وجهة نظر

كأس العالم من أجل الإنسانية والمساواة كذلك

منير الطاهري

كنت دائما أعتقد أن الربط القاري بين إفريقيا وأوروبا سيكون فرصة تاريخية لإعادة انطلاق علاقات شمال-جنوب على أساس التعاون والمساواة والاحترام بين سكان الأرض، وكنت أعتقد أن هذا المشروع، قد يكون واحدا من الحلول التقنية الملائمة لبدء القرن الأول في الألفية الثالثة على أسس صحيحة، أسس تنم عن مراكمة تجارب وعبر تاريخية ومستفيدة من أخطاء الماضي ومعبرة عن نضج المسار الإنساني ككل في هذه المرحلة، وذلك بعد مخاض و تلاقح ثقافي كان من الضروري خوضه لبلوغ مستويات وعي مؤسسة لمفهوم الإنسان الشمولي الجديد وهو الإنسان الأكثر حرصا على الحفاظ الحياة وإيجاد حلول ناجعة أمام انفجار ديموغرافي غير مسبوق على هذا الكوكب.
كنت أعتقد أيضا أن تنظيم منافسات كأس العالم بشكل مشترك بين أوروبا وأفريقيا سنة 2030 هو التجسيد العملي لهذه الطموحات النبيلة نحو ربط وترابط قيمي وإنساني قد يشكل أرضية صلبة لرهانات المرحلة المقبلة ولأجيال النصف الثاني من هذا القرن.
غير أن الواقع العنيد، يشاء إلا أن يعاكس انتظاراتنا دائما، فرغم سرية المشاورات الإسبانية المغربية حول محتوى المشروع وتفاصيله التقنية، فقد بدأت ترشح إلى السطح بعض الأخبار ، نتمنى أن تكون أخبارا كاذبة، تفيد أن هناك إصرارا من الطرف الإسباني على أن يكون الربط القاري ربطا أوروبيا أوروبيا من خلال مسار يربط الجسر أو القناة المزمع إنجازها بمدينة سبتة المحتلة أي سبتة الإسبانية الأوروبية وليس ربطا أوروبيا مباشرا بإفريقيا عبر البوغاز.
علينا ألا ننسى كذلك، أن هذا التوجه يأتي في سياق تأزم غير مسبوق لعلاقات الشمال والجنوب من خلال انحياز أمريكي أوروبي لمشروع استيطاني صهيوني على أراضي فلسطين المحتلة في إحدى آخر النماذج الاستعمارية الفريدة وأكثرها شراسة وإبادة في بداية القرن الواحد والعشرين. وهو تأزم يأتي كذلك في سياق تغلغل وترعرع غير مسبوق لفكر يميني متطرف في بلدان الشمال, فكر ينتصر لسكان الشمال ويعتبرهم أكثر تفوقا وعقلانية من باقي سكان الكوكب الأرضي* ويبرر احتلال أراضي سكان الجنوب والهيمنة الاقتصادية عليهم من طرف الساكنة الشمالية, بما يبيح استنزاف الثروات وتطوير نماذج جديدة لاستعمار اقتصادي مناور يقوم على تقسيم دولي للعمل وتكريس مزيد من نهب الثروات الجنوبية بواسطة شركات مجهولة الإسم مسيطرة على اقتصاديات هذه البلدان, والتأسيس لمرحلة التفاهة والتضبيع لأهالي الجنوب بعد وأد نماذج التنمية والاستقلال والتطور ومشاريع انطلاقة هذه البلدان الاقتصادية والثقافية بفعل عمل مخابراتي حقير لاستنبات وفرض أدوار جديدة لسكان الجنوب في الاقتصاد العالمي.
مشروع الربط القاري الذي يريد تكريس دور جديد للمغرب كدركي وجمركي مراقب لحركية السكان من بلدان الجنوب إلى بلدان الشمال، و فرض فكرة سبتة كتراب أوروبي على القارة الإفريقية هو مشروع يهدد مستقبل البشرية جمعاء لأنه يعيد إلى الذاكرة فكرة الاستعمار والتفوق الأوروبي ويؤكد أن الإنسانية لم تحسم، بعد، مع فكرة الاستعمار والعبودية والهيمنة، بل إنها تشير بوضوح إلى انتصار الفكر اليميني المتربص في الشمال الذي مازال يحلم بالتحكم والسيطرة بالحروب والتأشيرة والإبعاد والإبادة.
مقابل ذلك، فإن واقع بلدان الجنوب مازال غارقا في مستنقع سياسي واجتماعي غير قادر على المواجهة والتطور، وذلك بفعل هشاشة الأنظمة السياسية في هذه البلدان بسبب سيطرة أجنحة عسكرية أو مافيا مالية إدارية وتجارية أو بقايا الإقطاع وتحالفاتهم الحربائية مع المشروع الاستعماري الجديد، في أنظمة سياسية تؤكد أن نظام الدولة في هذه البلدان، يمضي نحو مزيد من تغييب المشروع المجتمعي وتعميق ضبابيته، لاسيما بعد اهتدائها الطفولي إلى إمكانية إحلال فانتازيا كرة القدم كأفيون بديل عن مفهوم الانتماء والحس الوطني واعتماد أسلوب تحديث الواجهة السياحية كماكياج سيء لتغطية اختلالات ترابية وخدماتية عميقة، وأخيرا تخريبها الممنهج للمدرسة العمومية كحامل للواء التغيير والتنشئة الاجتماعية لدى البلدان.
هاته البنية ستؤدي بالضرورة إلى تنامي أوضاع سيزيفية مؤلمة جعلت سكان الجنوب يفكرون في الهروب من أوطانهم في رحلات جماعية نحو الشمال بعد فقدان الثقة في الأنظمة السياسية وفي المستقبل.
اليوم وأنا أشاهد على صفحات التواصل الاجتماعي، اقتحاما للمواطنين لحدود مدينة سبتة المحتلة في ما يكاد يشبه هروبا جماعيا نحو الشمال، حاولت أن أعيد تحليل واستقراء المشهد من خلال رسائله البليغة في ما يشبه محاولة تشفير يائسة لوضع اجتماعي مقرف ومنبوذ، بعد استحضاري للمعطيات التي سبق وأن أسهبت في التذكير بها، واعتبرت أن للواقعة رسالتين أساسيتين:
الأولى : للإتحاد الأوروبي وإسبانيا، وهي أن أي شراكة قارية يجب أن تأخد بعين الاعتبار مستويات التفقير الموجعة التي تكبدتها ساكنة الجنوب سواء بفعل الاستعمار أو بفعل الأجندات النيوليبرالية الجديدة والتي مازالت تسعى إلى سلب مقدرات ساكنة الجنوب من مدرسة وطنية تبني الإنسان المستقل المستقبلي وسلب أي تغطية اجتماعية كفيلة بصيانة كرامته وسلبه وحرمانه من نظام دولة وطنية ديموقراطية قادرة على حماية العيش المشترك لهذه الساكنة ورأب التصدعات الناشئة عن تفاوتات طبقية كبيرة.
الثانية: للمجتمع الدولي وربما للفيفا كذلك، ومفادها أن بناء الشراكات أو الربط القاري يجب أن يتأسس على الاحترام المتبادل بين الشعوب، وأن الاحتفال العالمي بكرة القدم يمكنه أن يكون فرصة للاحتفال بالكرامة الإنسانية والمساواة، كذلك، على كوكب مازال يحتاج منا الكثير من التأمل والتفكير لخوض تجربة القرن الواحد والعشرين بأقل قدر من الأخطاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى