احمد الخمسي -بقليل من المراجعة يكتشف المغاربة المعادلة الذهبية بين أنوال 21 وتادلة 55

ليس من غريب المواقف أو الأفكار أو القناعات الشخصية، أن يلاحظ تغيّر نظرته الحالية مقارنة عن نظرته السابقة. تغيّر النظرة حول مذهب علمي أو أدبي، قضية جاري بها النظر الشخصي المحض. لكن صورة التاريخ الوطني، قضية مؤسِّسة للكينونة الذاتية، ومكيِّفة للشعور بالانتماء، وبمسؤولية المشاركة في الحياة العامة.
الوعي التاريخي عموما يؤشر على الوعي الشعبي ويلحم المجتمع والدولة، لكن في الدول التي تتوفر على رصيد وافر من التاريخ المكتوب.
بالنسبة للمغرب المعاصر، إذا كانت البعثة العلمية الفرنسية وحدها أنجزت حوالي ألف كتاب عن المغرب (كلام ميشو-بيلير)، في ظرف أقل من ربع قرن (بدءً من 1904)، فمجرد التأمل في كون فرنسا وقعت عقد الحماية مع المغرب بصفته امبراطورية يعني مفتاح العجب، عن الثقافة العامة بعد الاستقلال تركت صورة مناقضة عند المتعلمين الذين مروا بمقعد الدراسة ومن حولهم عموم الجمهور كوننا مجرد سكان لمستعمرة فرنسية اسبانية سابقة.
***
هذا التناقض كون عقد الحماية جرى بين الجمهورية الفرنسية وبين الإمبراطورية الشريفة، من جانب الواقع، وكون الصورة التي ترسخت في أذهاننا كمجرد سكان مستعمرة سابقة، حصل نتيجة محو المعلومات وتقديم نقيضها للأجيال الصاعدة، وتحويل مجرد حماية الى استعمار استيطاني واضطهاد عسكري وسرقة الموارد الفلاحية والمعدنية والمالية.
ثم، من بعد الاستقلال، سار النقاش الأيديولوجي سطحيا في غالب الأحيان. فكيف يمكن لجمهورية أن تكون أفضل من الملكية وهي جهمورية استعمارية، رصيد قتلاها في الحروب منذ قيام الثورة الفرنسية الى عقد الحماية في المغرب (1789-1912) أكثر من عشرة ملايين قتيل فرنسي. ما بين حروب فرنسا داخل أوربا وعبر المستعمرات الافريقية والاسيوية. فمن عمق النقاش ألا تنخدع الشعوب بقيم براقة (الحرية، المساواة، الأخوة) يفضح الجبروت الاستعماري استعمالها الكاذب.
بعد تحديد طبيعة الاستعمار الأوربي والصور البراقة والكاذبة التي استعملها الأوربيون لغزو المستعمرات، لا ينفي وجود “القابلية للاستعمار” (مالك بن نبي) ونقلها من طرف العقل الغربي إلى استعمار فعلي. والفارق بين “القابلية للاستعمار” والاستعمار الفعلي يضعنا أمام التساؤل التالي: هل يمكن التفكير في وجود فارق نوعي بين المجتمع في الجزيرة العربية والمجتمع في المغرب سنة 1912؟
للإجابة نستحضر الهدف الغربي من الاستعمار وهو الربح الاقتصادي. والربح الاقتصادي يخضع لدراسة المشروع الاستعماري لبلد معين. هل فيه ربح أم فيه خسارة؟ فالموقع الجغرافي وغياب الأراضي الخصبة هي التي جعلت استعمار الجزيرة العربية عالي الكلفة المالية. خصوصا مع مراقبة إنجلترا للتحركات الاستعمارية الفرنسية التي يجب أن تبتعد عن طريق الهند.
وبعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، اجتمع الرئيس الأمريكي روزفلت بالملك عبد العزيز آل سعود في قناة السويس، وجرى بينهما الاتفاق على حماية الولايات المتحدة للسعودية مقابل الترخيص للشركات الأمريكية أن تبقى ذات الحظوة المطلقة في التصرف بآبار النفط السعودي. من حيث المضمون لا فرق بين عقد الحماية في المغرب سنة 1912، وما سمي “حلف كوينسي” بين أمريكا والعربية السعودية سنة 1945. فقط تاريخ أمريكا المختلف عن تاريخ فرنسا وكذا فارق ما قبل الحربيين العالميتين (1912) وما بعدهما (1945) هو الذي جعل حماية أمريكا للعربية السعودية مختلفا في شكله عن حماية فرنسا واسبانيا للمغرب.
في مقابل هذا كله، خبرة الدولة والاطلاع على التراث الإسلامي كانا في المغرب أقوى بالحجج والبراهين منه في السعودية، بحيث كتب رشيد رضا (بداية القرن العشرين)، أن الوهابية بداية القرن 19، وهي محمية من طرف آل سعود خلال الدولة السعودية الثانية ، اضطرت إلى أخذ دعم علماء المغرب الذين ذهبوا ضمن الموكب الرسمي للحج، للدفاع عن نفسها تجاه التهديد العثماني. ولم يبخل علماء المغرب على فقهاء الوهابية كونهم يدعون الى الإصلاح والعودة الى التوحيد ضد مظاهر الشعوذة. بينما، ولغياب الحيطة والحذر من طرف الوهابية في بداية القرن العشرين، ارتكب علماؤها(1926) نفس الخطأ تجاه المغرب، مثل الخطأ الذي ارتكبه علماء الأزهر(1925) عندما تجاهلوا سلطان المغرب، واستدعوا عبد الكريم الخطابي لحضور مؤتمر تأسيس الخلافة، في مصر(1925) وقد فشل، وفي السعودية في السنة الموالية(1926) وقد فشل أيضا.
لقد ساهم المشارقة في حفر إسفين الشك بين السلطان مولاي يوسف وبين قائد المقاومة المغربية في الريف. واستغلت الصحافة الاستعمارية خطأ المشارقة في حق الرمزية السيادية للمغرب، ليألبوا المخزن ضد الريف. ومن جهته، لم يقرأ زعيم الريف الفارق الذي يجعل المغرب مختلفا عن تركيا في عهد الغازي مصطفى أتاتورك عندما أعلن الريف جمهورية.
مر القرن العشرون، ولم يحلل أحد للمغاربة، كيف استوعب الملك محمد الخامس الدرس مبكرا، وعمره لم يزد 23 عاما، درس خطأ المشارقة في حق المغرب، وخطأ الاستعمار في حق المغاربة بعد إصدار الظهير البربري، بحيث انفجار مشاعر وحدة الشعب المغربي، ضد الظهير المذكور، يبين أن المجتمع قاطبة مع من يمثل المغاربة جميعا، وليس مع الكيانات الاثنية الممزقة للوحدة. بحيث بدأ الملك، بالتنسيق مع شباب الحركة الوطنية منذ سنة 1933(علال الفاسي/الحركات…). وعلى عكس الحركات الاستقلالية المشرقية التي تعاطفت مع هتلر، وكذا جزء من الحركة الوطنية المغربية في الشمال، كان موقف الملك واضحا منذ البداية ضد الفاشية والنازية في أوربا.
بحيث أصدر ظهيرا يمنع مشاركة المغاربة في الحرب الاهلية الاسبانية، على عكس الزعيم الطريس. وطبعا، موقف الملك معروف، المتجلي في منعه تنفيذ تعليمات النازية من خلال حكومة فيشي في باريس، والتي كانت تقضي بتسجيل المغاربة اليهود في سجلات الطرد من الوظيفة وإعداد اللوائح للتنكيل بهم فيما بعد.
***
يكتب الفرنسيون اليوم، أو لنقل بصيغة أفضل، نقرأ اليوم ما كتبه الفرنسيون بصدد مآل الجمهوريات الفرنسية، الثالثة والرابعة. عادة يتواضع المغاربة أو لا لا يحسنون توطين نقط القوة لديهم، فرغم إنجاز عقد الحماية (وهو نقطة ضعفهم) نهاية الجمهورية الثالثة، فقد تألم الفرنسيون كثيرا خلال الهزة العسكرية التي تلقوها من المغاربة في معركة لهري (ذكرنا تفاصيل خسائر الفرنسيين في مقال سابق)، ولم تمر أكثر من ثلاثة أشهر على انفجار الحرب العالمية الأولى.
وقد كرر المغاربة، نقلة استثنائية على رقعة الشطرنج وأصبح جنرالان من الأكثر شهرة في الجمهورية الرابعة، في جيب محمد الخامس: الأول فشل في إزاحة الملك عن العرش سنة 1951، وانتهت مهمته بالمغرب بتعويضه الرمزي مسؤولا عن جيش الأوطان في أوربا الوسطى. لقد كتب مالك بن نبي سنة 1951 (الوجهة الإسلامية) أن أن موقف ملك المغرب، منذ 1947، جسد حلمه وتوقعه في كون البلاد الإسلامية ستواجه الاستعمار ولا ينقص ذلك سوى قادة من عيار محمد بن يوسف، سلطان المغرب.
طبعا اشتغل الجنيرال جوان من موقع مسؤوليته في الحلف الأطلسي، مع الأمريكيين لتنفيذ مخطط مشترك، أمريكا ضد مصدق (19 غشت) وفرنسا ضد محمد الخامس في اليوم الموالي (20 غشت). لكن لم تدر السنة (غشت 53- غشت 54) إلا وقد تلقى الجيش الفرنسي صفعة ديان بيان فو في الفيتنام. وما لنفي محمد الخامس أن يكمل سنته الثانية (1953- 1955)، إلا وقد نهض سكان منطقة مالك بن نبي (قسنطينة)، في مظاهرات عارمة ضد فرنسا، للمطالبة بعودة ملك المغرب، أما المغاربة في نفس غشت 1955، فقد أنجزوا ما لم تنجزه الثورات المشهورة، فقد أسقط المغاربة طائرة القائد العام للجيش الاستعماري الفرنسي في المغرب، الجينرال ريمون دوفال. الشهير بهروبه أربع مرات من أشره لدى الالمان خلال الحرب العالمية الأولى. والمشهور بارتكابه مجزرة سطيف في الجزائر سنة 1945.
هذه المنجزات لم يقلها أحد للمغاربة. لم يفسر أحد للمغاربة لماذا كتب الرئيس بنبلة في مذكراته أن سكان تلمسان الجزائريين كانوا يرون محمد بن يوسف في القمر، لا شعوذة ولا ريح، ففي سنة 1955، كانت نضالية محمد الخامس في رؤية الشعوب المناضلة من عياش كبار زعماء الشعوب. جاء طه حسين الى تطوان، وكتب هذا الامر من بعد أن الشعوب التي لها قادة مثل محمد الخامس وهو شي منه لا خوف عليها.
ولا ننسى أن في مصر ساعتها كان نجم جمال عبد الناصر يصعد. لكن طه حسين وقيمته على رأس المثقفين العرب، يذكر فقط هوشي منه ومحمد الخامس.
ما نسمع تكراره الممل، هو نقد ايكس-ليبان، وما لم نسمعه قط، هو أن الحكومة الفرنسية اجتمعت في ايكس-ليبان، وأنفها في الأرض، لأن القائد العام لجيشها قتل فوق تادلة يوم 22 فاضطرت يوم 23، بدء مفاوضات ايكس-ليبان يوم 23. كان قتل الجينرال ريمون دوفال في تادلة على قدم المساواة مع انتحار الجينرال سلفستر بعد هزيمة أنوال. لكن، عقل الحركة الوطنية لم يكن، ربما حتى لا نتطاول على قادة الحركة الوطنية، في كامل وقته، ليحلل هذه المعادلة الذهبية بين أنوال 21 وتادلة 55.
علما أن لا مقارنة بين الجيش الاسباني سنة 1921، والجيش الفرنسي سنة 1955. بين جيش دولة لم تشارك في الحرب العالمية الأولى فبقيت مواصفاته ضمن جيوش القرن 19، بين الجيش الفرنسي سنة 1955، جيش دولة أصبحت ساعتها ضمن النادي النووي.