وجهة نظر

دعاة الحداثة والتماهي مع السردية الصهيونية -د.اكديد محمد

 

الكثير من الأقنعة التي أسقطتها غزة في المنطقة خلال هذه المواجهات المفصلية مع الكيان الصهيوني، ومن ضمنها أقنعة عدد ممن يدعون الحداثة والتنوير في الوطن العربي وشمال إفريقيا، والذين سارعوا ومنذ بداية أحداث السابع من أكتوبر باتهام حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية حماس بالإرهاب في تغييب تام لمشروع المقاومة المستمر الذي تتبناه الحركة منذ صعودها خلال الثمانينات بعد أن استكانت حركة فتح إلى المفاوضات غير المجدية مع اسرائيل، ودفاعا عن الأرض المسروقة والأسرى الذين يعانون بل وقد باتوا يتساقطون تباعا داخل سجون المحتل الصهيوني، خاصة بعد تغول سياسات الاستيطان التي لم تعد تحترم العهود والاتفاقيات المبرمة مع الجانب الفلسطيني منذ صعود اليمين المتطرف مع حكومة بنيامين نتنياهو، حيث زاد عدد المستوطنات في غلاف غزة..

 

وعوض أن يستنكر هؤلاء المدعين للحداثة والدفاع عن حقوق الإنسان الصمت المتواطئ تجاه ما يحدث في غزة ولبنان من تدمير للمنشآت واستهداف للمدنيين، والدعم العسكري والاقتصادي واللوجيستي الدولي للكيان المحتل بالسلاح الذي باتت توفره له أمريكا وعدد من الدول الاستعمارية في أوروبا رغم جرائمه المستمرة في حق الفلسطينيين واللبنانيين، وتملص الكيان من المقررات الدولية التي تدعوه إلى وقف عدوانه الآثم على الشعبين الفلسطيني واللبناني، بات أغلب هؤلاء يتبنون نفس السردية المتصهينة التي تغض الطرف عن الرد غير المتناسب لآلة القتل الصهيونية التي تستهدف المدنيين العزل بالأحياء المأهولة بالسكان بأكثر مما تستهدف عناصر المقاومة التي تتجنب ما أمكن التواجد بين بين المدنيين، حتى تجاوز عدد القتلى الخمسين ألف في غزة منذ بداية الحرب أغلبهم من النساء والأطفال، وحوالي الثلاثة آلاف في لبنان، وتبقى هذه الأرقام مرشحة للارتفاع في ظل تعنت الكيان الصهيوني بعد أن باتت قياداته الحربية تمعن في هذه جرائمها باستهداف المستشفيات والطواقم الطبية وفقا لادعاءات تبين زيفها في أكثر من مرة فضلا عن قتل الصحفيين بدم بارد، مستخدمين أسلحة و قنابل محرمة دوليا، مع استغلال الصمت العربي والدولي والدعم الأمريكي غير المحدود أسوأ استغلال..وتنعت المقاومة في فلسطين ولبنان بالإرهاب والتضحية بالمدنيين والتسبب في قتلهم ونشر الفوضى والدمار في البلدين، مع أن هذه المقاومة الشريفة لا تدافع اليوم فقط عن الإنسان الفلسطيني أو اللبناني أو عن الأرض المسلوبة والإنسان المضطهد داخل البلدين، بل عن التاريخ والهوية والدين وكل الجذور التي تربط هذا الإنسان بوطنه.

 

وعوض شجب دعم وتنسيق عدد من الدول العربية والإسلامية مع الكيان المحتل في إطار تطبيع العلاقات معه واستنكار مواقف الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي الخجولة مما يقع في غزة ولبنان من انتهاكات بل حرب إبادة واضحة، بات حداثيونا الموضوعيين يوجهون حرابهم إلى محور الممانعة بالمنطقة، وإلى راعيته إيران بتجريم مجهوداتها في دعم المقاومة واتهامها بخلق الفوضى بالمنطقة، مع أن المتورط في خلق الفوضى هي اسرائيل التي تصول وتجول بفرق اغتيالاتها ومقاتلاتها وجيشها الصهيوني المتواجد في الميدان والاحتياطي بين عواصم دول الممانعة من طهران إلى صنعاء، بل وخارج هذا المحور أيضا، وقد بات بعضهم يستدعي نفس القاموس الطائفي الذي تتبناه التيارات التكفيرية للطعن في قادة وأتباع المحور من “المشروع الصفوي” إلى “الروافض المجوس” و “محور المقاولة أو المماتعة”  بالإضافة إلى تبخيس جهود هذا  المحور من خلال اتهام قادته بالاتفاق على مسرحيات للرد مع اسرائيل وأمريكا دون الالتفات لحجم التضحيات والدماء التي سقطت في لبنان خصوصا من داخل الحاضنة الشعبية لحزب الله في سبيل نصرة غزة فضلا عن استهداف سوريا بشكل شبه يومي وضرب فصائل المقاومة بالعراق ومناطق تواجد حركة أنصار الله باليمن، وكذا عدد من كبار القادة والعلماء في الجمهورية الإسلامية بإيران التي سارعت إلى التنسيق بين مختلف  الفصائل والدول المقاومة التي يطغى عليها الطيف الشيعي لخلق جبهة إسناد لغزة في الوقت الذي تخلت أغلب الأنظمة العربية السنية عن القضية المركزية للأمة وتركت الفلسطينيين لمصير مجهول تحت رحمة  آلة القتل الصهيونية، في حين اكتفى من لم يتوار عن المشهد من علماء السنة بالاستنكار والدعاء، مع أن أغلبهم وخصوصا من دعاة وعلماء السلفية الوهابية لم يتورعوا عن التجييش ضد النظام السوري خلال الأزمة، والذي كان يواجه انقلابات الجيش في الداخل والجماعات التكفيرية المسلحة المدعومة من الخارج، وعلى رأسها داعش والنصرة، بل إنهم مروا إلى السرعة القصوى بالدعوة إلى الجهاد في سوريا كما فعلوا قبل ذلك في العراق أيام الزرقاوي التكفيري ضد “الشيعة المجوس” وفي أفغانستان ضد الاتحاد السوفياتي”الشيوعي الملحد” حسب توصيفاتهم الطائفية والتكفيرية الجاهزة.

 

هكذا باتوا في كل نقاش ومنذ بداية العدوان على غزة ودخول محور الممانعة على خط إسناد غزة عن يستدعون الصراع السوري الذي اختلطت فيه الأوراق بسبب تقاطع أجندات عدد من الدول العظمى والمحاور الإقليمية بالمنطقة، والتي استغل بعضها الأخطاء التي ارتكبها النظام ضد المتظاهرين خلال الأيام الأولى للأزمة، والتي حاول تداركها بفتح قنوات الحوار مع المعارضة السورية السلمية وإعادة النظر في عدد من الإجراءات والقوانين التي كان معمولا بها، للتخلص من نظام الأسد المتحالف مع إيران وحزب الله وتفكيك سوريا إلى كانطونات طائفية وعرقية وفق مخرجات مخطط  الشرق الأوسط الجديد، والذي وضع على الطاولة الأمريكية أيام حكومة بوش الإبن، حيث تمكنت دول وفصائل محور الممانعة من إجهاضه، كما تمكنت من التصدي للمشروع التكفيري الذي توج بتغول  عصابات داعش في كل من العراق وسوريا، والتي تجاوزت كل الأعراف الإنسانية والشرائع الدولية بالإمعان في قتل واضطهاد كل من يخالف رؤية مشروعها القروسطوي الهمجي. لكن بعض هؤلاء المدعين للموضوعية والإنصاف لازالوا للأسف يتماهون مع أسطوانة قتل السنة بالعراق وسوريا التي كان ولازال يكررها أتباع التيارات السلفية التكفيرية وبعض الإخوان الذين كانوا يصفقون لبطولات التكفيريين سوريا والعراق قبل أن تسقط داعش أقنعتهم الحقيقية، حيث جاء تدخل دول وفصائل محور الممانعة بعد اجتياح قوى التكفير والإرهاب العالمي لسوريا بدعم من قوى عظمى ومحاور إقليمية، ومن أجل إنقاذ جميع مكونات الشعبين السوري والعراقي بغض النظر عن انتماءاتها الدينية والمذهبية والعرقية من بطش الإرهاب الداعشي الذي أتى على الأخضر واليابس ولم يستثن أحدا بما في ذلك الطائفة السنية الكريمة.

 

أما بعض مدعي الحداثة والتنوير من المغاربة، فقد دفع بهم الحماس الزائد إلى محاولة القيام بدور محاكم التفتيش باتهام جزء من المغاربة الذين انخرطوا في دعم جهود محور المقاومة بعدم الولاء للوطن وللقضية التي تحظى بإجماع المغاربة مهما اختلفت المواقف والرؤى حول طريقة تدبير هذا الملف ومواقفهم من الأطراف الخارجية، والتي قد تتبدل مستقبلا مع التحولات الجارية في المنطقة والعالم.    بل إن بعضهم صار ينعت هؤلاء المغاربة بمغاربة إيران” وبأنهم يخدمون أجندات إيرانية داخل الوطن، وهو ما يدخل تحت جنحة التحريض على هؤلاء المواطنين المغاربة. ولتبرير افتراءاتهم التي تخالف المنطق الحداثي الذي يحاولون التمسح به، فقد باتوا يربطون بين الموقف الإيجابي لهؤلاء المغاربة من إيران لكونها الدولة الإسلامية الوحيدة التي تدعم مقاومة مخططات الكيان الصهيوني وعدوانه الآثم على المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين، بالعتاد والسلاح والمال والإعلام ومن على كل المنابر الدولية والقنوات الدبلوماسية المتوفرة، وبين أزمة قطع العلاقات بين المغرب وإيران على خلفية اتهام مسؤولي المملكة لها بدعم البوليزاريو، الأمر الذي نفاه مسؤولو الجمهورية وكذلك الحزب اللبناني الذي يرتبط بها في إطار محور الممانعة، حيث شكلت الأدلة المقدمة من طرف الخارجية المغربية محط خلاف عميق بين المتابعين لهذا الملف على كل المستويات. وذلك في نفس الوقت الذي استمرت فيه إيران بتجميد اعترافها بهذا الكيان المختلق منذ التسعينيات، بل وصرح وزير خارجيتها المرحوم حسين أمير عبد اللهيان قبل سقوط مروحيته بحوالي شهرين إلى انفتاح دولته على الحوار مع كل من مصر والمغرب لطي الخلافات الحاصلة. 

 

هذه المواقف والأحكام الغوغائية التي بات يتبناها بعض المثقفين وكتاب المنابر وعدد من مدعي الحداثة والتنوير داخل الوطن وخارجه ضد من يخالفهم الرأي والموقف من المقاومة، صارت تطرح في الواقع  تساؤلات حارقة عن حقيقة تبنيهم لقضايا الإنسان وعن طبيعة انخراطهم في تحرير هذا الإنسان كيفما كان جنسه أو دينه أو موطنه من قيود الاحتلال وحمايته من همجية هذا المحتل الدموي المتغطرس، وعن الدوافع التي تجعلهم يدعون الحياد والموضوعية وهم يلوكون نفس سرديات أسيادهم في تل أبيب وواشنطن والعواصم الغربية والعربية المرتبطة بهما دون ترو ضمن جوقة الإعلام الغربي المساند لإسرائيل ورديفه العربي المتصهين الذي يجتهد في شرعنة جرائم هذا الكيان الهمجي، والتي يتبجج بها ويدافع عنها أمام المنتظم الدولي بكل وقاحة بدعوى محاربة إرهاب فصائل المقاومة التي تدافع عن شعبها وعن الأرض، وتبرير تدخلاته الغير مشروعة من أجل توسيع رقعته سواء داخل فلسطين أو في دول الجوار بسوريا ولبنان، بل حتى في الأردن والسعودية كما فضح ذلك وزير ماليته سموتريش في إحدى حواراته.

 

نحن أمام محطة تاريخية مفصلية في الصراع مع هذا الكيان المحتل والدموي. محطة لا تتحمل المواقف الرمادية والسلبية التي تدعي الحياد أو تنهج أسلوب النعامة في الهروب من المواجهة، بالموقف الداعم للمقاومة وبالكلمة الحرة والجريئة التي تفضح ممارساته وجرائمه التي تجاوزت كل الحدود، ومن مختلف مواقع المسؤولية والتوجيه والتحسيس. ولا معنى هنا للتترس بالحياد الباهت أو الموضوعية السالبة للموقف في الوقت الذي يقف فيه الغرب الاستعماري مع هذا الكيان الغاشم وقفة رجل واحد داعما إياه بكل أنواع الأسلحة -بعضها محرم دوليا- ومتحديا شعوبه التي ترفض ما يقع من مجازر يومية في غزة ولبنان، فضلا عن استهداف دول وفصائل أخرى تحاول نصرتهما من داخل جبهات الإسناد في إطار وحدة الساحات كإيران واليمن وسوريا والعراق.

 

فالحياد هنا والانزواء داخل البرج العاجي للمثقف الوهمي يصير خيانة للقضية وتسليما للكيان بجرائمه التي يقدمها كانتصار ليس فقط على الفلسطينيين أو اللبنانيين، بل على العرب وعلى الأمة الإسلامية وعلى كل الشرفاء والمدافعين عن الحرية وعن العزة والكرامة عبر العالم. بل إن لعنة هذا الانتصار البغيض ستطال أيضا الأجيال القادمة التي يجري إقبار الوعي بقضاياها المصيرية على قدم وساق من خلال الإمعان في تكريس التفاهة بدعوى حرية التعبير، والانحلال الخلقي والدياثة والمثلية باسم الحداثة والحريات الفردية وغير ذلك من الرسائل المسمومة التي يتم تمريرها عبر وسائل الإعلام وبعض منظمات المجتمع المدني المشبوهة، وأحيانا التعليم من أجل تدمير الوعي وروح النضال والمقاومة في نفس هذه الأجيال، وترويضها على تقبل الأمر الواقع الذي يتم التخطيط لتغييره في مراكز القرار فيما بات يسمى بالعالم الحر الذي صارت تشرف على توجيه مواقفه وقراراته عدد من مراكز النفوذ الدولية التابعة للصهيونية العالمية التي تدير هذه الحرب الشرسة في ديار المسلمين.

استاذ باحث في علم الاجتماع السياسي 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى