وجهة نظر

هل أخطأ خالد البكاري بصدد “الأسئلة المغلوطة”؟

في قلب الأوضاع 45 أحمد الخمسي

عند تلخيص ما كتبه خالد البكاري بصدد مآل حركة 20 فبراير قبل سنتين (سنة 2021 بأخبار اليوم)، نجده انطلق من تساؤل مركزي: “لماذا فشلنا في اختراق جسد السلطوية، ولم نحدث بها سوى خدوشا، سرعان ما التأمت، لتعود أكثر شراسة؟”

      اعتبر حركة 20 فبراير كانت “بالكاد حركة احتجاجية”، كل من التحق بها إذا كان يعرف ما يرفضه، فإنه لم يكن يعرف بالضبط ما يريده. وحتى المرفوض اختلف باختلاف الأفراد والتيارات والتنظيمات والمدن والجهات.

      واعتبر تداول التهمة الجاهزة بالخيانة لم يتثبت ما يدل عليها. فقد توارت حتى الوجوه البارزة.

      أعطى خالد البكاري خمسة أمثلة على نفي الخيانة من خلال التنكيل بمن شاركوا في الحركة، سواء 1) من استشهدوا دون فتح تحقيق محايد في مصيرهم، بدل الوصفة الرسمية، أو سواء 2) من ما زالوا في السجن، أو 3) من سجنوا من جديد في حراكات لاحقة، أو 4) من لفقت لهم تهما جاهزة من باب الانتقام البعدي، أو 5) من يحملون صفة اللجوء السياسي في الخارج،

      يؤكد الكاتب أن تراجع الحركة وخفوتها ثم نهايتها، لم يكن بسبب خيانات شبابها، ولا بسبب تفجيرها من الداخل، ولكن لأن الشروط الذاتية والموضوعية آلت للنتيجة الموجودة اليوم.

يقول: “في غياب استراتيجية واضحة متعاقد بشأنها، وفي غياب أشكال تنظيمية تتطور تبعا لتطورات الوضع، وفي غياب قوى سياسية قوية تترافع حول مطالب الحركة، لم يكن ممكنا تصور سيناريو افضل من تلك الخاتمة”.

      وهذا يفسر عدم قدرة الحركة على التكيف مع المتغيرات: المتغير السياسي المحلي (تعديل الدستور والانتخابات السابقة لأوانها)، ومع المتغير الاقليمي، حيث الحروب الأهلية الدموية (سوريا، ليبيا، اليمن…).

***

      لعل اعتماد خالد البكاري زاوية التحرر من أي التزام تفصيلي غير الالتزام بالدفاع عن الحركة، سهّل عليه سلاسة المعالجة. ولعلّ تمرنه على المقالة الصحافية الموجهة للرأي العام بكل مكوناته، ألزمته اتخاذ العُدّة المنهجية، المستندة إلى شبكة قراءة، مفتوحة أمام كل وجهات النظر، ليس يسبقها شرط غير وضوح تبرئة ذمة حركة 20 فبراير مما علِقَ بها من زوايا خارجة عنها.

      زاوية المعالجة التي انطلق منها واضحة ومسؤولة وليست محايدة. فهو ينخرط ضمن المعنيين بمصير الحركة، فيقول:” لماذا فشلنا…؟” بصيغة المتكلم وليس الغائب أو المخاطب، من باب تجاوز الذهنية العربية التي تُلصِقُ الفشلَ بالغير، وتنسُبُ النجاحَ لنفسِها. لذلك، يمكن لكل معني بمصير الحركة، أن يبصم للتوقيع معه على أهم الخلاصات التي توصّل إليها تحليل السهل الممتنع.

      يتزن أسلوب المقال كون منطلقه تعريف حركة 20 فبراير “بالكاد حركة احتجاجية”، لذلك سهل على الكاتب تلقائيا نفي الشروط الموضوعية التي من شأنها توفير موجبات “الخيانة”. لذلك، سهل عليه أيضا تفسير ما يريد قوله ب”الأسئلة المغلوطة”.  

      كما لخص بتركيز شديد كون الصادحين بصوت الحركة إن كانوا قد عرفوا ما كانوا يرفضونه، فإن لحظة التحديد بالضبط لما كانوا يريدونه لم تحصل. ففي حينه طرح بشكل مبطن الاختلاف فيما إذا كانت حركة 20 فبراير حركة اجتماعية أم حركة سياسية. فمن كانوا يعتبرونها حركة سياسية كانوا في الحقيقة يطمحون إلى أن تصبح كذلك، بدل الإبقاءعلى توصيفها بالصبغة الاجتماعية وهو الطموح المشروع… كما كانوا يضعونها بديلا للطبقة السياسية الحزبية التي انطفأ آخر بريقها بعد نهاية حكومة التناوب التوافقي. وكانوا يراهنون على إنضاج بياناتها لتلائم التدرج المتصاعد، ليس فقط في كم المتظاهرين، بل بتجاوز ما أسماه خالد البكاري “غياب استراتيجية واضحة متعاقد عليها”.

***

      وحدها الحركة السياسية من تلمس الحاجة الملحة لاستراتيجيا متعاقد عليها. والحال، وقد اعتبرت المؤسسات الأمريكية (كارنيجي بالشرق الأوسط) ساعتها، كون الحزب الاشتراكي الموحد وجماعة العدل والإحسان والجمعية المغربية لحقوق الإنسان، السند الداعم للحركة، فالخاص والعام لن ينتظر من جماعة العدل والإحسان العمل الحثيث من أجل فتح مسالك حوار مع القوى السياسية المؤثرة في الدولة للتوصل إلى استراتيجيا متعاقد عليها. والخاص والعام لن يجعل جمعية حقوقية مسؤولة عن غياب استراتيجيا متعاقد حولها. بقي أمر الحزب الاشتراكي الموحد بصفته كذلك، هو المسؤول عن غياب مشروع استراتيجيا متعاقد حولها.

      لا يخفى عن الخاص والعام، السقف المنخفض للفكر السياسي المعمول به داخل الحزب الاشتراكي الموحد والذي جعل قيادته لا تعلم حتى بالتقارير التي وصفته بكونه أحد المساندين الثلاثة المذكورين (سردية مارينا أوطاوي في ختام 2011). وبالتالي، العجز عن الالمام بالمعلومات المرتبطة بتقييم الحركة وبتبعات ذلك على الصعيد السياسي، يقضي بالعجز عن إنجاز تشخيص للوضع ما قبل وما بعد سنة من احتجاجات الحركة وما أفرزته من المتغيرين المحلي السياسي والاقليمي المتفجر في شكل حروب أهلية ما زالت لم تنته بعد.

      أضف إلى زوايا الخلط بين الطاقة الاعتراضية والطاقة الاقتراحية التي إن لم تكن منعدمة (مجسدة في لائحة مطالب)، فقد التقطتها الدولة واشتغلت عليها في الجانب “التعاقدي” (لجنة الدستور) وفي الجانب العملي (الانتخابات السابقة لأوانها)…

      فالتعاقد ينطلق من اعتماد الذات المحركة للاحتجاجات على لحظة توقيع المعارضة عبر الاحتجاج، وتشتغل مسبقا على التهيؤ للحظة الجلوس إلى الحوار ثم التفاوض كونها آتية بالضرورة، لأنها هي الهدف من لحظة الاحتجاج. فالتعاقد ضمن المنهجية السياسية على الأرض يشتغل مسبقا على تهييء شروط التفاوض، عبر حركة تقدم في الميدان وتراجع أيضا وفق المهارة والقدرة على ملاءمة الاعتراض مع الاقتراح، مدا وجزرا. هذا لم يحصل، لذلك بقيت حركة 20 فبراير “بالكاد حركة احتجاجية”، لم تنتقل من الاحتجاج الاجتماعي إلى التفاوض السياسي. ولأن المبادر بالاحتجاج وهو خائف من قدرة السلطة على ربح جولة المفاوضات هو بالضبط ما أكد ما ذهب إليه خالد البكاري كون الحركة إن عرفت ما ترفض، لم تشتغل على التقدم تجاه ما تريد. وبالتالي لم تتوفرت لها المهارة التفاوضية للاقتراب مما تريد. ولنفترض أنها كانت تعرف ما تريد، لم تخلق رأيا عاما يعلم أنها تريد كذا وكذا… الحلقة التي يقبض عليها المتابع ليعلم ما تريده الحركة سلسلة بيانات ترتّب ما عرضته في المفاوضات وما استنتجته من عملية التفاوض. وهو مسلسل لا يلغي المزاوجة بين الاحتجاج وبين التفاوض، مع التقاط الانفاس وإقناع الرأي العام أنها بذلت من المرافعة الجهد الكافي لإقناع السلطة بشرعية المطالب بل وباضطرارية الاحتجاج، والحال أن رصيد المراوحة السابقة في نفس النقطة التي ابتدأ منها الانتقال في عهد حكومة التناوب التوافقي، تراجع عنها الوضع السياسي مع حكومة التقنوقراطي جطو فيما بعد. وكون الاحتجاج أصبح ضرورة ليس فقط ضد السلطة بل ضد الطبقة السياسية التي علقت بعنكبوت الحكومة رغم عدم “تطبيق المنهجية الديمقراطية”.  وهو الخيط الذي كان كفيلا بنقل شرعية مطالب الحركة إلى دائرة أوسع من دائرة المحتجين، وسيضفي الشرعية السياسية ذاتياعلى مطالب الحركة بعدما استبقت الدولة الترسّخ الزمني الذاتي فتجاوبت مع مطالب الحركة. لكن الفارق نوعي بين التجاوب والاستجابة. فعندما استنكفت الحركة على الجلوس إلى مائدة لجنة الدستور، فقد فوّتَتْ الفرصة على تحوّلها من حركة احتجاجية اجتماعية إلى حركة سياسية احتجاجية. استنكافها ذاك، سلبها فرصة المتابعة السياسية للرأي العام الداخلي والخارجي كحركة سياسية احتجاجية سلمية، فبقيت في نظر الرأي العام بكل مستوياته المذكورة، يعتبرها حركة احتجاجية شبابية ناقلة لأحداث خارجية مشابهة لا غير. كان في صالح الدولة أن تقبل بتحول الحركة الى حزب سياسي يشتغل داخل المؤسسات، وهو ما لا يعني توقف الاحتجاجات السلمية ولا سلبها هذا الحق السلمي. كان المنطق العالمي الذي رأت اليونان واسبانيا تجسيد ما يقبل هذا التحوّل، لأن الدولة ستتخلص من عبء الطبقة السياسية القديمة، والتي لم تعد قادرة على تجديد نخب الحياة السياسية، كما التفاوض سيفضي إلى ترسيم حضور المراقبين الدوليين للانتخابات بمشاركة قوة سياسية ناشئة، تعطي البديل الشعبي لتجدد الحياة السياسية. كما كان المغرب سيربح شروط تفاوض أفضل مع الشركاء الأجانب في الاستثمار الخارجي المباشر، بما يفتح الحياة الاقتصادية على الطبقات المتوسطة الحاملة للمؤهلات العلمية مما كان سيجلب الخبرة التكنولوجية لتطور نمط الانتاج خارج دائرة الريع المغلق. ولأن التفاوض لا يعني إفقار الطبقات المالكة العليا، كان سيفضي إلى تعاقد على قاعدة رابح/رابح، وكان ترسيخ الاستقرار السياسي وتوسيع دائرة الحياة الاقتصادية، سيفضي إلى زيادة أرباح الأغنياء دون اضطرارهم تهريب الأموال الى الخارج، لأن ما تخفيه الحركة من تخوفات تصيب الأغنياء بالهلع، كان من شأن التفاوض أن يحول شعارات الاحتجاج إلى برنامج عمل في السياسة والاقتصاد. ومن شأن تكامل السياسة ذات المشاركة الموسعة أن تفضي إلى تنشيط الاقتصاد الموسع والمنتج والمفتوح. شرط التوصل الى تعاقد الزيادة في الثروة ومن تمّ تشريع القوانين التي تساير اقتصاد متوازن في العرض والطلب، متوازن في الاستثمار والشغل، في الادخار والمشاريع.

لماذا لم تسلك الحركة هذا “الطريق المضيء” السلمي؟

      لم تعتمد الحركة أجهزة استشارية من ذوي الخبرة في مقترحات القوانين والمرافعات التشريعية…بل لم يكن بين صفوف قادتها سوى بقايا الحركة الطلابية الذين اندمجوا في الوظائف أو ما زالوا في وضعية هشاشة، مع جِدّة الانشغال بالفيسبوك وبقايا msn، مما فسّر عجز “القادة” عن فتح نقاش موازٍ ما لم يحصل من داخل لجنة الدستور، وطغت في المقابل أشكال التعبئة الفنية ذات المحتوى السجالي، كما لو كانت معبرا عن الرأي العام لحركة مجرد ظاهرة اجتماعية تطفو بكيفية دورية. وهذا ما يفسر التساؤل المركزي لخالد البكاري: “لماذا فشلنا في اختراق جسد السلطوية، ولم نحدث بها سوى خدوشا، سرعان ما التأمت، لتعود أكثر شراسة؟”

      ولأن الناضجين من بين الشباب المبادر (من البداية باستقلالية تامة عن الأطراف اليسارية والأصولية) وجدوا أنفسهم مقحمين في صيرورة مزدوجة: من جهة: العجز عن مواكبة الاعتراض الاحتجاجي بالاقتراح البرنامجي، ومن جهة ثانية: الاختلاف الملموس كلما اختلف موقع اللجن المحلية سواء جغرافيا أو تياريا. فالسند للحركة لم يزد عن كونه لوجيستيكي أو بشري، لكنه لم يقدم الأطروحة الإصلاحية في أشكال ترافعية جاذبة. ملخص ذلك: صخب الشعارات، يرافقه بؤس البرنامج السياسي. وهما معا رفقة خواء في الفكر السياسي التطبيقي (تجارب الشعوب في مواكبة الاحتجاج التصعيدي مع التفاوض والانصات).       

***

      فالطرف المحتج إما أن يشتغل في منظومة برنامجية (ليست فقط احتجاجية) تكون حلقتها الثانية تفاوضية، فتقترب من أن تصبح طرفا في التفاوض حول التعاقد البديل، لتنجز الدور السياسي المنتظر من عملية الاحتجاج، وإما تستمر في مجرد الاحتجاج ليستثمر الآخرون ما نتج عن احتجاجها من مستجدات في الحياة السياسية. وهو ما أتقنت الدولة فعله، عندما وضعت حزبا على رأس الحكومة لم يسبق له المشاركة فيها. كان ذلك أحسن بديل للدولة، لأن الفرصة سنحت لها بواسطة حركة 20 فبراير لتظهر للعالم أن الجديد الذي أفرزته صناديق الاقتراع هو صعود الحزب الإسلاموي.وظهر المغرب متساويا مع مصر من حيث منتوج العملية الانتخابية لينتقل الى صورة أحسن من مصر، عندما لم تنقلب السلطة على منتوج الانتخابات (كما فعلت حركة السيسي). فلم يذهب بنكيران الى السجن، بل ربح مكافأة التقاعد المعروفة بعد انتهاء ولايته. بل جاء البلوكاج في ظل حراك الريف بعد ست سنوات من حكومته.  صحيح أن السلطة نفذت حكمتها وأنتجت سلوكا انتقاميا من الحركات الاحتجاجية كلها، مظهرة أنها الأقدر على الدفاع عن أئمة المساجد. وتلك حكاية أخرى بصدد التلفة التي أصابت الطبقة السياسية القديمة المهترئة، مما لم يساعد الدولة على المعالجة الرصينة غير الأمنية والانتقامية قضائيا.

بعدما هزت الاحتجاجات قواعد الحياة السياسية السابقة، ولما بدأ تنفيذ مقترحات خطاب 9 مارس 2011، ما الذي كان يمنع التأكيد على ثوابت السيادة والسياسة الخارجية مع إشارات مقارنة مع البلدان العصرية الحديثة مقابل نزع فتيل سوء التفاهم في الحالات الأجنبية السابقة، وتمييز المزاج الشعبي في المغرب كونه يفهم في أمور السيادة والسياسة معا؟

كان من الضروري دعم الحركة بآراء فقهاء القانون والمؤرخين وعلماء الاقتصاد ومحللي الأوضاع الاجتماعية… وبذلك سيتم سبك مطالب الحركة في صيغ علمية متداولة، يصعب على الدولة التبرؤ من معقوليتها… ومن خلال تسيير الندوات وتنظيمها اللوجيستي كان يمكن اكتشاف الطاقات.

***

لقد أنتج خالد البكاري بمقاله الرائع، مقدمة جيّدة للمراجعة والتقييم. فمن الممكن، من الآن فصاعدا، التعامل مع الاحتجاج تعاملا متكاملا: احتجاج كاشف لمدى الاحتقان، مقابل اقتراح مؤسساتي هاديء، فالاحتجاج الذي لا أفق سياسي له، يرتد حتما على نفسه. والسلطة كل سلطة، ترتعب من الاحتجاج الذي لا يفضي الى تفاوض. وليس التفاوض معناه حصول الحل مباشرة، لكنه عتبة ضرورية لمراجعة النماذج المتبعة في السياسة وفي الاقتصاد وفي طريقة التوزيع الاجتماعي للثروة. على أن الاستغلال الطبقي كي لا يستمر ليس الطريق الوحيد هو الصراع الطبقي. فحاجة مالكي الثروة لفشل الاحتجاجات أكبر من حاجة المحتجين للمس بالاستقرار والاضرار بالاقتصاد. حاجة المحتجين التقدمية هي تحسين ظروف المشاركة الشعبية في صناعة الثروة وفي تشريع ميكانيزمات لأعادة توزيعها وفق فرص متكافئة وهذا الأمر لا علاقة له ببرمجة خفض أرباح ذوي الثروات. من جهته سوء تصرف السلطة هو المسؤول الأول عن الاضطرابات السياسية مثل مسؤوليته في اتساع البطالة وظواهر الاجرام واتساع الهشاشة والطرد من سوق العمل.

لكن الاحتجاج كأسلوب لمناهضة الظلم، متوقف –بالضرورة- على وعي متقدم لاقتراح الحلول. بدل ترك صورة الاحتجاج كأنه سلبي ولا يحمل معه اقتراح الحلول. إن حضور الاحتجاج وغياب لحظة التفاوض هي ما يشتهيه الجشعون والسلطويون. أو لنقل،غياب روح التفاوض هي التي تساعد السلطة الجشعة الى سلطوية أكثر جشعا.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى