وجهة نظر

في حالي الضعف والقوة، وفي ما بينهما من هُوّة..-ذ.أجدور عبد اللطيف

 لا يجد المرء في مظهر شيخ يقتعد كرسيا ما يستوقف، لاسيما في صدر مسجد متبسط من جيل المساجد الموريسكية الأولى، لكن متأملا حصيفا قد يلفِته أن حال العجز التي عليها الشيخ، تنطوي على مظاهر قوة سالفة تنضح من وجنة وردية عليها آثار الرخاء التي لا يخطئها البؤساء، ومن قميص ناصع ملبوس تحت سترة صوفية فخمة بنحر مثلث الشكل، وطاقية حجازية مذهبة تكشف على الأطراف عن شعر فضي مصفوف بعناية، ويرتدي فوقية فضفاضة مطرزة الحواف، نسجت من ثوب منساب يكشف عن نحر وأكمام واسعة تنتهي عند ساعة يد ذهبية ثمينة، مظاهر تنعُّم متعاضدة تشي بأن الجالس أثرى منذ زمن غير يسير إذا لم يكن ثريا أصالة، وبأنه كان ذا سؤدد وسلطة تعكسها جلسته المكتبية، وحركاته المضبوطة التي لا تتسلل إليها عفوية العوام إذا لم نسمها فوضويتهم. إن خلف الرجل زوجة عظيمة ما زالت تحفظ له هيبته وأناقته، وإلا خادمة تأخذ أجرها وافيا، في عمر إنما يمازح فيه مثلُه جبروت الزمن بحرصه على كل هذه التفاصيل.

 

تتردد المخلوقات – بما فيها الإنسان – بين الكثير من الثنائيات المتناقضات، من ليل ونهار، ونمو واندثار، وجدب وغصب، وسلم وحرب، وازدهار وكساد، وصلاح وفساد، وظلام ونور، وكرب وحبور، وشجاعة وجبن، وفخر وغبن.. لكن أكثر الثنائيات مدعاة للدهشة هي ثنائية الضعف والقوة. ليس في تمظهراتها الجسدية فقط، بل في خصال الإنسان وطبائعه الذاتية الشخصية التي نطالعها في آثاره التاريخية المحيّرة تناقضاته أحيانا كثيرة.

إن هذا الكائن الضئيل الذي يجيء إلى الوجود في حدود بضع سنتيمترات وكيلوغرامات لا تتعدى الأربع، على أنه وزن يكبّد أمه ما يعجز غيرها عن وصفه من الألم والضعف. هذه الكتلة التي لا تصل حجم ديك هندي، تصير في سنوات معدودات إلى قوة جسمانية تخول لصاحبها جر شاحنات كما يفعل بعض الرياضيون، و حمل الصخور وشق الجسور، بينما تعد المنجزات الفكرية والعلمية الغاصة بها جنبات حياتنا اليومية، بحرا يرتفع منسوبه يوما بعد آخر مغرقا جزر الوهم والجهل. 

 إن استثمار حالات القوة والجبروت الإنسانيين عبر تاريخه الطويل الحافل، أعطتنا الأهرامات بهندسة وإتقان ما زال يستعصي على المنطق والرياضيات حتى اليوم، وهي لا تقل سبقا ولا براعة عن فنون العمارة والزراعة، ونظم السياسة والإجتماع، وعلوم الطب والتحنيط الفرعونية. كما إن الجلد والقوة الإنسانية هي التي بلغت بشهرة الإسكندر المقدوني الآفاق، فهذا الفتى الذي ورث في عمر السابعة عشر حكم الإمبراطورية المقدونية بعد وفاة أبيه، لم يتميز عن غيره من الحكام عبر التاريخ بغير القوة وصلابة الشخصية، وشجاعة منقطعة النظير جعلته يتوشح صدر جيشه في كل معركة ما ألهب حماس جنوده، وجعل هذا الجيش الجرار المفتون بقائده، يتعاظم بتراكم القرى والمدن والحواضر التي ضمها لحكمه، بلغ معها حكمه أغلب أجزاء العالم المشهود آنئذ وهو لم يجاوز بعد الثلاثين. إنه شخصية متفردة لا يمكن وصفها بغير شك، لكن نهايتها كانت تراجيدية حيث توفي الإسكندر في سن الثالثة والثلاثين. لا مطعونا بسيف أو مصابا برمح كما يليق بفارس وقائد أسطوري، إنما جراء مضاعفات حمى التيفوئيد، فرغم إشارات محتشمة لبعض المصادر التاريخية إلى كونه توفي مسموما من طرف أخيه غير الشقيق، إلا أن جامعة ميريلاند وكذا المركز الوطني للسموم بنيوزيلندا تستدلان في أوراق بحثية محفوظة في أرشيفهما، أن تتبع الأعراض الذي تسوقها أغلب الروايات يأخذنا رأسا إلى كون الوفاة طبيعية إما بسبب التيفوئيد أو الملاريا. فارق الإسكندر الوجود إذن في خيمته يصرخ متوجعا، شأنه في ذلك شأن أي طفل صغير. في تبد صارخ لازدواجية الضعف والقوة العصية على الفصل في ارتباطها بالنفس البشرية.

تضج ثنايا كتب التاريخ القديم والمعاصر بشواهد دالة على تقلب الإنسان بين الحالين، فكبار الكتاب والمفكرين والعظماء، شهدوا فترات ضعف أمام أنفسهم وعقولهم الجبارة بالذات، كتلك الذي دفعت بإرنست همنغواي إلى إفراغ ماسورة بندقية صيده في جمجمته، وحملت المنسق الموسيقي السويدي الشهير أفيتشي للانتحار، وهو في عز الشباب والشهرة والغنى والقوة، في لحظة ضعف أمام اضطراباته النفسية. 

إن الإنسان مع كل المنجزات التقنية الجبارة، ما يزال ضعيفا وعاجزا أمام زلزال مدمر (زلزال حقيقي أو زلزال مجازي نفسي) ينزل دون قرع الباب أو إرسال النذر، أو أمام فيضان يجرف معه حارس السد كما حاكم المقاطعة في عدالة ملفتة للجميع أمام الفناء. الموت هو الأمرُ الأكثر عدالة في هذا الكون كما تقول الروائية الروسية سفيتلانا أليكسييفيتش.

 إن الإنسان بالموازاة مع ذلك ضعيف أمام الطبيعة الإنسانية، ينكسر أمام مرض فتاك يعصف بالغرباء فضلا عن الأقرباء، يفقد صوبه لموت مفاجئ، وتتقطع نياط قلبه للفقد، ألم تقض أم الإسكندر بعده بعد أيام قلائل لما انصرفت عن الأكل كمدا؟ يعجز الكائن البشري المستقوي حال عافيته واطمئنانه، عند وروده حال المعاناة والمأساة، ويخرس في حضرة النشيد الكوني الصادح بأن حالات الزمان عليه لا بد أن تكون شتّى، ولا بد له بالقبول، بل تتجلى إنسانيته الناضجة في حرصه على الاحتفالية بالضعف بنفس القدر من الاحتفالية والخيلاء عند القوة. المتنبي :

فَأَنتَ تُعَلِّمُ الناسَ التَعَزّي

وَخَوضَ المَوتِ في الحَربِ السِجالِ

وَحالاتُ الزَمانِ عَلَيكَ شَتّى

وَحالُكَ واحِدٌ في كُلِّ حالِ.

أجدور عبد اللطيف 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى