حسن نجمي في ضيافة برنامج “قهيوة ولا أتاي؟” لعتيق بنشيكر (الجزء الرابع) أحمد رباص
لم يتمالك بنشيكر نفسه من الضحك بعد سماعه هذه القصة القصيرة، إذا جاز التعبير، التي حكاها له ضيفه للتو. ثم ما لبث أن قال مفترضا أن أبناء هذه المدينة يتحملون المسؤولية في وضعها الجامد، وهو ما تجاوب معه حسن باتفاق صريح، معلنا أنه على استعداد لأن يمده بعشرات الأمثلة الدالة على تدخل أبناء المدينة في لحظات معينة إلا أنهم يحبطون، وهذا ما جعله يقول، متمنيا أن يكون مخطئا، إن هناك إرادة ضد هذه المنطقة لإهانتها وتركيعها. في هذه الوهلة من زمن الحوار، سأل صاحب البرنامج ضيفه عما إذا كانت هذه العقلية باقية حتى اليوم. بثقة عالية في النفس، أجاب مؤلف
كتاب “غناء العيطة: الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية في المغرب” بأنها لا زالت مستمرة إلى يومنا هذا. ثم تساءل باستغراب: هل هذا معقول؟ نفس الشيء قاله في شهر غشت من سنة 1995 في ملتقى الطرق عند مخرج بن أحمد في اتجاه الكارة والدار البيضاء وخريبكة. هنا أقيمت وثاقات وخيام لاستقبال وفد برئاسة الراحلين عبد الرحمن اليوسفي والفقيه محمد البصري ونوبير الأموي وعدد من قادة الحركة السياسية والحركة النقابية. كان حسن نجمي هو من ألقى كلمة الترحيب بالوافدين مشيرا في ثناياها إلى أشياء من هذا القبيل؛ مثل اللحظات التي وضعت فيها العراقيل أمام الممارسة الديمقراطية الحقة في هذه المنطقة. كما ذكر في هذه المناسبة أن هذا مفترق الطرق الذي تجتمع فيه الذاكرة والتاريخ: بن أحمد، الكارة والمذاكرة الذين ينتسب إليهم أحمر بن منصور (أحد المقاومين الذي تصدى للزحف الفرنسي الاستعماري خلال سنتي 1907 و1908)، الدار البيضاء كمدينة للمقاومة أنجبت الزرقطوني واحتضنت الحركة النقابية، خريبكة ووادي زم، مدينة 20 غشت 1955، إلخ.. وعندما قال حسن إن هذه المدينة أنجبت لنا أحد القادة النقابيين الكبار، استدعت اللباقة عدم ذكر اسمه بحكم حضوره، تفاعل معه سي عبد الرحمن اليوسفي في لحظة من زمن الكلمة التي ألقاها بالمناسبة مصرا على ذكر اسم الرمز النقابي الذي استنكف حسن عن ذكره وهو نوبير الأموي الذي نوه به اليوسفي وخص بالذكر أيضا اسما آخر كبيرا جدا وهو أستاذهما الفقيه محمد الحمداوي، أحد الموقعين على وثيقة المطالبة بالاستقلال وابن بن احمد والزاوية التاغية والعلوة. من كل ذلك، خلص حسن إلى أنه ينبغي تكريم هذه المنطقة. حرام أن تبقى متردية مثل نطيحة ساقطة من أعلى سفح الجبل، هذا غير معقول، في نظر شاعرنا الكبير. يجب، وفقه، التفكير في المناطق المظلومة المقصية المنسية المهملة لأسباب تاريخية أو سياسية أو أمنية، إلخ.. فعلى أي حال هي جزء من هذا البلد العظيم والشعب العظيم، وبما أن ساكنة بن أحمد جزء لا يتجزأ من هذا الشعب العظيم، يمكن، من خلال تكريم مدينة بن أحمد، أن يكرم رموزها وأسماؤها التاريخية ومقاوموها. وبما أن الشيء بالشيء يذكر، أكد نجمي أن عددا من المقاومين الكبار في حركة المقاومة المسلحة ضد الاستعمار الأجنبي في الدار البيضاء يتحدر من هذه المنطقة، فضلا عن المقاومين الذين مكثوا هناك وعاشوا إلى أن توفاهم الأجل.
انتبه بنشيكر إلى أننا نجد نفس الوضع في مناطق منسية كذلك، خاصة في المغرب العميق. وبالمثل، انتبه نجمي إلى أننا في حاجة إلى عدالة مجالية تتفرع إلى عدالات: سياسية، اقتصادية، اجتماعية. نحن في حاجة إلى عدالة مجالية ليعاد الاعتبار إلى المجال المغربي ككل. حيثما كانت منطقة أهملت لأسباب سياسية، مثل منطقتي الرحامنة والريف وغيرهما. نحن على علم بالمبادرة الكبرى والسامية التي تكرم جلالة الملك بإطلاقها في الريف وبتلك المماثلة لها في الرحامنة والتي تميزت بدخوله التاريخي إليها، وكيف أصبحت منطقة الرحامنة منطقة أساسية. هناك بعض البقع اعتبرت كبقع سوداء ما يعني أن هناك إرادة للدولة في إقصائها، في تأديبها وفي عقابها، لكن مع العهد الجديد الذي تولى فيه جلالة الملك مقاليد الحكم في بلادنا، قام جلالته بمبادرات مهمة في إطار أوراش مثل تلك المتسمة بطابع حقوقي والتي أفضت إلى إنصاف أولئك الذين عانوا الأمرين في سنوات الجمر والرصاص، إنصاف اللغة والثقافة الأمازيغتين، ورد الاعتبار إليهما من خلال إحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وإدراج اللغة الأمازيغية في الدروس والتعلمات والكتاب المدرسي.. كل هذه المنجزات هي مكتسبات مهمة، غير أن ما يجب القيام به هو.. وتوقف حسن عن الكلام لما قاطعه مضيفه وكأنه يريد من ضيفه أن يستفيض في الحديث عن الأمازيغية عندما ذكره بقرار الاحتفال بالسنة الأمازيغية، وهو ما سار نحوه أبو ريم، فبادر بالإشارة إلى آخر المبادرات المتمثلة في إقرار رأس هذه السنة يوم عطلة كباقي العطل، معتبرا أن هذه المبادرات مهمة جدا لأن من شأنها أن ترص الصفوف وتخلق ديمقراطية اجتماعية ولغوية وثقافية مهمة لبلادنا ومقوية للنسيج الرمزي الذي يوحد كلمة المغاربة ويجمع صفوفهم. لهذا، يتابع حسن، لا ينبغي أن تكون هناك منطقة من المناطق أو مدينة من المدن ينتابها إحساس بالغبن، هذا غير مقبول، ولم يعد كذلك ونحن في بداية الألفية الثالثة.
في حركة تواكب البحث عن حسن تخلص مشوب بأدب، اقترح بنشيكر على ضيفه العزيز الخروج من منطقة بن أحمد مع الاحتفاظ منها بصوت العلوة الذي نشأ في نطاق ضيق ثم لبث أن اكتسى بعدا وطنيا، وكأنه منتوج قابل للتصدير، فعندما نقول العلوة يتبادر إلى ذهننا أغاني العيطة وأغاني الشيخات. أنت، سي حسن نجمي، أول من تجرأ على إسقاط كليشيهات معينة فرضت على الشيخات وارتبطت بعدة مفاهيم وتوارثتها الأجيال وأصبح الكل يستحيي من ذكر كلمة “الشيخات” أمام والديه. لقد قمت برد الاعتبار إليهن، جئت بهن إلى مدرج كلية الآداب والعلوم الإنسانية وقدمت أطروحتك وناقشتها بحضورهن. خرجت بهن من غياهب النسيان وقمت بتقديمهن إلى العالم. والآن، إذا كانت هناك للعيطة والشيخات قيمة اعتبارية، فالفضل في ذلك يعود إلى مجموعة من الأساتذة منهم أنت سي حسن وبوحميد الذي ضحى كثيرا في هذا المجال. صحيح أنك دافعت عن العيطة وغناء الشيخات وأظهرتهما كمشروع وطني وها العيطة الآن قابلة للتصدير حتى إلى العالم العربي، ألا يعني هذا أنها أخذت حقها وزاغت عن الطريق إلى حد ما، وخانت تلك الطريق التي ارتسمت لها من الأساس منذ بداياتها في منطقة بن أحمد؟
في بداية جوابه على هذا السؤال الذي شكر عليه مضيفه، أشار حسن نجمي إلى أن هناك مستويين، أولهما يتعلق بالعلوة التي هي عبارة عن قصيدة في العيطة المغربية وتندرج في غرض من الأغراض الشعرية. هنا، لأجل تحقيق مطلب التوضيح البيداغوجي، استحضر حسن أغراض الشعر العربي، الكلاسيكي الفصيح، الحديث، والشعر الشفوي عموما، من مديح، وفخر، ووصف للطبيعة، وهجاء وغزل، إلخ.. فكذلك العيطة لأن فيها شعر شفوي عظيم وفيها أغراض، منها ما يسمى بالساكن الذي يؤدى كغناء صوفي وروحي يبدأ دائما بذكر الله ورسوله، يليه مديح لذكر ولي من أولياء الله الصالحين، مثل الشريفي بويا رحال أوسيدي مسعود بنحساين أو مولاي عبد الله (بنشيكر: سبعة رجال) أو سيدي عبد السلام بنمشيش، بحسب كل منطقة منطقة، وعادة ما يتم هذا المديح بذكر مناقب الولي الصالح وإمكاناته الروحية والدينية والتاريخية.. العلوة مديح لعدد من الأولياء الصالحين دفيني منطقة بن أحمد مزاب. هذا ما ظهر لبنشيكر كمسح إبستيمولوجي، فيما بدا لحسن إثنوغرافيا، بل تمثله كرحلة روحية عبر المكان وعبر الزمان.
من جانبه، أبدى صاحب البرنامج إعجابه بالطريقة التي تقدمت بها عيطة العلوة، وتفسير ذلك عند حسن نجمي أنها تنطوي على مقام البياتي الذي به تغنى، وأنها تؤدى باربع طرق في نفس المقام؛ فعندما تسمعها عند صاحب بلمعطي أو عند قرزز ومحراش، رحمهما الله، أو عند صالح والمكي تجد هناك بعض اللمسات، وأحسن من أداها حقيقة هو الشيخ أحمد بن قدور الذي فقدناه في السنة الماضية. العلوة فيها حضور جغرافي ووصف للأماكن وأولياء الله الصالحين في منطقة تبدأ من بن أحمد وتمر تدريجيا عبر أرجاء المنطقة ككل، بحيث أن كل شيخ يعرف منطقته ويؤدي عيطة العلوة وفق خصوصيتها،مثل أحمد ولد قدور الذي هو أحسن من يؤديها لأنه تجنب التداخلات وغنى العلوة وفق خصوصية المنطقة التي كان يعرفها جيدا، كان يقول: أنت يا بوجيلالي، فيك العلام تشالي؛ أنت يا بوزيان كذا.. ومن بعد ينتقل إلى الحاج التاغي الذي يبعد ضريحه بحوالي كيلومترين ثم ينتقل إلى لالة فاطمة لكحيلة، سيدي حجاج، إلخ..
(يتبع)