التقرير العام لفعاليات الأسبوع الرقمي للحراك الشعبي بالريف (الجزء الثاني والأخير) ذ.عبد الواحد حمزة [1]
يعتبر هذا العمل/ قراءة بمثابة الجزء الثاني للتقرير العام السابق للندوات السبع الرقمية التضامنية مع الحراك الشعبي للريف المغربي، من يوم 11 إلى 17 ماي 2020، والذي تشرف الحزب الاشتراكي الموحد بإقامتها/ تيار اليسار المواطن والمناصفة- أنذاك- تحت شعار (جميعا من أجل إطلاق سراح معتقلي الحراك الشعبي للريف وتحقيق مطالبه العادلة)، حيث توزعت تلك ” المعلقات السبع” على سبعة محاور أساسية: أولا السياق والمآل والأفق، ثانيا الحراك بين القمع والمحاكمات الغير العادلة، ثالثا الريف مدرسة للنضال الديمقراطي ودور اليسار فيها، رابعا كورونا والمبادرات الوطنية للتصالح مع الريف، خامسا أي دور لمغاربة المهجر في الدعم للحراك، سادسا الشباب والحراك، ثم سابعا وأخيرا أي دور لجمعية تافرا للوفاء والتضامن مع معتقلي الحراك.
وإذ نقدم هذا الجزء الثاني من التقرير العام، فللقيام بواجب نضالي وعلمي وحق التوثيق لواحدة من أهم الاحتجاجات الشعبية الجهوية- المجالية- المناطقية في المغرب المعاصر، بعد حراك 20 فبراير النموذجي، بعد ان قدمنا في الجزء الأول من هذا التقرير العام الصادر نهاية شهر أكتوبر 2023، في أعقاب أشغال المؤتمر الوطني الخامس للحزب الاشتراكي الموحد، والجزئين الإثنين للتقرير هما بمثابة خواتم لتلك التقارير السبع، التي سبق وتم تقديمها والقراءة فيها في كتاب قيد النشر، من مائتين صفحة تقريبا، جمع مداخلات- على الهوا- لما يربو على 60 مشاركا ومشاركة من مثقفين وجمعويين وسياسيين وحزبيين مغاربة مرموقين، غالبيتهم محسوبة على الصف الوطني الديمقراطي ببلادنا.
لقد حاول الكتاب – ما استطاع- أن يستخرج المادة- الأساس لللقاءات السبع، وأن يقدم محاولة تنظيرية، أوليا، في ذلك، وضمنها في الخاتمة العامة للكتاب، تحت يافطة- فرضية للنقاش الرفاقي والمثقفي- النقدي المفتوح: ” الحدود البنيوية للناصرية الجديدة في ظل نظام مخزني متجدد، وهو ا اخترناه تقريبا كعنوان لهذا الجزء الثاني من التقرير العام للندوات، على أن الباب الأول من الكتاب حمل عنوان : ” دينامية الحراك الشعبي المغربي بالريف كموضوع للبراكسيس السياسي، فيما أفرد الباب الثاني للتقارير بحذافيرها، حتى يتسنى للقارئ اليقظ أن يستشف بنفسه منها ما رشح له من استنتاجات وامتدادات وانتقادات محتملة، خاصة وأن الباب الثالث جمع ما أمكن تجميعه من وثائق حول قضية الحراك الريفي المغربي. وسنعمل ما أمكن على تأكيد أو دحض فرضية لازالت مطروحة للنقاش حول العلاقة التاريخية والبنيوية بين المخزن المغربي الجديد والحراك الشعبي بالريف المغربي، والمصير السياسي لنقلة قيادية شابة جديدة، سميناها بالقوة” الناصرية الجديدة” تحت نظام مستبد متسلط.
“طبقي” في تصوره لقيادة حركة التحرر الوطني العربية، يرى مهدي عامل أن “البرجوازية الصغيرة قزم سياسي مهما عظمت جثتها”، إذ هي محدودة الفعالية والنجاعة والمردودية السياسية، وهو بهذا يركز على جدوى مرور الثورة عبر الطبقة العاملة، الثورية بالطبيعة، بالذات وعبر حزبها الشيوعي الثوري”، شبه ستاليني”، ما بين لينين “ما العمل؟” و”لينين الدولة والثورة”، في حين أن سمير أمين، الماوي المنزع، الماركسي العالم- ثالثي- يركز على ” الكثلة التاريخية ” الهلامية”، الجامعة لحركة شعبية عالمية عريضة وواسعة، تجر في طريقها نحو التغيير والثورة- من الأطراف إلى المراكز الرأسمالية المتطورة- كل مكونات وشرائح المجتمع الطبقية المتضررة، والتي لها مصلحة في التغيير الفعلي.
النيوكولونيالية والنيومخزنية و”الناصرية الجديدة” المحبوسة
(…)تطرق الكتاب في القسم الأول للسياقات التاريخية لقضية الريف ولبعض المقاربات النظرية العامة، وكذا لبعض استراتجيات التغيير الديموقراطي الشعبي: (منطق الاحتجاج والتغيير والصراع الاجتماعي- عصرنة الاحتجاج الجماعي- نظرية الرجة الثورية- نظرية ما أسميناه ” المجال السياسي المستفرغ من التوتر، ومجال الحكم الاجتماعي، ومنها نظرية ” التاريخ من أسفل” أو ” السياسة من أسفل” والإصلاح من أعلى الدولة/ الملك وحكامة الأزمنة الكبرى، أو الحكم بالمراحل، وأخيرا وليس آخر فرضية الأمر والنهي المركزي بالإصلاح، فضلا عن بعض القراءات الدستورانية والسوسيو اقتصادية، في محاولة لاستنفار بعض الزاد النظري والمنهجي قصد تأويل وتفسير ما أمكن من آراء ورؤى المتدخلين/ات في الندوات السبع.
أما القسم الثاني من الباب الأول فتم تخصيصه إلى حركة 20 فبراير – النموذج وخصوصية حراك الريف، ليتم استبار هذه الفرضية- الأساس، ولاستجلاء تلك الحركة التاريخية كحركة هيكلية ومهيكلة واعدة في تاريخ المغرب السياسي الاجتماعي المغربي المعاصر. أما خصوصية الحراك الريفي، فعلى عكس ما دشنه حرق البوعزيزي في تونس من حراك ربيعي أطاح بالرئيس بنعلي المستبد، وبالرغم من ملابسات البناء الديمقراطي في هذا البلد الشقيق، وحيث سبق للمعطلين أصحاب الشهادات أن جربوا وتعودوا على ” حرق الذات”، دون نتيجة تذكر، فإن “القشة التي قسمت ظهر البعير”، أو كادت، في الحالة المغربية.
قد كانت بالتأكيد الفضيحة الأخلاقية والإجرامية لطحن محسن فكري، وما أثاره ذلك عند أهل الريف خاصة، وعموم المغاربة- والعالم الحر، من سلوكات نظامية منهجية قمعية، فضلا عن تراكم نضالي تقدمي سباق بنته القوى الحية في بلادنا. لقد كان لازما على النظام تقديم العزاء، ولو شكليا، والاعتراف بالريف كقضية، كتاريخ وذاكرة وأرض وثقافة ولغة وإنسان، وليبدأ بحذر شديد في مرحلة المتابعات والملاحقات وسجن قيادة الحراك ومن يتحلق حوله أو يتحرك تحت تأطيرها، وبعد ذلك المحاكمات المرطونية التي اعتبرها الطيف الحقوقي والسياسي الممانع “غير عادلة” و”غير منصفة” و”انتقامية”.
(…) يمكن إفتراض سبب فشل الحراكات الشعبية في المغرب، وكل الاحتجاجات والتمردات المتكررة وضعف مردودية العمل السياسي المنظم إلى تشكيلة سلطوية تمزج بين محددات ثلاثة متظافرة، مذكورة سابقا: المركزة والاستبداد والإقطاع السياسي. وللإلمام بالموضوع، أو بعضه، يمكن إعتماد ترسانة مفاهيمية أصيلة لمهدي عامل في دراسته للكولونيالية، كزمن القطيعة وزمن البنية وزمن التكون، وكذا التمييز التاريخي الضروري لمراحل وحركات الصراع الطبقي، بما هو “صراع إنتباذي” أو “صراع إنجذابي”.
إننا نكاد نجزم- بشيء من المغامرة النظرية- أن أفق الصراع الطبقي المحجوز في المغرب يكاد يرجع إلى التذبذب بين هذين الشكلين من الصراع، في ميل مكرور إلى إنسداده، أو إلى ما يسميه ابن خلدون بإنغلاق الزمن عن الزمن، أو إلى ما يسميه مهدي عامل سيادة “الزمن البنيوي”، حيث لا يكون التناقض السياسي مسيطرا وواضحا، بعد، وقد يأخذ في هذه الحالة شكل الصراع الديني- الإيديولوجي (القانون الوضعي- الإلهي/ إمارة المؤمنين….) على الشكل العصبي- الطائفي – المناطقي الذي تقوده وتستثمره الطبقة الحاكمة.
هكذا يمكن لبعض ملابسات الصراع في الريف- إنطلاقا من دراسة سريعة للخطاب الديني لدى السلطة، من جهة، ولدى قياديي الحراك (انظر مستوى التكوين الأكاديمي، وجودة القيادة المحدودة وطبيعة الملف المطلبي ومخزن نحرير….)، من جهة أخرى إلى سيادة ما يمكن الاصطلاح عليه بسيادة “وحدة تماثل” إيديولوجي بين فرقاء “الصراع المزعوم”، وليس إلى “وحدة اختلاف” السياق والمآل والأفق والمشروع السياسي، أو بالأحرى إلى “وحدة تضاد وتعارض” بين مشروعين ومشروعيتين (انظر عزيز محب 2020)، ويمكن التذكير بهذا الصدد بموضوعة دخول الزفزافي المسجد، وكان من الممكن أن يكون أي تبرير آخر كاستجلاب دبابة، وموضوع الإمامة، لنستخلص أننا أمام مفهوم خلدوني للتاريخ المادي المبني على العصبية- الدائرية، حيث الصراع إنتفائي؛ أو “منتفي” ومؤطر من طرف دولة – المخزن، في المحصلة النهائية. كما يمكن تفسير حدود السلوك النضالي للنخبة القيادية في حراك الريف إلى عوائق بنيوية تحد من طموح القادة[2]، فضلا عن قصور تجربتها السياسية، وبالرغم من حسن طويتها النضالية.
ويمكن الاستدلال بالمثل بتجارب إنتخابية عبر التاريخ. لقد ساد الصراع الإنتباذي في الحركات الاجتماعية الفلاحية من العصر الوسيط العربي، وكان ذلك بين الطبقة الارستقراطية والطبقة الفلاحية (أنظر ثورة القرامطة والزنج…)، فكانت ثورات فاشلة ويمكن إرجاع سبب فشلها إلى أنها كانت تنازع سلطة النبلاء الدينية باسم الدين، بالذات، فيما الفلاحون يحتجون عليها من تحت نفس السقف، على أرض إيديولوجية موحدة. كان الفلاحون يقارعون الأرستقراط بنفس اللغة، بالرغم من اختلاف زاوية التأويل الديني من طبقة إلى أخرى.
وعليه، فلم يكن التناقض بينها في “وحدة اختلاف-تضاد”، وإنما كان في “وحدة تماثل” وهو ما يطبع حسب لغة مهدي عامل مرحلة “الزمن البنيوي”، زمن تطور البنية الاجتماعية الكولونيالية لما يمكن اعتباره- في حالة المغرب- لإعادة إنتاج البنية السائدة للمخزن السياسي- الاقتصادي- الثقافي. وقد أشار بوعزيز في كتاب الوطنيون المغاربة إلى السقوف الثلاثة التي كبلت إنعتاق حركة التحرر المغربية.
والحال أن الإيديولوجية الدينية سابقة عموما على الإيديولوجية الطائفية/ أو المناطقية- الريفية- في حالة المغرب- وهي المرتبطة راهنا وفي زمن التكوين البنيوي بالبنية الكولونيالية المخزنية التي تحددت مع الاستعمارين الإسباني والفرنسي، وهي البنية التي “تقف حجر عثرة أمام تبلور وتجذر الوعي الطبقي الوطني- السياسي لدى المناطق والجهات ولدى كل المواطنين، عموما.
هكذا وبنفس المنطق صارع المخزن والاستعمار الجديد (والقديم) الوطنيون المغاربة وكذا قياديي الحراكات، الحراك بالريف، بالضبط، بنعته بالانفصالي- الإنعزالي- الطائفي، وكأنه به يدفع إلى إعتماد الانعزال والانفصال، في ما هو يحافظ من حيث لا يدري على ما يمكن نعته ب”التوازن الطبقي الوطني الكارثي”، مما يمكن أن تدبره المؤسسة الملكية تحت مسمى “التحكيم”.
أنها نفس “معاناة سيزيف”، تلك التي تجهد فيها الطبقات الشعبية- العاملة نفسها، عموما، فتقف لها البنية الكولونيالية بالمرصاد، حتى لا تتحول الإرهاصات إلى كيانات اجتماعية واعية بذاتها وكقوى سياسية منظمة وموحدة، كما أن “الجهات/المناطق” تضل مهددة بإحياء وتطبيق المخطط التجزيئي الكولونيالي للجسد الواحد ‘الصحراء المغربية، الشرقية، الريف، الجنوب…)، بل وفتح المجال لكيان صهيوني متربص وفاعل في شتات الكيان المغربي الواحد.
وقد عالج مهدي عامل حال الدولة الطائفية في لبنان في كتابين متتاليين. كما أعطى الباحث الشاب المنودي المختار مثالا معتبرا عن حال الجزائر تحت الاستعمار الفرنسي، تحت مسمى “قانون الأهالي 1930”. ويمكن اعتماد نفس الطريقة لتحليل مرامي قانون الظهير البربري في المغرب، في نفس اللحظة. وهي في كل الحالات المؤسسات التي دفع بها الاستعار الفرنسي، ديماغوجية منه، على أنها «الديمقراطية الطائفية» في أبهى حللها، وهي الوصفة الملائمة بالذات، كما غطت “الديمقراطية الحسنية” لمدة طويلة ايديولوجية النظام على عهد الملك الحسن الثاني(…).
لقد زعم الاستعمار الفرنسي- الاسباني في المغرب أن ذلك النوع من “الديمقراطية الهجينة” هو الذي يسمح بالتمام والكمال بالحفاظ على ذات وتقاليد المغرب السائدة، كما يعمل على تدبير الاختلاف المزعوم وتأكيد التماثل الخفي ويسمح بتكريس التحكم والتوازن داخل النظام السياسي الكولونيالي المتخلف والتابع. وكلنا يتذكر دعوة الرئيس ماكرون وحرمه لحفل عشاء فاخر رسمي في عز حراك الريف ولأجل إتخاذ قرار حاسم لنسفه في إبان وهجه!
لقد ظهر خطر “الدولة الطائفية” في حلة متجددة في المغرب، ليس في حد ذات الحراك وطموحه المشروع، وإنما كما يمكن لنظام استبدادي أن يستثمره كـ ” فتيل” في أي وقت وحين، لسد الطريق على قوى” التغيير الديمقراطي” و” السيادة الشعبية الوطنية ولتجديد البنية الكولونيالية في المغرب، عكس ما يدعيه النظام السياسي من إطلاق لجيل جديد من الإصلاحات الديمقراطية الشكلية، في أفق الخيار الديمقراطي الحداثي. أنها التشكيلة المعتبرة، لديه، لضمان هيمنة سياسية حقيقية على الحياة الاجتماعية والسياسية للمغرب، وهي الصيغة التي تبدو “تحكيمية”، فوق الطوائف/ الجهات/ المناطق، وتضمن “السلام المناطقي- الطائفي”، لتجنب المغرب ما تعتبره خطر “حرب الكل ضد الكل”، وكوارث الانفصال، والدمار على شاكلة سوريا وغيرها، للتخويف والترهيب والترويع.
ولأجل ذلك يتم التمكن من تموقع خاص ومتميز لأحزاب الإدارة في مواقع السلطة بالريف، مثلا، وبباقي ربوع الوطن، مما سمحت به انتخابات 08 سبتمبر 2021، حيث هيمن الرأسمال النيوليبرالي- المخزني الكبير على كل مستويات التمثيل الانتخابي، في تماثل صارخ مع “الإقطاع السياسي”. ويمكن اعتبار الإستجداء بالذاكرة والتاريخ والأعلام في المنطقة آخر حصون المعركة ضد الكولونيالية الجديدة وربيبتها المخزن الجديد ( تهميش المنطقة، السيطرة على الأراضي، تهجير الشباب،…)
ولعل كل هذا وذاك (حالات لبنان والجزائر والمغرب…) هو ما جعل مهدي عامل يخلص إلى أن كذا “دولة طائفية”، بشكل أو آخر، ليست سوى تعبير عن نظام ديكتاتوري مقنع وفاشستي، لنقول “نيو مخزني”، وأن الطوائف علاقات سياسية محددة، خاصة بالصراع الطبقي للبنية الكولونيالية المحددة، وأن لا طوائف إلا بالدولة/ المخزن، وأنها ليست كيانات/كومونات/ مناطق مستقلة عن السلطة المركزية الاستبدادية- الشمولية المطلقة. إنها نفس البنية التي تدعو إلى تجزيء المجزئ وإلى الانعزال وإلى مطب الانفصال والتخلف والتبعية للغرب، والذي لازال يهدد وحدة المغرب الوطنية، إلى اليوم.
إن حراك 20 فبراير هو الذي أخرج المغاربة إلى الفضاء العمومي للاحتجاج على النظام السياسي ككل، دون الدعوة لإسقاطه نهائيا وصراحة، ومن أجل تحقيق مكاسب سياسية مهمة. وبدأ المواطنون منذ ذلك التاريخ يطرحون مسألة عنف الدولة ضد المواطن للنقاش العلني، ستؤكده المقاربة الأمنية القمعية الغليظة لدولة المخزن ويحولونه لرهان سياسي كبير.
وإذا كان براديغم الاختيار العقلاني، الذي اعتمدته حركة المعطلين، خطوة مهمة لفهم الفعل الجماعي للحراك وفهم ديناميكيته واستمراره، فإنه لا يستطيع أن يفسر بمفرده استمرارية حركة المعطلين قبل وإبان وبعد حراك 20 فبراير، ولا أن يفسر تفسيرا كافيا أدنى مردودية، ظلت مراوحة للمكان والزمان السياسيين للحراك الشعبي بالريف، وغيره. فهو براديغم غير متجذر في المكون الاجتماعي والتاريخي لأنه لا يهتم بوجه خاص بالبنيات الاجتماعية والسياسية للمغرب.
عرفت نظرية الرجة الثورية التعبوية والتأطيرية للمدينة إحكاما قل نظيره في واقعة محسن فكري، بالرغم من أهمية الرجات الأخرى، كحدث الإعفاء الذي تلا حادثة كالفان دانييل، والتراجع عن قرار العفو وإعادة النظر في مسطرة العفو لأول مرة في تاريخ المغرب.
لكي يصل الحرمان إلى مداه متمثلا بالعصيان الاجتماعي والوقفات… في أفق التغيير السياسي الشامل، لا بد من وجود فاعلين محترفين يستطيعون أن يقودوا المستاءين والمتذمرين، وكذا وجود نظام سياسي ديمقراطي يسمح للجموع بالتعبير بطرق تواصل جديدة تتجاوزه، وتمنح شرعية رمزية لفاعلين جدد شباب أقل تجربة سياسية، بالرغم من ديمقراطية الحراك وسلميته وقيادته…، أمام مخزن محنك (مناضلون جدد، باحثون على توافقات سياسية جديدة يصعب تحقيقها).
وذلك بالإضافة إلى ما يسمح به التضامن العالمي لقوى الحرية والتحرر المتمثل في مناصرة قيم لا قمعية. لم تعد الحركات الاحتجاجية تتطلب ريادة، رغم أنها تفرض تحققها في الأفق المنظور، لأنها تجعل من مكان تجمع الجموع مكانَ القرار السياسي، بالذات. وهو ما جعل الباحثين يرون في علاقة الدولة بالمواطن صيرورة لحلقات بدأت من العنف العسكري الأعمى إلى العنف البوليسي إلى التساوق والتفاوض وصولا للحوار الفعلي أو “الشكلي” (عزيز محب 2020).[3]
وحين تحتوي الدولة الحراك من الأسفل بأساليب عدة (طومبسون، بايار…)، كما حلل ذلك خالد بكاري(2020) في مداخلته، فإن ذلك يعود لاعتبارات كثيرة منها المأسسة والتوافقات الهجينة. لقد هيكلت الفرصُ السياسية – حسب مقاربة المجال السياسي المستفرغ من التوتر (طوزي، 1991)- المجال الاحتجاجي لتسمح للدولة بالعودة إلى القمع واستتباب الأمن وتطبيق القانون والاعتداد بالشرعية الانتخابية، إلى حد تمرير القرارات اللاالشعبية، جاعلة من الإصلاح السياسي إصلاحا توافقيا. وحتى عندما ينطلق الإصلاح من الأسفل، فقدره أن يكون توافقيا، بحيث تتحكم الملكية التنفيذية في مجراه وتحول معناه.”
فـ”الحكامة بالمراحل”، كما قرأها المؤرخ فيرموران بيير (2016)، ضمنت العودة بالتغيير إلى حيث بدأ، جاعلة “الدستور التقديري” لـ2011، عصيا على التأويل الديمقراطي. فلم يتعب الحكم، الفخور بالشرعية الانتخابية، وصل مداه مع حكومة الباطرونا الحالية لأخنوش حيث حضور أغلبيتها المطلقة في البرلمان وجهات والمحليات (2021) من ترديد مطلب تطبيق القانون ضدا على كل ما يذبذب حركة السير العادي للدولة والمجتمع، فالسلطة السياسية المغربية تتردد وكأنها تتسامح وتسمح وتتجاوز ولكنها “تمنع بعنف وقفات غير مرخص لها”[4]، وقد ووجه المطالبون بالشغل في العديد من المرات بالقول إن الدولة موجودة لتوظيف الأكفاء وليس لتوظيف المناضلين[5].
لازالت الكثير من نقاط الظل في المدينة والقرية غير مغطاة بمؤسسات وسيطة/ الدكاكين السياسية الجمعوية تجعل من الاحتكاك الخام بسلطة الدولة أمرا متجاوزا، ومادام المجتمع برمته غير منظم في حركات جمعوية ديناميكية واسعة، فلن يستطيع المغرب بناء وتعميق “الديمقراطية المحلية” وتفعيل أطرها التعبوية الملائمة.
لم يتطلب “التوازن الديناميكي” الذي أطلقته حركة 20 فبراير، واستمر بأشكال أخرى في الريف وجرادة وغيرهما، والتقطته السلطة إشراكا فعليا لكل الطاقات الحية، في أفق تغيير مجتمعي أسمى. يتطلب الأمر إعادة النظر، عبر النقاش الوطني والاجتماعي وآليات المراقبة الديمقراطية في استحكام تنموي-اقتصادي واجتماعي يسير على إيقاع تقنوي- دولتي. فالحوار الحقيقي مع المجتمع العميق، واللامركزية والجهوية والحكامة المحلية المسؤولة كلها مقدمات ومفاتيح حاسمة لبلورة البرامج التنموية[6]، والبرنامج الاقتصادي الجدري المتكامل (محب عزيز، 2020).
لم يتطلب فهم الأمر لا في أعقاب حركة 20 فبراير 2011 ولا في خضم قمع حراك الريف وجرادة واجتثاثهما، الوقت الكثير، ولا نهاية ولاية تشريعية بكاملها ليتضح أن موازين القوى اختلت لصالح ملكية تنفيذية، أي لصالح هيمنة ما أصبح يعرف “بالدستور التقديري”[7]، المرتبط، كما بُرر ذلك، بظروف غير مستقرة، سياسيا، بالرغم من أنه في الأصل “دستور ممنوح”، أي غير نابع من مجلس تأسيسي للشعب.
وفي المحصلة هُدرت، كل مرة، فرصة للالتقاء بين القوى التقدمية والديمقراطية من جهة، و”الملكية الشعبية”، على حد الاختيار الاستراتيجي لقوى يسارية جذرية، من جهة أخرى. فواضح في القانون الدستوري، أن الصيغة الوحيدة لجمع الديمقراطية والملكية هي “الملكية البرلمانية[8]، وقد تبدو أقصر الطرق وأكثرها أمنا، مقارنة مع تصور “الجمهورية” و”الخلافة”، بالرغم مما يعنيه ويتطلبه ذلك من تغيير حقيقي وجذري صارم.
لقد أوضح الدستورانيون المغاربة أن المرحلة الانتقالية انتهت من حيث بدأت[9]، حيث تم الاستفتاء واعتماد دستور 2011، وأن الأسلوب التعبوي لدى المَلِكَين، الحسن الثاني ومحمد السادس، كان واحداً. كما أن باحثين آخرين، لاحظوا، بعد تقييم للتجربة التشريعية الأولى، تنفيذا لدستور 2011، أن البرلمان المغربي لم يتبوأ مكانة متقدمة، وهو المؤسسة التي تكرس من حيث المبدأ، إرادة الناخبين.[10]
هكذا، فمن “خطة/إمكانية للتقارب” الممكن، إلى مجرد “خطة عمل مطاطة”، أصبح دستور 2011 بناءاً مغايرا وغريبا عما أشارت له تلك الخطة/البشارة، في البداية عبر خطابي 9 مارس و17 يوليو 2011.
ورأى المتفائلون سياسيا فيما حدث في البداية تقارباً ممكناً بين القصر ومركز الضغط الذي مثله الحراك المتمثل آنذاك في حركة 20 فبراير، خاصة لما كانت في أوجها. والواقع أن ما قام به خطاب 9 مارس هو تأطير المآل بعد أن هدأت عاصفة الحراك. فتم الرجوع إلى توازن ملكية تنفيذية، أو “ملكية شبه مطلقة” ولم يبقَ شيء من ذلك الخطاب إلا قوته التعبوية للدولة-الملك، في حينها، والتي ظلت ملازمة له، منذ البداية[11]. وكل ما حصل هو “إفراغ المحتوى السياسي”[12] لما سميناه، بإيجابية ما، “توازن وفصل السلط القادم”؛ ولم يفت الدستورانيين، في كل ذلك، التركيز على المطالبة بسمو القانون[13] وعدم العبث به، إذ رأوا في دستور 2011، عدا بعض الاعتبارات، تقهقرا في مسار المغرب السياسي والدستوري[14]. وسيأتي الإعلان الرسمي عن فشل النموذج التنموي المتبع، دون تقييم عالمي له، ليفتح مصير البلاد على المجهول، لم يبدده تداعي الدولة الاجتماعية وإطلاق نموذج تنموي جديد، ذو عمق نيوليبرالي متوحش.
إن احترام الدستور وحده هو ما يمكن من تجاوز ما عرف، منذ الثمانينات، “الدستور الضمني”، ضداً على “الواضح” منه وفيه[15]، بل و”الدستور التقديري”[16]، حتى نحفظ للممارسة السياسية قيمتها وبريقها وأخلاقها، عوض الموت السياسي والعبث.
ألم يعمل الضغط الذي ولّد الحراك الفيبرايري وتعبيراته المستجدة، الوطنية منها والمناطقية، بما يها حركيْ الريف وجرادة وغيرهما، إلا على فتح ثغرات طافحة في المدى المنظور لصالح قوة النمو والعصر، ضداً على السلطوية السياسية والثقافية والدستورية وفي أفق تأويل ديمقراطي مستجد لأسمى وثيقة قانونية: دستور 2011، لتأتي – بعدئذ – الحراكات الجهوية الأخرى وفي المدن، لتعيد إلى الواجهة عمق النظام السياسي الاستبدادي في المغرب؟
إن الجهات الرسمية، التي تدعي أنها قيمة أو أن لها حق الإشراف العادي على إعادة الاعتبار لتاريخ المغرب وكفاحه الوطني ولرموزه، وعلى التقويم النقدي لكل المشاريع المجتمعية الخاصة ببناء الدولة المغربية المستقلة، لا تزال “ملتزمة” بسلوكيات كنا نعتقد بأنها أمست من مختلفات الماضي، غير أن الواقع العنيد يؤكد استمرارها في ممارسة ثقافة التعتيم (…).[17]
ولابد من العمل على إلقاء الضوء على البعض مما خفي من أحداث الماضي، وبعض مما صار تعقيدات الحاضر، وأكبر قدر ما يمكن أن يفتح الأفق الواعد لريف جدير بنضالاته، سعيد ببناته وأبنائه، معتز بامتداداته الوطنية من جبال الريف الأبي إلى رمال الصحراء الصامدة[18].
ألم يحن الوقت بعد للانخراط في عملية “ضد تأسيسية”[19]؟ إذ أن اللجنة المؤسسية المعينة في أعقاب الحراك المغربي، بكل تلاوينه المركزية والجهوية، لم تحظَ بالتراضي الكلي، كما حدث في 1960، حيث رفض الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الدستور. فلم تكن في كل الأحوال، لجنة منتخبة، ديمقراطيا، حتى تتمكن من صياغة دستور ديمقراطي، وتنأى بالمغرب عن دستور تهيمن عليه الملكية، دستور تقديري تأويلي تبريري، في ظرفية اعتبرت “لا يقينية” ومحفوفة بالمخاطر.
[1] – أستاذ باحث وكاتب عام محلي للحزب الاشتراكي الموحد/ تمارة.
[2] – ويمكن الاستدلال بالدراسات المقارنة في حدود الناصرية التقليدية، حيث يرجع فشل التجربة الناصرية المصرية، مثلاـ إلى فشل قيادة البورجوازية الصغيرة ضد الامبريالية، ليوفر الشرط المادي لتحرر فئات واسعة منها من أسْر وهمها الإيديولوجي الطبقي، في أنها كانت أو يمكن أن تكون وتدوم في سلطة مبتورة، وإن حكمت العناصر الوطنية المتقدمة التي خرجت منها وحكمت يوما باسمها، لتتحول، إلى فئة من البورجوازية الكولونيالية، التي تترقب وتتعقب إدماجها الضروري في دواليبها وخدمتها، تأييدا لعلاقة التبعية البنيوية للامبريالية، التي ناضلت الجماهير ولا زالت تكافح من أجل كسر شوكتها (انظر مهدي عامل، الحرب الأهلية في لبنان، من ص. 45-46 دار الفارابي).
[3] – انظر رشيق ع. الرحمان، المجتمع ضد الدولة، بالفرنسية، ص 263 وما بعدها.
[4]– رشيق ع. الرحمن، ص 31. ذكر فيما سبق. ولا يبدو أنها اتبعت نفس المنطق في الأخير مع حراك الريف (2016-2017).
[5] – ما يزيد على 80% من الاحتجاجات اعتبرت غير مرخص لها في متوسط التشريعيات، أضافت لها دينامية الحراك التعليمي لأساتذة التعليم في التنسيقيات الشيء الكثير، كما أن الكثير من الأنشطة مُنعت في وجه جمعيات قانونية، كالجمعية المغربية لحقوق الإنسان، والهيئة المغربية لحقوق الإنسان، وأخريات فيما يعني تصلب الدولة مع جمعيات وأنشطة بعينها.
[6] – انظر لازاريف (2011)، “سياسة التنمية والاستحكام”، ص 62، مجلة النقد الاقتصادي رقم 27، المغرب.
[7] – انظر المصدق رقية (2016) في أعمالها النقدية حول الدستورانية .
[8] – غريب كيف أن السلطات العمومية ألغت ندوة أكاديمية دولية بالرباط حول “ما هي الملكية البرلمانية؟” أخبار اليوم (2017) رقم 2291.
[9] – انظر مدني محمد (2014)، في أبحاثه حول تاريخانية واستعمالات الدستور المغربي.
[10] – بوز محمد (2016)، البرلمان المغربي، كلية الحقوق الرباط.
[11] – انظر كتاب واتر بوري (1975) المعروف: أمير المؤمنين حول استقطاب النخب، لتضعف وتتقوى السلطوية والاستبداد والقمع في أعقاب الحركات الاجتماعية.
[12] – انظر المصدق رقية، ص 8، ذكر فيما سبق.
[13] – نفس المصدر.
[14] – نفس المصدر، ص 181.
[15] – انظر المقال المعروف للمانوني عبد اللطيف 1984، في قراءة خاصة للفصل 19 من الدستور آنذاك، مجلة كلية الحقوق الرباط.
[16] – انظر المصدق رقية، ذكر فيما سبق. لقد فتح الفصل 47 من الدستور الحالي الباب لكثير من التأويل طيلة الخمس أشهر من “البلوكاج” لإيجاد مخرج ناجع لإعفاء ناعم- آنذاك- للسيد بنكيران ولإقفال اللعب.
[17] – انظر علي الإدريسي في كتابه عبد الكريم الخطابي التاريخ المحاصر، ص 10، 2010، المغرب.
[18] – انظر مجلة الربيع الفصلية الفكرية الثقافية، الصادرة عن مركز محمد بنسعيد أيت إيدر للأبحاث والدراسات في عددين متتاليين حول حراك الريف، التاريخ والذاكرة والتراث (2018-2019). لكن لا يبدو أن عقلية المخزن الجديد قد تغيرت من حيث الجوهر.
[19] – انظر المصدق رقية، ذكر فيما سبق.