ثقافة و فن

الماضي يعيد صياغة الحاضر في كتاب الحي المحمدي لحسن نرايس-شفيق الزكاري

أدبيا، من الصعب  تصنيف كتاب “الحي المحمدي” وجوه وأمكنة، لحسن نرايس، وقد يعتقد البعض بأنها سيرة ذاتية فقط، بل هناك حضور للسيرة الغيرية كذلك، على لسان الكاتب في علاقته مع الشخصيات التي انتقى الحديث عنها والتي كانت تربطه معهم علاقة مباشرة.

ففي كتابه هذا، تعامل نرايس مع الروح الكامنة بداخل الحي، ليس فقط بطريقة سردية مشهدية، بل بطريقة سردية حكائية كذلك، وهذا ما جعل نوعية كتابته ونصوصه حول شخصيات الحي تتخذ منحى يتقاطع مع عنصر المشاهدة من خلال الكتابة الأدبية، التي تتوفر فيها شروط كتابة السيناريو بحكم الكاتب والناقد حسن نرايس مهتم بالسينما، فالشخصيات التي وردت في كتابه كل واحدة منها تتفرد بعوالمها التي يمكن أن تتحول لفيلم قصير لما توفر فيها من آليات الوصف الدقيق للأمكنة وللأحداث المرافقة لها، خاصة وأن الكاتب يملك ناصية الحبكة الإبداعية سواء كانت بمرجعية كتبية Livresque أو بمرجعية مشهدية Visuelle، أو في علاقته مع جميع الأجناس الإبداعية الأخرى، كالسينما والمسرح والأدب وخاصة الشعر، وهذا ما وهبه تلك القدرة للوقوف على التفاصيل الدقيقة في الوصف، إلى جانب الذاكرة اليقظة التي اكتسبها من حفظه للشعر القديم، وهذا يظهر جليا من خلال تلك المحطات والأمكنة الطفولية التي بقيت راسخة في ذهنه كذكريات، انتسابا لما ورد في هذا الكتاب كقول الكاتب والمسرحي الروسي تشيخوف “…أول علامات الشيخوخة، أن تتحول من إنسان يحلم إلى إنسان يتذكر…”، لكن الاختلاف بين فحوى هذا المثل وما جاء به حسن نرايس من ذكريات، هو أنه لم يكتب فقط بعقله وما بقي فيه من ذكريات، بل كتب كذلك بوجدانه ومشاعره التي اختلطت بالماضي والحاضر، لما أعطى لكتابته نوعا تحيينيا لهذه الذاكرة الحية بعدما أن كانت موؤودة.

كثيرا ما نجد روايات مغربية كتبت استنادا لما حفظته الذاكرة، وكمثال على سبيل الذكر لا الحصر رواية “البعيدون” للروائي بهاء الدين الطود، و”لعبة النسيان” لمحمد برادة، و”خط الفزع” لبلمليح، و”حكايات الحي العتيق” لعزيز الساطوري، لكن الجنس الروائي يختلف هنا عن ما ورد في كتاب حسن نرايس، من حيث    

استرجاع الذاكرة، فالرواية غالبا ما تعتمد على سرد الأحداث بطريقة متسلسلة تتداخل فيها الشخوص والأحداث ويغلب عليها الطابع المخيالي، الذي يعتمد في بعض الأحيان على عنصري الحل والعقدة، بينما في كتاب “الحي المحمدي، وجوه وأمكنة” يختلف الأمر، حيث تتخذ الشخصيات موقعا محايدا، لما تتميز به من واقعية مرتبطة بزمانها ومكانها، وتشكل محور السرد المتفرد بخصوصياته بعيدا عن ما هو متخيل كما يوجد عليه في الرواية.

فما كان في هذا الكتاب سوى ثمرة لإفرازات طاقات ثقافية وفنية أيقظها الكاتب والناقد حسن نرايس كشريحة اجتماعية نموذجية تمثل ما حدث ويحدث في أحياء مغربية أخرى.

فالحس والتراكم الثقافي هو الذي جعل من الكتابة السردية لدى حسن نرايس نموذجا لاكتشاف الذات والوجود.

إن عملية الانتقائية التي نهجها نرايس في اختيار شخصياته، لم تكن تفضيلية بقدر ما كانت تخضع لعلاقات تجمعها الذكريات المشتركة داخل فضاءات موحدة للتعايش، وأن تجمع ثلاثين إسما بأزمنتهم وأمكنتهم هي صورة مصغرة للمغرب بكل فضاءاته المتشابهة، وما قد جرى بالحي المحمدي من أحداث ومواصفات فيزيائية ومعنوية، تتشابه مع ما جرى في الأماكن التقليدية في المدن العتيقة بأسماء معروفة مرتبطة بالأمكنة.

وعلى مثال ذكر الأمكنة، فهي لا تأخذ معناها إلا بمعنى ساكنيه، فيختلط الذاتي بالموضوعي فيأخذ المكان أبعادا جمالية تجعله يتعالى عن المكان الواقعي ومرجعا الصرف، فيغدو مكانا شاعريا بلغة “بشلار” من خلال كتابه “جمالية المكان”.

إن المكان لا نسكنه فقط، بل يسكننا ولعله الشرط الأساسي خلف كتاب “الحي المحدي”، بذى أصبح الحي المحمدي من خلال هذه السردية الواقعية موئلا ومرجعا لمختلف الطاقات الإبداعية التي أنجبها، فيصبح الحي المحمدي مكانا متخيلا لتمثلات الكاتب، حتى وأنه ونحن نتساءل، هل هو الحي المحمدي الذي نعرفه جميعا، أم حي حسن نرايس المحمدي.

وأخيرا، لعل من سيمات هذا الكتاب، قدرة صاحبه على الوصف، حتى أننا لا نبالغ وعلى سبيل الفكاهة، أن حسن نرايس تقمص دور مرشد سياحي  في هذا الكتاب لدروب الحي.

ولا ننسى غلاف هذا الكتاب الذي قام بتصميمه الفنان خالد الضو بحرفية عالية، استطاع من خلاله إبراز جزء من جدار مهترئ، يعكس تمظهرات هندسة الحي وقدمه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى