11 سبتمبر المغربي -أحمد الخمسي

يمكن للمغاربة أن يساهموا في تحقيق أهداف المنطقة، في التحرر من الهيمنة الأجنبية، وتعزيز القرار الوطني بما يفتح الآفاق لهندسة التحول الى قوى فاعلة في محيطها، على شاكلة تركيا مثلا، وماليزيا. لماذا نأتي بهذين المثالين؟ لأن تركيا تناسب الأنظمة الجمهورية بينما تناسب ماليزيا الأنظمة الملكية.
يمكن للمغاربة وضع شبكة قراءة لتقييم نضالهم طيلة القرن العشرين والواحد والعشرين، مع تحديد معيار المقارنة، حتى يروا بأعين الوجدان ما هم عليه حقا في الوجود.
للشعوب الحديثة رمزية ما يسمى بالأساطير المؤسسة، وأضاف الأمريكيون رمزية الآباء المؤسسين.
وعندما تنتهي مرحلة تاريخية بكاملها، ويتجرد الفاعلون من حساسيتهم تموقعاتهم السابقة في المرحلة المنتهية، يرسملون مساهمات كل الأطراف، لرص قاعدة وأرضية متينة للمرحلة الموالية.
والمغاربة اليوم، وهم يضعون أمامهم خريطة بلدهم، ويستشرفون الدور الذي بدأ والذي يصل قرون الاستحقاق السابقة بآفاق الاستحقاقات المنتظرة، لهم الحق، في أن ينظموا للسفراء جولة في الرباط، ليبدأوا بالشارعين التوأمين، شارع محمد الخامس وشارع علال بن عبدالله.
من جهة، ليعرفوهم بموقع محمد بن يوسف، الملك رقم 19 في السلالة الوصية على عرش البلد العريق، ثم يعرفوهم – من جهة ثانية- بموقع علال بن عبد الله، المواطن الفقير، الذي ضحى بروحه من أجل الشرعية التي ارتضاها الشعب تحت سقف الحماية، ورفض “الشرعية” التي فشلت الجمهورية الفرنسية الرابعة في فرضها ضد إرادة كل المغاربة. وكيف كانت التضحية وطنية شاملة، ليس فيها تمييز في الموقع الطبقي، بحيث ضحى السلطان من أجل الاستقلال ولو عانى من الابتعاد عن العرش، وعمق ذلك، أن العلويين في شخص محمد الخامس رجعوا إلى الأصل، السيادة الوطنية أولا. وهي الرسالة التي لم تغب عن عمق الوعي الشعبي، فكانت تضحية علال بن عبد الله بالنفس قبل النفيس، ومن نفس المنطق والمنطلق، السيادة الوطنية أولا، ولكن في نظر الشعب لا يمثلها أحد سوى من ضحى بالعرش من أجلها فلا أحد فوق عرش المغاربة سوى من جعل السيادة الوطنية أولوية أولوياته: محمد بن يوسف ولا أي محمد آخر ولو كان من العلويين أنفسهم.
كانت العملية الاستشهادية التي جسدها علال بن عرفة يوم 11 سبتمبر 1953، وأفدى روحه من أجل السيادة الوطنية الحرة التي مثلها حينئذ محمد بن يوسف بن الحسن الأول. كان ساعتها عمر الملك 43 عاما، وكان عمر الفدائي 37 عاما. كل واحد منهما أعطى لشباب اليوم، كيفما كان موقعه الاجتماعي، قدوة النضال، وهو ما ينفع الناس، أما الزبد فيذهب جفاءً. في مرحلة كانت خلالها تتشكل معالم الحرب الباردة، وكان الصراع الدولي على أشده. مما جعل ساعتها القضية المغربية العنوان العريض على أكبر الصحف العالمية. وهو ما افتقدته شعوب كثيرة بخلفية المصالح الطبقية والتوقف الأعمى عند شكل النظام. ولعل ما دفع الزعيمين محمد بن عبد الكريم الخطابي وعلال الفاسي لانتقاد اتفاقية إيكس-لي-بان ظلما هو الانجرار نحو هذا التمزق الأيديولوجي ساعتها. مما أفرز سلبيات سياسية من بعد… وسع الهوة لدى الجيل الثاني من الزعماء المغاربة، في الجهتين.
لكن، على هذه الأرضية الميدانية العملية الوحدوية، حضر الوفد المغربي مفاوضات إيكس- لي- بان في 23 غشت 1955، والتي كانت المقاومة الشعبية قد أنجزت في الأمس 22 غشت 1955، ما لم تنجزه أية مقاومة في أي بلد مستعمر، إسقاط طائرة القائد العام للقوات الاستعمارية المسلحة: ريمون دوفال.
تسمية الشارعين التوأم محمد الخامس وعلال بن عبد الله، رد للجميل من المستويين: أعلى منصب في الدولة، الملك، وأبسط موقع اجتماعي بين الشعب، مواطن مغربي مهاجر من كرسيف إلى الرباط. دون تمييز بين مستوى الملك ومستوى المواطن الفقير. تلك نفسية المغاربة العميقة. ومنها انطلقت الحياة السياسية.
وما كان في المغرب، حالة شبهة لبورقيبة تونس المستقلة. بل كانت المدرسة المناضلة التي تشرب بها زعيم غينيا كوناكري، ليتخذ نفس الإجراءات لمواجهة الاستعمار الفرنسي، ليجد العضد والسند من السابقة المغربية.
الانعكاس النموذجي في النضال الوطني المتآزر، هو الذي جعل محمد الخامس، لا يمارس طيلة السنوات الأربع في الحكم، نوعا من الملكية البرلمانية العملية غير المكتوبة على الطريقة الإنجليزية. بحيث كانت الحكومة والبرلمان المؤقت، في يد أخلص النخب المغربية، التي أسست اليسار الوطني الاتحادي المغربي. مما جعل العرش، يضم إليه في كل حقبة صعبة أخلص قادة اليسار.
سوف يأتي اليوم الذي يرتفع فيه كل أشكال سوء التفاهم السياسوي من كل الأطراف ليستحق المغرب، كل مكاسب العصر، استعادة الاشعاع العالمي الحري بالمطابقة مع تاريخ الإمبراطورية كما كان مهابا وصاحب نفوذ ومطلوب للاستشارة من طرف القوى العالمية.
مما سيستدعي إعادة قراءة تاريخ المغرب، مثلما دعا يوما المؤرخ عثمان المنصوري، بصدد معركة وادي المخازن، التي لم تحفظ للمغاربة هويتهم الإسلامية، بل صدت الجهد الاسباني كي يركز على الحرب في هولندا خلال ما تبقى من حكم فيليب الثاني وفيليب الثالث. تلك الانعطافة التاريخية التي غيّرت موازين القوى داخل أوربا، والتي جعلت من ميغيل سيربانث، يأسف على تركيز بلاده، على محاربة الطواحين (رمزية هولندا) بدل محاربة المسلمين. وقد كتب أحد الفرنسيين يسجل حزن سيربانتيث، كلما خرج من داره في مدريد، رأى أمام الفندق الذي كان أحد أمراء المغاربة يسكنه.
والفرنسيون بدورهم، يعلم منهم المتخصصون، أن قصر لويس الرابع عشر، ينعم بمشاهدة مسرحية لوسيد، والذي لم يكن في الأصل سوى بارون حرب، في عهد المرابطين شمال الأندلس. كما يعلم الفرنسيون أن أحد رموز الأمة الفرنسية الذي خلدوا اسمه شهيدا، لم يسقط في الحرب سوى بثلاثة رماح من الأمازيغ في جند الأمير الأموي بجبال البرانس.
اليوم، ونحن نعيش مأساة غزة، يستدعي المغاربة، ليتمكنوا من القيام بدورهم التضامني، مراجعة الوعي الفكري. لسل شعرة الوعي المغربي من عجين الحركة القومية المتخبطة في سلسلة الهزائم بسبب الظاهرة الصوتية والمركزية المشرقية مقابل أكاذيب الغرب بصدد الحداثة وحقوق الإنسان والقانون الدولي.
للمغاربة الحق في تجميع الصورة، فقد مرت مرحلة التشظي بين من يتبع وعي المشارقة وبين من يتبع الأطروحة الفرنسية.
مع الثورة الثقافية التي تتيحها منابع الفكر المتكامل عبر الانترنت، بواسطة المكتبات الالكترونية، لنا فرص استعادة الصورة المغربية. ولنا بالتالي القدرة على إعادة قراءة تاريخنا الوطني بعيدا عن الحساسيات السياسية التي جرت جزءا من المغاربة لتغليب النظرة المشرقية، وجرت الجزء الآخر لتغليب النظرة الغربية الاستعمارية باسم الحداثة.
ولنا أسس ثقافية وفكرية. في كتابه غير المتداول عبر الانترنت، يشرح عبد الله العروي في الأصول الثقافية والاجتماعية للوطنية المغربية، الملابسات التي دفعت المغاربة للرد على أخطر المبادرات الفرنسية، وعلى ضوء ذلك، رسم الراحل محمد البردوزي، خطأ الفرنسيين بصدد المسألة الأمازيغية لدى روبير مونطان، وما كان للمشروعين العملاقين للجابري وللعروي من مهام سوى تسليط الضوء على معالم طريق التحرر الفكري.
أما بصدد الإصلاحية السلفية منذ النصف الأول من القرن العشرين، تتيح الأنترنت اليوم الاطلاع على المثقف الموسوعي، محمد الحجوي، من خلال كتابه الضخم “الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي” (أكثر من 1100 صفحة في جزأين).
هذا الرأي رأي مواطن مغربي يساري، ينشد دفع الصورة التاريخية نحو نقطة الضوء الفعلية كما كانت وكما يحق للمغاربة أن يفتخروا بها. وما كان لعظمة الموقع الجغرافي وجمال البلاد أن يصنع من المغاربة سوى أبطالا من بين أجود أبطال الحرية في العالم.