وجهة نظر

الجمعيات بين الأمس واليوم – مصطفى لمودن

مثّل عِقد الثمانيات من القرن الماضي أول زمن وضعت أثناءه قدمي على الأرض! حيث شرعتُ في تفهّم الأحداث، والاستيعاب النسبي لما يجري..
تقريبا هي فترة خروجي من مرحلة الطفولة.. وبما أنني أسير الآن سريعا نحو مرحلة أخرى، يمكن اعتبارها بداية الشيخوخة..
هذه الفترة الزمنية التي عشتها ومازلت، تتيح لي إمكانية النظر عن قرب إلى تحولات مختلفة عايشت بعضها..
من أهمها على سبيل المثال “العمل الجمعوي”، كان قبل أربعين سنة صعبا جدا، بل محفوفا بـ”المخاطر”، كل من يدخل غماره يعتبر “مشكوكا” في نواياه إلى أن يثبت عكس ذلك..
كان نضالا حقيقيا يقوم به البعض فقط، صحيح أن جل ممارسيه كانوا مرتبطين بشكل أو بآخر بـ”المعارضة” السياسية أو الحزبية السابقة حينذاك..
ولكنه كان عملا تطوعيا جِديا، في الأغلب الأعم، كل ما ينجز يكون على حساب الأعضاء.. ولهذا كان العمل الجمعوي يُقدم في دور الشباب على قِلتها، بإمكانيات محدودة، يشمل ندوات وعروض ثقافية وفكرية، وأحيانا موسيقى..
لكن، أهم ما كان هو المسرح، كان رائدا ومتواجدا بجل المدن.
النوع الثاني هو الأندية السينمائية، بعرض أفلام مختلفة عن ما هو تجاري يُقدم بالقاعات التي كانت نسبيا كثيرة.
كانت الأندية السينمائية منظمة في “الجامعة الوطنية للأندية السينمائية”.. كل التكاليف والأعمال يقوم بها الأعضاء.. وكانت تجربة رائدة في التعريف بسينما مختلفة، وساهمت في التكوين الفكري والنظري وحتى العملي لعدد من أعضائها.
وكانت كذلك جمعيات للتخييم، لكن ليست بالكثرة المطلوبة، وإن كان جلها غير مرتبط بما سمي “المعارضة”، واليسارية تحديدا..

فيما بعد وقع تراجع كبير في هذا الزخم.. يمكن تحديد منتصف تسعينيات القرن الماضي بداية الانحدار، أو نهاية هذا النوع من العمل الجمعوي النضالي. لعل الأسباب، تعود لعياء جيل، وعدم تجديد ذلك النوع من النخب، ثم حدوث طلاق بالتدرج بين ما هو حزبي وما هو جمعوي، لأن المرحلة اختلفت، ووقع نوع من الإنفراج..
كاد أن يقع فراغ كبير في هذا الصنف من العمل المدني، لكن تدخل الدولة “أنقذ” الموقف، وذلك بتشجيع بعض الأطراف على دخول العمل الجمعوي، ومدهم بالإمكانيات المالية واللوجستيكية..
كما تنوعت الجمعيات، ولم تعد مقتصرة على ما هو ثقافي، بل شملت عدة مجالات بيئية ومهنية وتعاونية (رغم فصل قانون التعاونيات عن العمل الجمعوي)..
دخلنا الآن مرحلة” الاحتراف” النسبي للعمل الجمعوي.. مما يتطلب التفرغ وليس التطوع، وبالتالي تخصيص موارد مالية قارة، تكون تحت رقابة قانونية، تراعي المردودية..
هناك الآن مرحلة تحصيل “المنح” المختلفة، مما أصبح مقرونا بامتيازات خاصة، فظهرت جمعيات “مخملية” تنظم أنشطتها بالفنادق أو بمقرات مجهزة ومؤثثة، تمونها شركات تعد الأغذية والمشروبات المتنوعة..
انتهى عمليا ذلك “العمل الجمعوي التطوعي”، أو بقيت بعض ملامحه هنا وهناك تقاوم، لكنها لا تستطيع عمليا فعل أي شيء..
بمنطقة سهل الغرب، يمكن اعتبار “جمعية النجم الأحمر…” في بلقصيري نموذجا عن الجمعيات الجادة كما كانت سابقا، وهي تناضل وتبحث عن موارد وشراكات لإنجاز أنشطتها الثقافية، بدون لف ودوران وكولسة وتحويط ذاتي وعدم الانفتاح وضبط الانخراطات على المقاس كما تفعل جمعيات أخرى، منها من تحصل على الدعم والمال العام.
عندما خصصت الدولة موظفا للجماعات المحلية سمته “الكاتب العام”، أغلقت ثغرة وفراغا، ونظمت بذلك شؤونها.. وهو الأمر الذي يتطلبه العمل الجمعوي لأهميته وفائدته. عوض أن يبقى في مجال الهِواية وضعف التسيير والمحاسبة.. حتى أنه يقال إن مِنح ” المبادرة الوطنية للتنمية البشرية” لا تجد من يتابعها ويدقق حساباتها ويُقيّم مردودها وإنجازاتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى