حوارات

حسن نجمي في ضيافة برنامج “قهيوة ولا أتاي” لعتيق بنشيكر (الجزء الثاني) أحمد رباص

في خضم الحديث عن اللغة الإيطالية وثقافتها الأدبية، استحضر بنشيكر أنطونيو غرامشي الذي حدده حسن نجمي كمفكر وفيلسوف. ثم سأل الأول الثاني عما إذا التقى بالراحل أمبيرتو إيكو، فأجابه بأن فرصة اللقاء مع هذا الكاتب لم تتح له وأنه لم يتشرف بملاقاته رغم الدعوة التي وجهها إليه لما كان رئيسا لاتحاد كتاب المغرب عن طريق أحد أصدقائه المغاربة المرحوم أحمد الحلبة، ابن مدينة وادي زم، الذي أبلغه الرسالة ولكنه كان مغمورا بحوالي مائتي دعوة. لما وضع أحمد الحلبة الرسالة فوق مكتب إيكو بجامعة بولونيا بإيطاليا وقال له ها هي الدعوة التي حدثتك عنها، التفت إيكو وراءه وتناول علبة من الكرتون وأفرغها فوق المكتب ليظهر له حجم الرسائل، وقال له: غدا سأسافر إلى جنوب أفريقيا التي بمجرد العودة منها سأشد الرحال إلى اليابان. كانت له التزامات في الجهات الأربعة من العالم، ما يعني بطبيعة الحال أنه كان كونيا، مثقفا كبيرا، فيلسوفا لغويا، عالما سيميولوجيا. كان يتمتع بذكاء خارق وبفطنة سيميولوجية كما يقول السيميائيون. كان له ذكاء في إنتاج معنى لكل الأشياء.
في هذا السياق، عاد أبو ريم إلى ذاكرته الغنية مسترجعا استضافة الصحافية سان كلير لإيكو في برنامحها الشهير. في البداية، قالت له إن السيميائيين يصنعون المعتى ويمنحونه لكل شيء، فأثبت صحة ملاحظتها. عندها سألته عما إذا كان قادرا لإعطاء المعنى لكل شيء رد عليها بالإيجاب بما يفيد أنه يجب أعطاء المعنى لكل شيء ذي معنى، يكفي استخراجه وتقديمه للناس لأن لكل الأشياء معنى. فقالت له: أي معنى يمكن إسناده إلى لحيته؟ وكان ملتحيا آنذاك. فما كان منه إلا أن ألقى درسا عن اللحية عند أهل اليسار وأهل اليمين، وعند الماركسيين ورجال الدين، عند اليهود والمسيحيين والمسلمين. هنا تدخل بنشيكر واصفا امبرتو إيكو بالموسوعي ليعقب عليه مؤلف “شعرية الفضاء: المتخيل والهوية في الرواية العربية” بأننا أمام مثقف كبير جدا. رسوخ مكانته الكونية لم تأت من فراغ. هو أولا قارئ كبير وكاتب بنفس الحجم أيضا، فبالإضافة إلى كونه رجل فكر ومعرفة وبحث علمي نجح في كتابة روايات مثل “اسم الوردة” التي تم تحويلها إلى فيلم شهير.
في الحقيقة، يتابع نجمي، نحن نتتلمذ على هؤلاء الكبار في أفقهم ونقرأهم باعتزاز ونتعلم منهم وهم أحياء أو موتى.
للانتقال إلى محور آخر، طلب بنشيكر من ضيفه تناول أطراف الحديث عن مدينة الدار البيضاء التي احتضنت هذه الدردشة الممتعة والمفيدة. لهذا الغرض سأل بنشيكر صاحب ديوان “المستحمات” عن علاقته بمدينة أنفا وعما إذا كان يحسب على بن أحمد أو الدار البيضاء أو الرباط. فكان الجواب أن الدار البيضاء هي عاصمة منطقة الشاوية وبن أحمد هي العاصمة الصغرى لنفس المنطقة، أما سطات فنعتبرها جزء لا يتجزأ من الشاوية الكبرى. أهل هذه المدينة يعتبرونها العاصمة الحقيقية لمنطقة الشاوية، في حين أن الدار البيضاء مدينة كبرى تختزل صورة المغرب وسكانها يختزلون سكان المغرب، لا من حيث التعدد الإثني والاجتماعي ولا من حيث الذهنيات ومصادر الحياة والتعبيرات عنها، إلخ.. فضلا عن ذلك، فهي تنطوي على مختلف الطبقات الاجتماعية ومختلف أنماط الحياة. من الناحية المعمارية، اكتسبت الدار البيضاء تميزا ملموسا من خلال توفرها على أمكنة نادرة في المعمار العالمي. ويرى حسن نجمي أن عددا مهما من سكان الدار البيضاء لا يعرفون أن هناك بعض الوحدات المعمارية نادرة صممها مهندسون معماريون كبار في العالم خلال مرحلة الحماية أو في فجر الاستقلال وخلال الستينيات، خصوصا في منطقة أنفا.
في ثنايا هذا الحديث الجذاب عن عاصمتنا الاقتصادية، قال كاتب نصوص “الشاعر والتجربة” إنها تبدو بالنسبة إليه كمدينة ذات روح شاعرية. فرغم العنف والضجيج والتصارع في زحمة الحياة تنتج حالات شعرية من الروعة بمكان، كما تنتج نوعا من الرومانسك (romanesque)، ويعني به مادة منتجة للحكي الروائي والسردي في المسرح والقصة القصيرة والرواية والسينما، إلخ.. هناك كتابات عن الدار البيضاء لشعراء كبار مثل الراحل أحمد المجاطي ومحمد الأشعري والمرحومين إدريس الخوري ومحمد زفزاف، وهي كتابات شعرية وقصصية سردية.
بعد هذه الإطلالة على الدار البيضاءالتي تفضل حسن نجمي بتقديمها لمشاهدي ومتتبعي برنامج “قهيوة ولا أتاي”، التفت بنشيكر إلى مدينة الرباط واصفا إياها بالأرضية الخصبة بالنسبة إلى التجمع النخبوي للمثقفين المغاربة. لكن ضيف البرنامج نفى صحة هذه الملاحظة على اعتبار أن الدار البيضاء تحتضن عددا من أسماء الأدباء الأساسيين لا من حيث الكم ولا من حيث الكيف، مؤكدا أن ها هنا يوجد كتاب وفنانون حقيقيون في المسرح والسينما والفنون التشكيلية والكوليغرافيا والموسيقى بمختلف تعبيراتها. الدار البيضاء أكبر من كل المدن المغربية في ما يخص هذا الجانب. فهي غنية جدا ومتنوعة للغاية. ثم إن الدار البيضاء عبارة عن مدن في مدينة وكأنها تستقطب عدة مدن؛ وأقصد بها الأحياء. لكل حي خصوصيته وذاكرته ومزاجه الخاص.
إذا أخذنا، مثلا، الحي المحمدي فهو بالنسبة إلى المتحدث رحم مفتوحة على التاريخ والمقاومة على الحياة الاجتماعية وكرة القدم والحياة العمالية بالخصوص. هو حي عمالي بامتياز استقطب فئات وشرائح وإثنيات مغربية من مختلف المناطق يحيث تجد فيه العروبي والأمازيغي والصحراوي. فيه تتواجد كل الفئات من المغرب الشرقي، من الشمال والجنوب، إلخ.. أهل الحي المحمدي يتصرفون في حيهم كما يتصرف أهل البادية داخل قبيلتهم. وهنا، شدد حسن نجمي على مسألة هامة وهي أن الحي المحمدية قبيلة حضرية بامتياز وفق تقديره الشخصي. هذه القبيلة أنتجت مجموعات غنائية أهمها “ناس الغيوان”، “لمشاهب”، “مسناوة”، “تكادة”، و”سهام”. أنتجت عددا من الممثلين والممثلات في المسرح والسينما، وأنجبت عددا من الشعراء من جيل الستينيات والسبعينيات، ذكر منهم المتحدث أحمد الجوماري وعنيبة الحميري، إلخ..
واصل صاحب ديوان “فكرة النهر” حديثه عن الحي المحمدي ذاكرا أن ولد الحي وبنت الحي بالنسبة إلى أهله شيء مقدس. لا يتصرفون مع “ناس الغيوان” كفرقة تنتج الموسيقى والفرح فحسبج، بل هم ابناء الدرب. الطاس كفريق كروي أيا كان القسم الذي رتب فيه يبقى له نفس الروح ونفس الارتباط؛ أي يجعلون كل ما هو حي محمدي بؤرة. حتى المريض العقلي والمجذوب والبوهالي يشكلون كائنات مقدسة بالنسبة إليهم.
لإعطاء الحوار دفعة إضافية تكسبه فرصة أخرى للامتداد، قال بنشيكر لضيفه: أنت تحن دائمآ إلى الدار البيضاء بحكم إقامتك الراهنة بالرباط، كم تأتي إلى هنا من مرة في السنة؟ على هذا السؤال، أجاب مؤلف ديوان “لك المملكة أيتها الخزامى” بأنه يزورها كلما أتيحت له الفرصة، مقرا بأنه زارها في الأيام الأخيرة ثلاث مرات، مبررا ترحاله الدائم صوب أنفا بكونه مرتبطا فيها بصداقات لا تبلى، لا تندثر ولا تنتهي. له هنا عدة أصدقاء في المسرح، في التشكيل، في الكتابة وفي الصحافة. وفي هذا المقام، أوصى حسن نجمي كليمه بألا ينسى أنه عاش في الدار البيضاء خمسة عشر سنة متتابعة بحكم عمله كصحافي بجريدة “الاتحاد الاشتراكي” من سنة 1984 إلى سنة 1999 تاريخ رحيله إلى الرباط. وقبل مغادرة الجريدة سنة 2006، ظل حضور الدار البيضاء مركزيا في ذاكرته، في سلوكه، في مزاجه، في عاداته، وفي تقاليده الشخصية والعائلية.
لإعطاء نفس آخر لهذا الحوار، وجه بنشيكر سؤالا لضيفه صاغه على الشكل التالي: إذا كان هناك عتاب، فعلام تعاتب القيمين على تدبير شؤون هذه المدينة؟ أجاب أبو ريم بأنه عندما يلقي اليوم نظرة على الرباط يجدها مدينة كالبلور على درجة كبيرة من النظافة ودائمة الاخضرار، وكل من زاره من أصدقائه الكتاب والمبدعين لا يخفي إعجابه بالرباط.
بمناسبة إقامة المعرض الدولي الاخير للكتاب والناشرين عبر أصدقاؤه عن انبهارهم بالعاصمة المغربية وأحبوها. وعلى اليوتوب. نشاهد عددا من التسجيلات لأشقاء مغاربيين حيث يقارنونها بعواصمهم ومدنهم فيجدون فرقا شاسعا. كذلك هناك مراكش وفاس وطنجة؛ هذه الأخيرة التي أصبحت مدينة كوسموبوليتية بالمعنى العميق والحقيقي للكلمة. هنا، يتساءل حسن نجمي: لماذا أهملت الدار البيضاء؟ لماذا تم التفريط فيها؟ هذه المدينة تستحق عناية كبيرة جدا لأسباب عمرانية واجتماعية واقتصادية وسياحية وأمنية كذلك. نحن إزاء مدينة تحتضن ستة ملايين نسمة؛ مع العلم أن هناك دولا في العالم العربي يقل عدد سكانها أربع مرات عن عدد سكان الدار البيضاء. نحن أمام دولة.
في هذا الصدد، أعاد مؤلف كتاب “شعرية الأنقاض: يوميات الحرب على العراق” إلى الأذهان خطاب الملك محمد السادس أمام البرلمانيين بمناسبة افتتاح إحدى الدورات التشريعية حيث عبر عن غضبه (ما يفوق مجرد انتقاد) بحضور المسؤولين الذين لم يرقوا إلى مستوى المدينة ولم يتحلوا بأخلاق المسؤولية التي يتعين عليهم الالتزام بها. ربما، اليوم هناك تحول بطيء ولكنه ملموس، من خلال اجتراح الأنفاق وسكك الترامواي ما خفف شيئا ما من حدة الزحام على الطرقات. ولكن المدينة ما زالت في حاجة إلى عقلية مغربية بروح وطنية عالية، وإلى مناضلين مؤمنين بالمدينة وبفكرة المدينة. الدار البيضاء في حاجة إلى أفكار تجعل منها مدينة مؤهلة بعمرانها وبإمكاناتها، خاصة الإمكان البشري المهم. إنها مدينة عمالية، ذات رصيد رمزي. مدينة حاضنة لحركة عمالية. يشهد تاريخها الحديث على احتضانها لحركة المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي. أنتجت رموزا في تاريخ المغرب شكلت أمثلة حية نموذجية بالنسبة إلى الأجيال المتلاحقة.
بنبرة لا تخلو من أسف، واصل الدكتور نجمي حديثه مشيرا إلى أن هذا الإهمال الذي طال عددا من المكتسبات، سواء خلال المرحلة التاريخية أو خلال تلك التي أعقبت استقلال بلادنا، حان الوقت ٠لوضع حد له.
الدار البيضاء، في نظر ضيف البرنامج، ليست أي مدينة، هي جزء من الرأسمال الفكري والثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياحي للمغرب والمغاربة جمعاء.
إلى ما أتى حسن نجمي على ذكره من
أبعاد للدار البيضاء كرأسمال، أضاف بنشيكر البعد المغاربي والبعد العالمي. وفي إطار التفاعل مع مضيفه، قال الضيف الكريم إن الدار البيضاء مدينة حديثة رغم تاريخها العميق جدا. وهنا، أبدى بنشيكر ملاحظة مفادها أن كل واحد يجد له مكانا في هذه المدينة؛ الشيء الذي جعل محيي “ليالي العيطة”، بشراكة مع وزارة الثقافة، يتذكر ما وصف به أحد أصدقائه المدينة من كونها تشبه امرأة هبيلة ومجذوبة، ويتذكر كيف أنه كان في ديسمبر 1986 يتجول مع الشاعر العربي الكبير أدونيس في أزقة وشوارع الدار البيضاء ومدينتها القديمة، وفي نهاية هذه الجولة قال أدونيس لرفيقه: أحببت هذه المدينة التي تبدو لي مثل مدينة يصعب أن تحتضنها بين دراعيك، أي انها أكبر من حضن، كما علق بنشيكر، قبل أن يضيف حسن أن أدونيس وجدها شاسعة، رحبة، مفتوحة ومنفتحة على جهات العالم، تستقبل الرياح من كل الجهات. هي مدينة عظيمة وحاضرة كبرى أساسية لا يمكن للمرء إلا أن يعتز بها وينتسب إليها ويعشقها؛ نظرا لذاكرتها الكروية والنضالية والإنسانية والثقافية والجمالية والفنية. الحياة اليومية فيها لا تشبه الحياة اليومية في المدن الأخرى. كمدينة تحس وأنت تغشاها، تنخرط فيها، تنتسب إليها، بأنك في فضاء غني بالرموز والعلامات. تحس بأنك مبتل بالمعنى في الدار البيضاء.
(يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى