وجهة نظر

تاريخ الفلسفة، تاريخ العلوم وفلسفة تاريخ الفلسفة (الجزء الثاني)

أحمد رباص

 

باعتباري من أصدقاء الفلسفة، بشهادة أحد أساتذتها الباحثين الجامعيين بالمغرب على الأقل، خطر على بالي الإقدام على مغامرة ترجمة هذه الدراسة الأكاديمية التي جاد بها جاك بوفريس (Jacques Bouveresse)‏؛ الفيلسوف الفرنسي المولود في 20 غشت 1940 بإبينوي، والذي تتعلق فلسفته بلودفيغ فتغنشتاين والفلسفة التحليلية وفلسفة اللغة وفلسفة العلوم والمنطق. منذ عام 1995، شغل كرسي فلسفة اللغة والمعرفة بالكوليج دو فرانس

2. الفلسفة المعاصرة و”أجزاؤها الثلاثة الرئيسية”
الإشارة التي قمت بها إلى الاكتشافات المذهلة والأعمال الخالدة التي من المفترض أن يكون الفلاسفة قادرين عليها قد تجعلنا نرغب في الاستشهاد، كتذكير بالتواضع والحيطة، بأحد أشهر ممثلي هذا التخصص، والذي كان مع ذلك مقتنعا حقا، من جانبه، بأنه يشكل خطرا كبيرا على عصره وحتى أنه قادر على تفجير أسسه بشكل أو بآخر: “بشكل عام، لا أعتقد أن الفلسفات خطيرة. الناس هم الناس – وما الفائدة من التحدث بشكل أكثر وضوحا؟ – ويحتاجون إلى أن تظل أزياؤهم وأقنعتهم الصغيرة جميلة عندما يقدمون أنفسهم: الفلسفات جزء من هذه الأقنعة.” (Friedrich Nietzsche, Fragments posthumes, -print-emps-Automne 1884, textes établis et annotés par Giorgio Colli et Mazzino Montinari, traduits de l’allemand par Jean Launay, Paris, Gallimard, 1982, p. 294-295)
إن ما قلته عن الكم المعتبر من الأشياء التي ندعي بانتظام أنها “تمت البرهنة عليها” بالفعل، في تخصص معرفي، مع ذلك، نذكر أنفسنا في كثير من الأحيان بأنه ليس برهانيا ولا يمكن أن يكون كذلك، من الواضح أن له علاقة بالملاحظة المفيدة جدا وهو ما فعله ديفيد ستوف عندما تحدث عن “تحييد كلمات النجاح”، وهو سمة من سمات فلسفة العلم اللاعقلانية، ويتمثل في استخدام كلمات مثل “المعرفة”، “الاكتشاف”، “الواقعة”، “التحقق”، ” “الفهم” “التفسير” و”حل (مشكلة)” وغيرها الكثير مما يعني إنجازا معرفيا من نوع معين، من خلال تحييد هذا الجانب. ولتوضيح ما يتعلق به الأمر يأخذ المثال التالي:
“حاليا، في أستراليا، غالبا ما يكتب الصحفي جملة مثل “الوزير اليوم يدحض الادعاءات بأنه ضلل البرلمان”، في حين أن ما يقصده هو أن الوزير نفى هذه الادعاءات. “دحض” فعل في نحو النجاح (على حد تعبير رايل). والقول بأن الوزير دحض الادعاءات يعني أن ننسب إليه إنجازا معرفيا معينا، وهو إثبات كذب الادعاءات. من ناحية أخرى، كلمة “إنكار” ليست من نحو النجاح. ولذلك فإن الصحفي الذي استخدم كلمة “دحض”، عندما كان كل ما يقصده هو “الإنكار”، استخدم إحدى كلمات النجاح، ولكن دون أن يقصد إيصال فكرة نجاح، الإنجاز المعرفي، الذي هو جزء من معنى الكلمة. لقد حيد كلمة نجاح.”
لسوء الحظ، أعتقد أن الصحفيين ليسوا وحدهم من يمارسون ما يسميه ستوف تحييد كلمات النجاح. الفلاسفة يفعلون نفس الشيء بشكل متكرر. من الواضح أن للتحييد ميزة تتمثل في السماح لأولئك الذين لديهم مصلحة في جعل استعمال كلمات النجاح ممتدا بشكل ملحوظ وسخيا بشكل خاص؛ وهذا ما يحدث عندما يتم تطبيقها على الفلسفة، بطريقة تميل إلى المبالغة بوضوح في واقع وأهمية ما تنجزه من وجهة نظر معرفية بحتة.
وفي مقال بعنوان “What’s Wrong with Contemporary Philosophy“ (ما العيب في الفلسفة المعاصرة؟)”، يصف كيفن موليجان وباري سميث وبيتر سيمونس الفلسفة الغربية بأنها مقسمة إلى ثلاثة أجزاء، لا يبدو أن أيا منها للأسف في الوقت الحاضر قادر على إنتاج أي شيء يرقى إلى مستوى الانتظارات التي يحق لنا أن مترقبها في الوقت الحاضر من الفلسفة: الفلسفة التحليلية، الفلسفة القارية وتاريخ الفلسفة. إن واقعة تقديم تاريخ الفلسفة كجزء، وحتى كأحد الأجزاء الرئيسية الثلاثة، للفلسفة نفسها قد تبدو للوهلة الأولى
مثيرة للقلق. ولكنها تتوافق، في مجملها، بشكل جيد مع الوضع الذي ذكرته بإيجاز، في ما يتعلق بفرنسا، والذي كنت قد عايشته بالفعل عندما كنت طالبا، باستثناء أن الفلسفة التحليلية لم تكن موجودة. أن المواجهة حدثت، بشكل أساسي، بين الفلسفة القارية، فيما تضمنته أو على الأقل كان من المفترض أن تشمله باعتبارها الفلسفة الأكثر ثورية، والفلسفة الجامعية، أي تاريخ الفلسفة بشكل أساسي.
إن تاريخ الفلسفة، كما لاحظ كيفن موليجان وباري سميث وبيتر سيمونز، يُمارس اليوم من قبل الفلاسفة التحليليين (هي الآن على أية حال أكثر مما كانت عليه عندما بدأت الاهتمام بالفلسفة التحليلية) والفلاسفة القاريين. “في أوروبا القارية، كما يكتبون، باستثناء الدول الاسكندنافية وبولندا، الفلسفة هي، إلى حد كبير، مجرد تاريخ للفلسفة. يعكس التماهى شبه الكامل للفلسفة مع تاريخها في أوروبا القارية شكوكا هائلة تجاه أي نوع من الطموحات النظرية من جانب الفلسفة. هذه التأكيدات […] لا تخضع كثيرا للجدل، كما يُظهر فحص منشورات الفلاسفة في أوروبا القارية بسهولة.” أعترف أنني لست على دراية كافية بالوضع الحالي لأقرر ما إذا كان من المحتمل أن يتم الطعن في ما قيل للتو أم لا. لكنني أعتقد أن المؤلفين يطرحون بلا شك سؤالاً ذا صلة ومهما عندما يكتبون:
“كيف يمكن لمثل هذا العدد الكبير من الفلاسفة التحليليين أن يستمروا في ممارسة الفلسفة بطريقة أكثر أو أقل صرامة ونظرية دائما، ومع ذلك لا يعتقدون أن الفلسفة يمكن أن تكون علما ولا أنها يمكن أن تضيف شيئا إلى رصيد المعرفة الإنسانية الإيجابية؟ في بعض الأحيان يكون هذا المزيج ناتجا عن الاقتناع بأن الفلسفة لا يمكن أن توصف أبدا بأي شيء آخر غير مأزقية. في بعض الأحيان يكون ذلك بسبب الاعتقاد بأن الفلسفة يمكن أن تطمح إلى نتائج سلبية على الأكثر. في بعض الأحيان يرجع ذلك إلى الاعتقاد بأن الهدف النهائي للفلسفة ليس نظريا – أيا كان الكم النظري الذي بمكن توظيفه في السياق – ولكنه عملي، علاجي، مثلا. أحيانا يكون ذلك بسبب الحيطة، وأحيانا بسبب خداع الذات، وأحيانا بسبب التأثير الخبيث لكانط .
من الواضح أن هذا النوع من الأسئلة يطرح بشكل أكثر وضوحا وبشكل مباشر فيما يتعلق بممثلي التقليد التحليلي. ولكن يمكن أيضا أن نسأل عن بعض نظرائهم القاريين الذين هم أيضا مقتنعون بأن الفلسفة يجب أن تُفهم كمشروع نظري وممارسته بأكثر الطرق صرامة ممكنة، لكنهم مع ذلك يرفضون بشكل قاطع فكرة أن هذا قد يعني أن الفلسفة يجب أن تسعى جاهدة لتشبه الفلسفة العلم قدر الإمكان. من الواضح أن فكرة “الفلسفة العلمية”، بالمعنى الذي دافع عنها برتراند راسل وأعضاء حلقة فيينا، بعيدة جدا عن التصور الذي لدى فلاسفة مثل فويليمين وجرانجر عن تخصصهما. ومن الواضح أنه من الصعب، على أية حال، أن ندعي للفلسفة مكانة العلم، بالمعنى الحرفي للكلمة، وأن نثير في نفس الوقت، كما فعل كلاهما، شكوكا جدية حول إمكانية أن نطبق على قصاياها فكرة الحقيقة التي تظل قريبة بما فيه الكفاية من الفكرة المعتادة.
هناك تمييز مهم آخر يقوم به مؤلفو المقال الذي أتحدث عنه، وهو التمييز الذي يمكننا التعرف عليه للوهلة الأولى بين طريقتين لتصور تاريخ الفلسفة وممارسته. “من جانب، يكتبون، هناك تاريخ الفلسفة باعتباره تاريخ الفلسفة في مناطق، في ثقافات، إلخ..حيث يتم تحديد الفلسفة التي يتم دراسة تاريخها من قبل الأمة أو المجموعة اللغوية أو الثقافة التي ينتمي إليها الفيلسوف المعني. من جانب آخر، هناك تاريخ الفلسفة باعتباره تاريخ أفضل ما فكر فيه، قيل وحفظ، فيه تتحدد الفلسفة التي يدرس تاريخها، وطريقة دراسته، من خلال الاقتناع بأنه يمكن للفلسفة أن تتقدم لأنها تقدمت”. ولذلك فإن اتجاه تاريخ الفلسفة من النوع الأول هو بالأحرى قومي أو إقليمي. أما تاريخ الفلسفة من النوع الثاني فهو، على العكس من ذلك، أممي إلى حد ما، لأن اختيار الأفضل كموضوع بحث والتقدم الأصيل، إذا كان هناك تقدم في الفلسفة، لا يمكن إلا أن يكونا أمميين في جوهرهما. ليس من المؤكد، فضلا عن ذلك، أن التعارض بين الفلسفة التي يتم تصورها وممارستها بطريقة “قومية” (اتجاه يميل، لبعض الوقت، إلى تأكيد نفسه بوضوح مرة أخرى في فرنسا) والفلسفة التي تتبنى منذ البداية بحزم وجهة نظر أممية ليس أكثر أهمية ودلالة اليوم من التعارض بين الفلسفة القارية والفلسفة التحليلية.
لاحظ موليجان وسيمونس وسميث أن «تاريخ الفلسفة، في معظمه، تم تطويره على أساس إقليمي: ما يتم دراسته يتحدد من خلال الأمة أو الثقافة التي ينتمي إليها الفيلسوف، وليس من خلال القيمة الموضوعية لعمل هذا الفيلسوف” . للأسف،
النزعة الإقليمية، بهذا المعنى، لا تؤثر فقط على تاريخ الفلسفة، ولكن أيضا إلى حد يظل مهما جدا، وهو بشكل عام أكثر أهمية في فرنسا منه في عدد لا بأس به من البلدان الأخرى، على الفلسفة نفسها. أحد الأسباب الحاسمة التي جعلتني أشعر في وقت مبكر جدا بالحاجة إلى اتخاذ مسافة من الفلسفة الفرنسية المعاصرة يكمن على وجه التحديد في حقيقة أنني كنت أجد دائما النزعتين الإقليمية والقومية غير معقولتين وغير محتملتين، في مجال مثل الفلسفة. عندما نتحدث عن هذا النوع من المشاكل، نسمع عموما الإجابة بأنه، ما عدا في اللحظات النادرة والقصيرة التي تميل إلى أن تكون استثناءات، كانت الأمور تحدث دائما بهذه الطريقة تقريبا في فرنسا. لكنني أعترف أنني لم أفهم أبدا كيف يمكن لذلك أن يجعلها أكثر إرضاءً وأكثر قبولاً.
أحد تصريحات مؤلفي “ما العيب في الفلسفة المعاصرة؟” ، الذي لا يمكن بالتأكيد أن يكون محل نزاع، هو ما يتعلق بالهيمنة الساحقة التي تمارس، بين الفلاسفة ومؤرخي الفلسفة، من خلال مفاهيم النوع الأول من النوعين اللذين ميزوا بينهما. يكتبون قائلين: “انظروا إلى الخيار الثاني. إنه الآن فضول وليس خيارا حيا. ولعل آخر المؤمنين بهذا الخيار هم برينتانو وبعض طلابه. وكثيراً ما ينتابنا الآن شعور بأن أخذ الخيار الثاني على محمل الجد يعني عدم إخلاصنا لمهمة المؤرخ. وقد اشتبه بعض مؤرخي الفلسفة ضمن التقليد التحليلي في اتباع هذا الخيار؛ لكنهم يحصدون الآن استهجان المؤرخين الذين يصرون على التفسير النصي الخام وتتبع التأثيرات. “إن المشكلة الأساسية التي يطرحها موقف مثل موقف برينتانو هي أن لديه كل فرصة لأن يُنظر إليه على الفور على أنه وضعي، بأكثر للكلمة من معنى قدحي، إلى الحد الذي لا يتصور فيه أي وسيلة أخرى للفلسفة للوصول إلى حالة المعرفة الأصيلة القادرة على التقدم بدلاً من غير تجهيز نفسها بأساليب مستوحاة مباشرة من مناهج العلم، الأمر الذي له عيب مزدوج يتمثل في فرض نموذج عليها ليس من الضروري قبوله والتقليل إلى حد كبير من أهمية الاختلاف بين تاريخ الفلسفة وتاريخ العلوم.
(يتبع)
المصدر: https://books.openedition.org/cdf/4936

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى