اليهودية المغربية وسؤال الهوية-ذ.الرطابي عبد الكريم
لا شك أن الهوية المغربية هوية متعددة وخصبة استمدت غناها عبر تاريخ طويل انصهرت فيه باقي المكونات الهوياتية وتعايشت بينها بشكل ايجابي .فعوامل كثيرة ساهمت في هذا الانصهار بين السكان المحليين الأمازيغ والعابرين والتجار والدخلاء والغزاة والمحتلين . فينيقيون ورومان وقرطاجيون انصهروا مع الساكنة المحلية بعد استقرار طوائف منهم فأغنوا النسيج الاجتماعي والمعرفي والثقافي .
وفي هذا السياق وفدت الديانة اليهودية إلى بلاد الأمازيغ.لم تأت هذه الديانة إلى بلادنا كحركة تبشيرية ،بل جاءت بشكل تدريجي ومحتشم مع التجار والوسطاء والحرفيين الذين استقروا في السواحل الشاطئية للمغرب قبل ميلاد المسيح. لقد كانت الوضعية الدينية منفتحة عند الأمازيغ .فهي امتازت بتعدد الآلهة كغيرها من شعوب منطقة البحر المتوسط .فالمرحلة الوثنية كانت حاضرة بقوة في هذه المنطقة الجغرافية مثل الفراعنة والآشوريين والبابليين والإغريق والرومان.والمرحلة الوثنية هي سابقة على الديانات التوحيدية.وبما أن اليهودية المتأخرة أصبحت – فيما بعد- ديانة توحيدية فإنها بدأت تزحف تدريجيا وسط الأمازيغ ،فاعتنقها البعض لأنها ديانة تجريدية.فالآله أصبح في السماء ولا تدركه الأبصار .أما الآلهة الوثنية فيصنعها الناس من تماثيل ويسجدون لها.
هذا التواجد اليهودي في المغرب يقول عنه (حاييم الزفراني) بأنه يمتد لأكثر من ألفي سنة اعتمادا على وثائق تثبت ذلك مثل النجمة السداسية في الحلي والحروف العبرية المتناثرة هنا وهناك.
العناصر المشكلة للهوية المغربية منذ القديم بعد وصول المسلمين إلى شمال إفريقيا حملوا معهم عنصرا بشريا جديدا هو العنصر العربي بلغته وديانته وطقوسه وثقافته ..لاعتبارات سياسية اضطر المغاربة الأمازيغ إلى قبول الديانة الجديدة لإعفائهم من الجزية،كما تعلموا اللغة الجديدة ليتحقق التواصل المتعدد بين القادمين من المشرق وبين الساكنة المحلية.وفي هذا السياق اعتنق أغلبية الأمازيغ الإسلام سواء كانوا وثنيين أو يهودا . وبقيت جماعات قليلة معزولة ومتفرقة من الأمازيغ تدين باليهودية لبعدها عن المؤثرات السياسية والعسكرية والثقافية الطارئة.إنها جماعات مستقلة معزولة عن العالم الخارجي .تعيش في مناطق جبلية وعرة الاختراق وتعتمد على الاكتفاء الذاتي في معيشها اليومي.وهذا ما يفسر بقاء جزء من ساكنة هذه المناطق متمسكة بيهوديتها.
إن ظهور الدولة المغربية الأمازيغية بعد سقوط دولة الأدارسة القادمة من الشرق سيعزز هذه الهوية المغربية المتحولة باستمرار بساكنة من الرحل الصحراويين و(الطوارق) وبلاد السينغال و (تمبوكتو) وغانا أو ما كان يصطلح عليه قديما ببلاد السودان. فالدولة المغربية ( مرابطون وموحدون ومرينيون وسعديون..) في بحثها المتواصل عن أسواق جديدة جنوب الصحراء نشر تجارها ديانتها في هذه المراكز التجارية الإفريقية الكبرى فاعتنق جزء من هذه الساكنة الإفريقية الإسلام .وما الزواياوالطريقة التيجانية إلا نموذج لهذا التقارب بين المغرب وعمقه الإفريقي.هذا الولاء للدولة (المغربية) المركزية جعل ساكنتها تنفتح على أجناس وأعراق جديدة من بلدان جنوب الصحراء.
ففي سعيها المتواصل لفتح الأسواق الإفريقية قصد تصدير الفائض في الإنتاج الزراعي (حبوب زيوت نسيج سكر ملح ..)كان التجار المغاربة ينشرون ثقافتهم ولغتهم وديانتهم .هذا التفاعل الحضاري مع الآخر ازداد ثراء بعد سقوط الأندلس سنة 1492م حيث كان المغرب أرض استقبال واحتضان للعرب يهودا ومسلمين.أطلق على هذه الموجة الجديدة من المهاجرين (الموريسكيون) حيث استقروا في مدن الشمال (طنجة،وتطوان وأصيلا وشفشاون ووجدة ) وفي مدن الوسط (فاس)والسواحل الأطلسية (سلا والرباط) التي أصبحت لهم قواعد عسكرية ومنطلقا للجهاد ضد الاسبان والبرتغال.
هذه الهجرات التي عرفها تاريخ المغرب قديما وحديثا كان لها أثر إيجابي في تشكيل الخريطة الاثنية واللغوية والثقافية والدينية.فلم يكن المغرب بلادا طاردة نظرا لخصوبة أرضها وتنوع تضاريسها ووفرة خيراتها،فكانت أرض استقبال واحتضان وتعايش ، وأرض انصهار لهويات مهاجرة مختلفة .وهذا أضاف إلى الهوية المغربية أبعادا جديدة بفضل هويات أبنائها التي لم تصل يوما حد التناقض أو التنافر أو التطاحن.صارت كل هوية تفتخر بخصوصيتها وتمارس طقوسها بكل حرية واحترام لباقي المكونات الهوياتية .
لما ظهرت الحركة الصهيونية في نهاية القرن 19 وبداية ق 20 قررت البحث عن وطن (قومي) لليهود لتحقيق المشروع الاستيطاني مدعوما بالامبريالية الأوروبية .تم اختيار فلسطين لاعتبارات أسطورية وتلمودية.ففلسطين هي (أرض الميعاد) و(اليهود شعب الله المختار) فلا بد إذا من العودة إليها.انتشرت الدعاية الصهيونية في بلدان أوربا وأمريكا تحت اليهود على الهجرة بعدما وفرت للمهاجرين الأموال لشراء الأراضي لتكون قاعدة لاستقبال المهاجرين الجدد بتواطؤ مع الامبريالية العالمية (بريطانيا وفرنسا و لاحقا الولايات المتحدة الأمريكية).
عجلت الحرب العالمية الثانية بتسريع وتيرة الهجرة اليهودية إلى فلسطين بعد أفران الغاز النازية.بعد نهاية الحرب ع2 واعتراف الأمم المتحدة بدولة إسرائيل سنة 1948 انتقلت الحركة الصهيونية إلى مرحلة ثانية وهي جلب يهود البلدان العربية بعدما صورت لهم (أرض الميعاد) بأنها صحراء قاحلة، فأصبحت جنة على الأرض بعد استصلاح أراضيها .
على وقع هذه الحملة التضليلية نجحت الحركة الصهيونية ،وبعدها الموساد في تنظيم الهجرات اليهودية من البلدان العربية مع إغراءات وامتيازات مادية (مسكن عمل ،أموال ،مدارس ومستشفيات مجانية..) وللضغط على يهود المغرب ألقيت قنابل في ملاحات البيضاء والرباط ووجدة لترهيب اليهود المغاربة ودفعهم إلى الهجرة نحو فلسطين .وصل عدد اليهود المغاربة المهجرين إلى فلسطين إلى 240 ألف يهودي ولم يبق منهم أكثر من 4آلاف يهودي متمسكين بهويتهم المغربية.
ما يعنينا في الصراع العربي – الإسرائيلي هو موقف اليهود المغاربة داخل المغرب .أما اليهود المغاربة المغرر بهم فقد سقطوا بين أحضان الحركة الصهيونية فدافعوا عن مشاريعها الاستيطانية في الأرض المحتلة عندما انخرطوا في حزب الليكود ،ثم أحزاب دينية متطرفة،كما اندمجوا في جيش الاحتلال الصهيوني كجنود وضباط ( عمير بيريس أصبح وزيرا للدفاع الإسرائيلي وهومن مواليد أبي الجعد سنة 1952 )فباعوا هويتهم .
مرة أخرى يطرح سؤال الهوية اليهودية المغربية . انه لمؤسف حقا أن تختزل هذه الهوية في العنصر الديني ( وهو عنصر إيديولوجي تلمودي وأسطوري ). كيف انمحت عناصر مؤسسة للهوية المغربية تحققت عبر أكثر من ألفي سنة ؟ كيف استطاعت الحركة الصهيونية أن تقنع اليهود المغاربة – بهذه السهولة – ويتبنوا مشروعها الاستيطاني لأرض فلسطين ؟ كيف تنكر هؤلاء لهوية مشتركة ساهمت في تشكيلها تلك المكونات خلال تاريخ مشترك وطويل ؟ كيف تنكر هؤلاء لتعايش مشترك وآمن مزج بين أعراق وأجناس ولغات وأديان وعادات وثقافات ؟
فماذا عن اليهود المغاربة الذين رفضوا الهجرة إلى إسرائيل؟
لا ننكر هويتهم وتشبتهم بمغربيتهم في أشد الأزمات التي مرت بها البلاد قديما وحديثا. لقد تفاعل المغاربة بمختلف انتماءاتهم وهوياتهم مع قضايا الوطن وقضايا العرب،وخرجوا في مسيرات ومظاهرات سلمية تضامنية مع الشعبين الفلسطيني واللبناني منذ تأسيس (الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني)سنة 1968. لقد كان المناضل اليساري (ابراهام السرفاتي )في طليعة المؤسسين والمناصرين لهذه الجمعية .ففي المؤتمر التأسيسي تبرع بمبلغ مالي عبارة عن شيك بنكي .وقد كان آنذاك اطارا في المكتب الشريف للفوسفاط .كما تبرعت زوجته بحلي ذهبية لصالح القضية الفلسطينية.
فهناك استثناءات قليلة ليهود مغاربة شرفوا هويتهم وعبروا عن انتمائهم لقضايا الوطن العربي. نذكر منهم( ابراهام السرفاتي وسيون أسيدون ) حين وجه المعتقلان في السجن المركزي (القنيطرة) رسالة إلى أبو عمار (ياسر عرفات) يعتبران نفسيهما جنودا في صفوف الثورة الفلسطينية بعد حصار (بيروت ) الشهير 1982.ولا ننسى الشهادة الوثيقة التي كتبها (ادموند عمران المالح ) بعد وقوفه على الدمار الذي حل ببيروت ، والمجازر المرتكبة في حق الشعبين الفلسطيني واللبناني عنوانها ( وجه الإنكار – مجلة الكرمل ص 234 ع 7 س1983 ).
بعد السابع من أكتوبر 2023 لم يكن حاضرا في المظاهرات السلمية الداعمة لحق الشعب الفلسطيني في حريته وبناء دولته سوى (سيون أسيدون ) وهو يحمل علم فلسطين وقد تدثر بالكوفية الفلسطينية في الرباط .وفي وقفة تضامنية أخرى تظاهر (يعقوب بيرل) رفقة نجله ضد العدوان الصهيوني أمام البرلمان المغربي.
أنا لا أحرض اليهود المغاربة للخروج الى الشارع دعما لقضية عادلة كما خرج اليهود في أوربا وأمريكا مناصرين أهل غزة ،ولكن هذه الإبادة الهمجية تستدعي الضمير العالمي ليراجع حساباته وينتصر لحق الإنسان في الحياة حتى لا تتكرر بشاعة أفران الغاز النازية ..