيث تمكنت أنجلترا وسكانها لا يزيدون عن ثلث عدد الفرنسيين، تمكنت من طرد فرنسا من أمريكا الشمالية ومن الهند، خلال ما عرف بحرب السنوات السبع (1757-1763) لتتربع على عرش العالم وتدفع فرنسا نحو الخلف. كان السر في إدارة الدولتين أن انجلترا ملكية برلمانية بينما بقيت فرنسا ملكية تنفيذية.

لم تتمكن انجلترا من الاحتفاظ بهذا الموقع الريادي طيلة قرنين سوى لأن الملك البريطاني وجد نفسه في آخر المطاف – كما نصحه سلطان المغرب اسماعيل- وقد رجع إلى مذهب شعبه، وأضاف إلى ذلك، مأسسة الدولة على منظومة الملكية البرلمانية.

لم تفقد الجمهورية الفرنسية بوصلة الحكم فقط، بل دارت دورة الزمن لتخضع للأمبراطورية الألمانية فاقدة أقاليميها (الألزاس/اللورين) مدة أطول (47عاما) من المدة التي أقامت خلالها حمايتها هنا (44عاما).

واليوم، يقتضي الأمر لدينا ألا نقترب من آل روتشايلد مثلما اقتربت فرنسا منهم بدرجة الصفر على عهد ايمانويل ماكرون. بل علينا أن نتأمل في الماضي عندما ابتعد محمد الخامس عن فرنسا أصلا كيف أصبح الاندماج الكلي بين العرش والشعب، يخلده التوازي بين شارع محمد الخامس وشارع علال بن عبد الله في العاصمة، بينما ابتلينا بالأزمات المتوالية عندما التحمت سياسة المغرب باليمين الفرنسي العنصري، من موريس دوفيرجي إلى بينواست ميشان مختزلين فلسفة شارل موراس العدائية لكل المحيط الفرنسي. فاليعقوبية الحديثة واليمين الفرنسي القديم وجهان لعملة واحدة. لو قارنا فقط بين ليونة المالكية الأشعرية تحت سقف آل البيت عندنا لاكتفينا بما نرث من حكم وحكمة ولاقتنعنا أن لا حاجة لنا للتقرب لا من اليمين الملكي الفرنسي ولا من اليعقوبية الشديدة المركزية.

فليس في تقاليد الحكم الإسلامي قط تجديد الحروب بسبب وراثة الحكم كما كان يحدث للأوربيين طول تاريخهم. ولنتذكر أن ثورة الوعي الوطني في مسام الشعور بالشأن العام تيار جديد بين المغاربة يسري كل يوم أوسع وأعمق وأعلى منذ العشرين سنة الأخيرة. يبقى لنا فقط نسج الفواصل بين من يحكم وبين من يسود فوق الجميع، حتى لا يجد من يحكم تعلة للاختباء وراء من يسود. لأن من يسود يسود المغاربة جميعا ويمثلهم وله خبرة القرون في الحفاظ على الأرض والعيش والكرامة والحرية والعدالة والسلم، بينما من يحكم يخلط بين قواعد السوق وبين حيل المصالح الشخصية والطبقية الضيقة، مستغلا السلطة التشريعية والوظيفة التدبيرية للإدارة بل والقوى العمومية التي تنتمي لسلطة السيادة وليس من حق السياسيين استعمالها لفرض اختياراتهم الطبقية الضيقة. فالقضاء والجيش والشرطة لحفظ السيادة من العبث وليست أدوات لفرض سياسة اقتصادية تقود إلى العبث.

ولا آفة تنتظر المغاربة سوى آفة اختباء الطبقة المتحكمة في المصالح الذاتية وراء تبريرات السيادة. التفكير في هذا الفصل يقودنا إليه ترهل الحالة النقابية التي تبع مجراها عبث السياسة الاقتصادية الاجتماعية الطبقية بحيث تكاد النقابات تصبح جزءا من المشكل العام بعدما نشأت في الأصل أداة للوصول إلى الحل.

أخلاق العناية إذن، مفيدة للذات وللتعاقد مع الغير. ولربح الزمن بدل المعاناة من مكر التاريخ. ومفيدة أكثر في هذا المنعطف الكبير الذي يعرفه العالم. لا يمكن للغرب أن يعطي دروسا لأئرائيل وهي تنفذ المجازر ضد الأطفال، وقد سمعنا طيلة الألفية الثالثة الكلام الحلو عن التنمية المستدامة وعن سياسة التقشف حتى لا يضطرد أبناؤنا تأدية فواتير الغد عم نستهلكه نحن اليوم، حتى أضحينا نستحي أمام نصائح الغرب العقلاني جدا ليتضح أن الغرب متوحش جدّا جدّا….. والأصل ليس في الغرب وحده، في جميع الأحوال، فيوم يجتمع الفلسطينيون لبرمجة كيف يدبرون أمر فلسطين لا نعلم هل يمتشقون السلاح في وجه بعضهم البعض.. نتحدث عن خزعبلات 50 سنة من السياسة. لذلك نتألم اليوم، ولا ندري من سوف يفرض فضيلته غدا على من؟ لأن الفلسفة المتبقية لوقت طويل هي فلسفة النصائح وتوزيع صكوك فضيلة المقاومة ضد نجاسة الخيانة. غدا، هكذا أفق هو المعيار الذي ما زال في الأمد المنظور. لم ننس سنة 2006 عندما كانت حماس معتقلة في الضفة وعندما أصبحت فتح معتقلة في غزة. فأخلاق العناية ما زالت بعيدة في أجوائنا الداخلية. قد يذهب نتانياهو إلى منزله أو الى السجن بعد انتهاء الحرب الحالية، لكن لا نضمن ألا يتوزع الفلسطينيون غدا بين قاتل ومقتول. تلك هموم حرب أخرى من صنف ظلم ذوي القربى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى