وجهة نظر

هكذا منعتني سارة من الحديث في القاعة يقلم أحمد الخمسي

في قلب الاوضاع 58

سارة أخيرا انضافت إلى الذين لا يفهمون بعض ما أكتب، طبعا، ثقافتها الاكاديمية حول الثقافة التنموية ضمن شعبة حول السياحة. تتابع الآن الدراسة في اسبانيا. ونعيمة التي أبلغتني بذلك أكدت، بدبلوماسيتها المعهودة، بدورها أيضا أنها فعلا لا تفهمني…وكتاباتي ميّالة نحو استلهام تاريخ الفكر السياسي للكتابة حول الحال والمآل. فالسياسة تعني المستقبل ولكن السياسة بنت التاريخ. هي نقيض له لأنها تتجه نحو المستقبل، غير أنها خرجت من بين صلب وترائب التاريخ. والسطحية التي غلبت ثقافتنا اليوم، خلقت لدي إصرارا على النبش في مجريات الماضي لنكشف سر تعترنا وأخطائنا الفادحة.

      أحد أصدقائي الراحل أحمد محفوظ، سبق أن علَّقَ في نفس الاتجاه، ليس من باب عدم الفهم، بل من باب أن صياغة المكتوب في بعض الأحيان تحتوي عبارة، تقتضي التخاطب مع جمهور ضيق قادر على فهم سياق استعمال الصياغة. بينما الكتابة الصحافية تقتضي توسيع دائرة الفهم بين القراء. أعترف أنني مغنان ومغانن ولكن بأدب وصمت عن سبق إصرار. إنني لا أشجع من لا ينغمس في السياسة حتى العظم أن يقرأ المقالات الموقعة باسمي. ذات يوم كنت برهة رفقة الراحل أحمد فتحدثنا حول جان جاك روسو…. ذكرت، طبعا ضمن سياق الحديث، ضمن ما قرأت لروسو روايته الأخيرة (من حيث مؤلفاته) “أحلام يقظة لجوّال منعزل”  Rêveries d’un promeneur solitaire، كان ذلك في الثامنة اعدادي، وببساطته الساحرة ذكر الراحل أحمد محفوظ أن لا علم له بوجود مؤلَّف لروسو بهذا العنوان. وبعد أيام فقط، أقر بذلك.

      مشكلتي مع القراءة التي تلتهم عمري بدل أولويات أخرى، أنني هائم ولهان بسورة “اقرأ” في القرآن وبدور المطبعة في القفزة الصاروخية الى الأمام التي أنجزها الغرب في سباق الحضارات. لم تنفع القوة العسكرية ساعتها لا اسبانيا ولا العثمانيين لأنهم معا منعوا تداول الكتب المطبوعة، بينما غرق جهل الأوربيين واختفى تحت أمواج العلوم الجديدة بفعل المطبعة، علما أن الانجيل أول ما بادر غوتنبورغ الى طبعه. مما صوّغ لاسبانيا تبرير منع المطبوعات، لأن أول ما تبع طبع الانجيل هي الدعوة الى اصلاح المسيحية الرومانية.

      صحافة مختلفات والتغطيات شديدة الفائدة، وهي ما ينفع الأغلبية من القراء وتدربهم على مرافقة الصحافة. لكنني لست متخصصا فيها. أنا مولع بالتعبير عن الرأي لأخاطب من يشاركونني إضاعة الوقت في القراءة.

      قد أذكر مثلا “السندروم الهولندي”، أو أذكر “قميص عثمان” أو “شعرة معاوية”اعتقادا مني أن جدل القراءة يربط بين القراءتين “الإعلامية” و”العالمة”، بفضل الشيخ غوغل والفقيهة ويكيبيديا. أعذر مسبقا لوم القراء. لأن العثور على “قميص عثمان” و”شعرة معاوية” ممكن…أما العثور على “السندروم الهولندي” فالنتيجة أقرب الى الاستحالة… ولكن وقد انفتح عهد جديد من الاستعارة وأشكال البلاغة التعبيرية ما بعد الرومانسية، ولربما ضمنها، مثل “سندروم فلورنسا” و”سندروم باريس”….أليس من حق القراء مصادفة مثل هذه العبارات “الجديدة”، التي أخفاها عنا مؤلفو الكتب المدرسية؟ لقد درست وأنا تلميذ في الباكالوريا نصوص ستندال (الأحمر والأسود) طيلة سنة بكاملها، وكان الأستاذ الفرنسي متضلعا في أدب القرن التاسع عشر، لكن ولا مرة صادفنا عبارة “سندروم فلورنسا”، ووجودها مرتبط عضويا بالأديب الشهير ستندال.

      من المشاكل التي وضعت فيها نفسي الالتزام بمعادلة ثلاثية ذكر إلفن توفلر (أحد علماء المستقبليات الامريكيين رحمه الله) ما بين “العلم والتعليم والإعلام”. أنا الهاوي للإعلام هربت من العلم إلى التعليم ثم سقطت في حالة من “العبودية الطوعية” للعلم. وكّلتُ الله على بعض أصدقائي الرائعين. ضمنهم مصطفى الحداد العالم الصموت الساخر المتفقه المتفكه. سأدعو الله لطرده عند أبناء عمومته من الديانات السماوية الأخرى.

      ثم ما ذنبي إذا اعترض طريقي – في القراءة- مخلص الصغير بمقالاته حول العروي وكيليطو وغيرهما؟ وقد غصت نتيجة معاودته الحديث عن روسو في “نقل الدين الفطري الى العربية”… ثم أليس من حقي مصاحبة جمال الدين العمارتي في ترجماته لجاك بريفير وقصائده المائية رفقة اللوحات الزيتية بذوق قل نظيره؟ مثل صاحب “اسم الوردة” من جوانب ضعفي صفة الجنون التي تربطني باللغة الفرنسية. بل وجدتني أركب الباطيرا للحريك بل داخل سبتة المحتلة حيث الانتظار للمرور الى الخوزيرات، وداخل غابات بليونش رفقة المهاجرين الاشقاء من بلدان جنوب الساحل والصحراء، استغرق في القراءة مصابا بالعدوى متابعا حتى انهي الرواية.

***

      من حيث التبعات، أوحت لي نعيمة وسارة بضرورة التمهل والتأمل في الكلام المنطوق حتى.. اطلعت على بعض الغرائب في كتاب جماعي حول المرتدين عن المسيحية بعد طرد المسلمين من الاندلس، وسياق رِدَّتهم بمحاكم التفتيش ومن تمّ تنشيط القرصنة والجهاد البحري. طبعا كلما حضرت فانطازيا مغالبة الجيران، تشربت النفس بالهوية الذاتية، وارتفع منسوب حلاوة القراءة، لعل يحضر الغلب لأجدادي.

      عندما كان يتحدث عبد الحميد البجوقي عن العلاقات المغربية الاسبانية، كنت أزاوج النظر إليه بتذكر كتابة برطولومي بنصار عن المغاربة السلاويين الذين رست مراكبهم في ريكيافيك،،، ها أنذا مرة أخرى سأرتكب معصية الكتابة العصية عن الفهم. سأشرح إذن= ريكيافيك هي عاصمة ايسلندا التي، قريبة من موقع مجريات أحداث الطيطانيك، لا تبعد عن القطب الشمالي سوى مسافة ما بين طنجة والدار البيضاء (ساعتان في الطيجيفي). تخيل وصل المغاربة في بداية القرن 17، الى جوار القطب الشمالي؟ غريب؟

وقبل ثلث قرن من الرسو قرب القطب الشمالي نفعنا الله ببركته الثلجية، كانت حوافر جياد المغاربة جنوبا في افريقيا على ضفة نهر السينيغال( نهاية القرن16) الذي لا يبعد عن خط الاستواء سوى نفس المسافة بين طنجة والدار البيضاء. هل أذكر خطوط الطول مع الترقيم؟

أنا الآن إلى سندباد  عبد الحميد خلال دجنبر الأخير (2023) يتجول في سايغون وهانوي عاصمتي الفييتنام. وقبل أقل من ربع قرن كان في سانتياغو الشيلي. والمسافة بين هانوي وسانتياغو الشيلي قياسها بسيط= الثالثة ليلا في هانوي يعني الثالثة نهارا في سانتياغو الشيلي. هل أذكر خطوط العرض مع الترقيم؟ وقبل اشهر قليلة كان في باناما، حيث الخصر الفاصل بين نصفي القارة الامريكية.

الخلاصة المغاربة هما هما. كانوا وما زالوا مغاربة العالم. من عهد السفينة الشراعية الى عهد الطائرة النفاثة.

***

      ولما أخذ الضيف الاسباني الكلمة  طفا البريق الذهبي عنوان الانسانية الاسبانية من العسل الذي كان يقطر من كلماته، يعدد نقط التشابه بين المغاربة والاسبان، والانسان في كل مكان، حلق خيالي عاليا في القرون الخمسة الأخيرة وتذكرت معلومتين= المعلومة الأولى حول فترة وجيزة ارتبط خلالها الاسبان بالتثليث الكاثوليكي الروماني (120 فقط) ما قبلها عاش الاسبان التوحيد المسيحي الارياني أو الاريوسي، وما بعدها عاد التوحيد ليعيش في ضمير الاسبان بالصيغة الاسلامية مدة ثمانية قرون (هذه المعلومة موجودة لدى العروي في مجمل تاريخ المغرب). المعلومة الثانية، وهي امتداد للمعلومة الاولى، الطبيب الاسباني المسيحي ميغيل سيرفت (ق16) هرب من محاكم التفتيش، وحل أخيرا في سويسرا حيث يقيم المصلح المسيحي المشهور جان كالفان. لكن لاوعيه التوحيدي الاريوسي والاسلامي جعله يتجدر في مفهوم الاصلاح المسيحي بسلفية حتى النخاع ليعتبر الاصلاح الحقيقي في المسيحية يقتضي من المصلحيين الدعوة الى رفض التثليث لأنه دخل المسيحية ضمن صفقة بين الرهبان الشرقيين وبين الامبراطور الروماني، والصفقة اقتضت ادخال ثلاثية الرومان (Tiade) ليصبح لدينا التثليث المسيحي (Trinité). أرجع ميغيل التثليث إلى الأصل ليس فقط الروماني الذي أوجده الرومان بديلا لعلامة شؤم من جهنم، وهو أسطورة الكلب بثلاثة رؤوس. وفي الكتب التي ألفها ميغيل سيرفت صرح بهذه المرجعيات الاسطورية الوثنية التي لا علاقة لها بالمسيحية.

      أعجبت كثيرا بحديث الضيف الاسباني وعنت لي هذه الأفكار، لكتها جمدت في فمي،  عندما تذكرت ملاحظة سارة.  فصمتُّ، وأتمنى ألا تطلع سارة على صدورها –ها هنا- خوفا من إمساكها إياي متلبسا بحالة غموض آخرى.

      وما ليس فيه غموض، هو توفر جمعية الحياة بمرتيل، على جاذبية استثنائية، حمرت وجه من استدعى الضيف الاسباني. بحيث القاعة ممتلئة عن آخرها والوقوف في مختلف جوانبها. في هذا الجو الثقافي الحري بالانتماء الى المرحلة الحالية من العلاقات المغربية الاسبانية الجيدة، منعتني سارة من الحديث في القاعة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى