الخلدونية الجديدة، مُعَاصِرة: تعريجة على مشروع مدونة الأسرة للمغرب ( 2004-2024) ذ.عبد الواحد حمزة[1]

II- القسم الثاني/ المدونة في ذاتها: ….الأسرة في ذاتها (…) اختزال لقضية الإصلاح والتغيير المركبة في المغرب
I.1 : تذكير بمحطات و بنتائج البحث السابقة
عالجنا في القسم الاول من هذا العمل جدوى الخلدونية، معاصرة، بما هي بحث سوسيو-سياسي في اسباب ازمة التطور التاريخي الاجتماعي للمغرب، بداية من القرن الرابع عشر، بشكل موجز جدا، محاولين تمديد الحقبة إلى اليوم، نظريا ومنهجيا، بالرغم من التغير البنيوي الرأسمالي الكوكبي الاكيد، الذي لف ومزق أحشاء العالم، اليوم، ولا يزال يحوله في أفق منظورلا يقيني ومستقبل شبه مجهول، منذ 2008، على الأقل، وأن لم يعلن بلدنا بفشل نموذجه التنموي الا بعد عشرة سنة، من هذا، مرورا بجاءحة كورونا، التي قتلت ما قتلت.
ذلك، انه سبق وأن حدد المسيطرون على العالم / الحكومة العالمية تنزيل سقف حجم الساكنة/البشر إلى مليارات اقل، ليكمل زلزال الحوز بمراكش ما كان ناقصا، في انتظار فرص سانحة اخرى، ومرورا، ايضا، بالحرب الاوكرانية- الروسية، التي عاد الرءيس بايدن وأطلق لها العنان، على الأقل في الشهرين اللذان بقيا له في الحكم، بامريكا المتحدة، وكذا، طوفان الاقصى العالمي “المجيد”، للسابع من أكتوبر لسنة2023، وكل تلك الحروب والتوترات المفتعلة، هنا وهناك، والمنباءة بعهود “ما-قبل بداية الإنسانية” الحقة.. !!
ولأن ذلك التغيير في حد ذاته، هو تحول مشوه البنيات والسلوكات، في بلادنا، التابع والمتاخر، والذي قد ينفتح على تطور اقتصادي مشهود، بما يسمح له موقعه الجغرافي الخاص، وانفتاحه على افريقيا، ووجوده في نقطة مفصلية على وجه الكرة الارضية، في اتجاه الشرق الأوسط وفي اتجاه أوروبا…..
وقد طرحنا، منذ البداية، خطة عمل في تلاثة اقسام، أولها كان الخلدونية معاصرة، ضدا على وضعها في دولاب التاريخ، وهي التي الهمت فكر الغرب، دون أن يلهمها، هو، في شيء.. !! ونحن الان في خضم القسم الثاني حول بعض الاختلالات التي يعرفها تنظير وتطبيق مدونة الاسرة، ببلادنا، في ما اسميناه، ” في ذاتها”، حيث نقتصر على النص القانوني المقترح، أكثر من تداعياته وسياقاته، على ضوء نتائج ومعطيات الاحصاء الوطني للسكان والسكنى/2024، الذي نشرها المجلس السامي للتخطيط، في غضون شهر اكتوبر، إذ سمحت بها الدولة، على أن نؤجل في قسم تالث ربط تلك الاختلالات والتناقضات بالمحيط الماكرو، خارج النص.
وقد طرحنا، منذ البداية، إساءلة عديدة في مقدمة الدراسة، تبحث كلها في إمكانية دمقرطة العلاقات الاجتماعية والاسرية، خصوصا، من عدمها، في بلادنا، وما الذي يعوزها، في هذا، معرجين على مدونة الاسرة الجاري بها العمل، ما أمكن…!!، على ان نخصص لها، في هذا القسم، كافي العناية.
وقد طرحنا، منذ البداية، ايضا، فرضية تروم استشراف النظر، بالرغم من صعوبة ذلك، اعتبارا لأزمة الابدالات الراهنة، وما إذا امكن أن تأخذ النيوخلدونية مكانا نظريا ومنهجيا متميزا وخاصا، لتجاوز التكلس العلمي الاجتماعي، ولأهمية ما تؤكد عليه من سيطرة بنية التحليل السياسية على مجموع البنى المجتمعية، وخاصة في البلاد المتأخرة، ( انظر التوسير، مهدي عامل، بولانتزاس…)، مع القطع الضروري مع الاقتصادوية و الاستشراق والاستشراق المعكوس والاستغراب، كذلك….
وقد تطرقنا مباشرة إلى إطلالة على الطرح القانوني- الشرعي، دون الغوص فيه، ومنه انطلقنا الى الطرح السياسي الذي يهمنا في الإشكالية المدروسة حول الاسرة المغربية.
وانطلقنا إلى الاهتمام بالجغرافية السياسية، وهو مفهوم خلدوني، التي اعتبرناها، على نهج ايف لاكوست، وهوالمولود بالمغرب على عهد الاستعمار، الذي عرف وترجم ابن خلدون للغرب 1967/2018، إنها تفيد اولا وقبل كل شيء في الحرب، واضفنا، في العدوان والإبادة الجماعية، كذلك، وزدنا، في المقاومة المسلحة، ايضا وايضا،…
كما تابعنا بالنقاش حدث زيارة ماكرون ومن معه البارز إلى المغرب، واجمعنا على أن الأمر لا يعدو أن يكون تكريسا لما بدأته ايكس ليبان الاولى، ذات 1955، لكن هذه المرة، مزيدة ومنقخة/2024، وكيف أن الرأسمالية العالمية المازومة تعاود تسريع تطبيق مخطط سايس بيكو، مزيد ومنقح، واشرنا إلى المفاوضات والخيانات التي نهجتها النخبة الصاعدة، والمؤامرات المطبوخة ابان نضال المقاومة وجيش التحريرالمغربي من اجل تخليص -ليس البلاد فقط وانما- المغارب، برمتها، من وابل الاستعمار، والغير المباشر منه، اليوم، ومن اجل الاستقلال الغبر المنقوص، وأكدنا، كذلك، على الاسس والخلفيات الفكرية الاستشراقية والاستغرابية، الطاوية وراء رغبة الغرب الحثيثة لتفتيت ارض وفكر وقوة ومقدرات البلاد، على الدوام..!
كان همنا، داءما، أن نتمرن على استطلاع نظر سياسي ومنتج ممكن، يسمح بتحول جذري لقراءة واقع اجتماعي موقوف التطور، وفي صلب ذلك، مؤسسة العاءلة، بما هي علاقة اجتماعية- نفسية وسياسية، بالأساس…!!
لقد اعتمدنا فرضية علمية، تحاول الغوص في خطر تبني لبرلة مجتمع وبنية عاءلية نووية، وهو ما يعني تبني تحديث مجتمع منقوص التطور، دون آليات ومؤسسات المواكبة الضرورية، دون توفير شروط ذلك، ودون استثمار جيد ومنتج لقيم التضامن الاجتماعي- القبلي المتجذرة في المغرب، وكذا ضرورة تجديد الوطنية في أفق المواطنة الحقة، والعمل على نهضة الاستراتيجية التنموية، ببلادنا..
II.2 : سياقات ورهانات التحول الأسري
لقد أصبح الصراع يحتد في مغرب اليوم بين تطلعات دعاة التحديث والعصرنة و المناهضين لما اعتبروه كوابح ماضوية، بعيدا عن الاجتهادات الدينية التنويرية- المحترمة جدا ( انظر أرضية عدد مجلة الربيع الخاص بإصلاح مدونة الاسرة وصراع المشاريع المجتمعية، ع. 16, 2024)، أو الداعين صراحة لثورة ثقافية ( اوريد حسن، من أجل ثورة ثقافية ففي المغرب، 2018)، إذ أصبح يحتد في الحقل الايديولوجي- السياسي المغربي، فإلى اي حد يمكن قراءة متأنية لمعيقات إصلاح المدونة، تلك، قراءة علمية- نظرية- براغماتية، تنهل من جميع القراءات العلمية، وتضع الفكر والسياسة مطلع مداخل التحرر من إشكاليات ومعضلات التنمية والحكم، في بلادنا، في ذات النصوص وفي ارتباطها، من خارج النصوص، أخذا بالاعتبار معطيات الديموغرافيا و الرأسمال البشري والجيوسياسيا و النظام السياسي وانخراط المغرب في منظومة رأسمالية كونية وفي جدلية المركز والمحيط، أي بمجموع حواغز و معيقات التحديث والديموقراطية، ببلادنا، ايضا…؟
وعليه، ففضلا عن بعض “المكتسبات” و “الإنجازات” الغير المضمونة، وفوق “الإختلالات” والتراجعات المتعلقة بالتطبيق، وما يرتبط بتنافس المرجعيات النظرية، وبالرغم مما يلطف من ذلك، فيما يرتبط بـ “الاجتهاد القضائي” وبـ”تأويل النوازل” وغيرهما، لا زالت المدونة وبلادنا -مجتمعا ودولة- تعاني من هيمنة تصور وبراديغم المحافظة/ الاستعباد الجديد/ العبودية المختارة (ذولابواسيي)/ الطاعة على الأوضاع والتردد في خوض “التغريب” والتحديث، دون بوصلة تحررية صريحة، جملة وتفصيلا.
وهو الأمر المرتبط ليس فقط بتعزيز الاتجاه التهميشي لــــــــ “المشرع” الوطني المتجدد”، حيث تقوم لجان ملكية[2]، مقام السلطة التشريعية، التي بتصويتها بالإيجاب- عموما- على مشاريع القوانين المقترحة من الحكومة- ذات مستوى أكاديمي وعلمي وتمثيلي لا يعول عليه، وإنما بضرورة إحداث القطائع العميقة والجذرية، على مستوى فصل السلط، كما توشي إليه الغايات الأساسية من كل إصلاح حقيقي يروم المناصفة و المساواة وحماية حقوق النساء والأطفال –الشرعيين وغيرهم- وكل من هم / هن في وضع هشاشة أو “فقر مدقع”.[3]
غير أن البرلمان، مثلا، بالبنية التي هو عليها وبالسياق وطرق انتخابه، اليوم، لا يبدو أنه- فضلا عن مجريات الحوار الوطني النخبوي والمؤطر جدا بثوابت الأمة- اعتبارا لدرجة المشاركة الضعيفة في النقاش المجتمعي، أن الخبرة والمؤسسات التمثيلية وللحكامة( علوم عقلية- الاقتصاد السياسي، الإحصاء، النمذجة، الاستكشاف الاستراتيجي….) ستعطي بما فيه الكفاية للخبراء أساس ما يسميه كارل بولانيي (1983) بالتجدير والتأصيل الاجتماعي الكافي لمشاكل الأسرة المغربية ومعضلاتها وسبل إصلاحها، إذ يبقى، بالرغم من ضعفه- التراضي حول الخيارات الاستراتيجية للمغرب- عبر البرلمان الحقيقي وهيئات الحكامة، أكثر إنتاجية وأنجع من الأطياف/ البروفيلات العامة لخبراء معينين، لم ينتخبهم أحد، لا تساعد في إنتاج التنمية…
ذلك أن التردد في خطى التقدم يجعل الديموقراطية في محنة، فيما يَحْجُرُ على ما يَحْبِلُ به المجتمع من تطور فعلي، أكان على مستوى البنيات الاجتماعية العامة، وضمن قوانينه الحاكمة (دستور2011، الإتفاقات الدولية حول النساء والأطفال، بعض النتائج الفقهية المستنيرة…)، تعزيزا لما راكمته الحركة النسائية العالمية (أواسط القرن 19 إلى اليوم) والقوى الوطنية الديموقراطية التقدمية، ببلادنا (التشاور والتشارك الواسع والفعلي…).
كثيرة هي القضايا والأسئلة التي ما فتئ الرأي العام الوطني يفتح فيها نقاشا إصلاحيا، كـ”الدمج العرضاني” لمبادئ المساواة بين طرفي العلاقة الزوجية وظاهرة تزويج القاصرات وضمان حق الأم في النيابة الشرعية والتدبير العادل لمساطر إنهاء العلاقة الزوجية واعتماد رؤية متوازنة للأموال المكتسبة أثناءها، وكذا مراجعة التوظيفات اللغوية التقليدية الحاطة بكرامة المواطنين/ات واحترام المصلحة الفضلى للطفل (الحق في النسب والنفقة والإرث …) وقضايا الإرث، عموما وغيرها[4]. غير أن إحقاق “المساواة الفعلية” بين الرجل والمرأة لا زالت لم تستوف كامل سعة العلم والمعرفة والجرأة المطلوبة لطرحها على طاولة الإنصاف (…) والعمل على تنفيذها.
من الجيد أن يوضع “الحق والقانون” في قلب مؤسسة العائلة، وهو الطرح القانوني – الحقوقي – الإنساني، لكن أن يطور النقاش حول مدى تماسك “التوابث الوطنية” فهو أمر يتعدى قانون، مركزي بحق، إلى الغوص في “فلسفة القانون”، أي إلى النفاذ إلى نقاش حول أي “مجتمع مواطن” نريد، ولأي مجتمع نحضر ونصبو، تنظيمه وتراتبياته… عبر أية دولة ومن نحن وأي هوية وطنية(…) لن تكون إلا ” عصرية” أو لن تكون !؟.
إن أي سياسة اجتماعية سديدة تتطلب بالضرورة مسحا–تحليليا شاملا لبنيات وسلوكات المجتمع، حتى لا تجانب الصواب، فتسمح بتشريع لجزئ تأخذه مأخذ الكل (المجتمع المركب، التحليل الشامل لبنيات المجتمع المغربي …)، شجرة تغطي الغابة !ولعل أول ما يجب تحديده هو مفهوم / واقع “الأسرة المغربية”، بالذات، لكون الكثير من الكليشيهات تحوم حول المفهوم/الواقع الاجتماعي، من حيث التعريف /الطبيعة: العائلة النووية أو الممتدة- العزوبة- العنوسة…”[5]، دون الإلمام الشامل بالموضوعة الأسرية المركبة، ببلادنا.
وللعلم، فإن 23 % من المأجورين في المغرب نساء، كما أن التطوع لخدمة العائلة يكتسح 80 % من وقت العمل لديهن، عكس ما هو عليه الأمر بالنسبة للرجال. وكثيرا ما لا يتم اعتبار ” العمل المنزلي” (المطبخ، تربية الأولاد، العناية بالعائلة…)، عملا يستحق القيمة والتقدير.
كما لا يتم استثمار كافي لبعض البحوث الجامعية الجادة، وحتى إن تغيرت “مدونة الأحوال الشخصية” إلى “مدونة الأسرة” يتقاسم أعباءها ومسؤولياتها –نظريا- أفراد العائلة (الأب، الأم، الأطفال، الجدة…)( 2004-2024)، فإن التغيير الفعلي للسلوكات الاجتماعية ظل نسبيا. لم نعد نتحدث صراحة عن “عقد نكاح” مثلا، كمصطلح “متخلف” في النص، لكن العقليات الذكورية لازالت متجدرة والسلوكات مثبطة ومتأخرة للتطور الاجتماعي للأسرة، عموما. كما أن تطبيق بعض النصوص المتقدمة في نص دستور2011، وأجرأة المدونة تصطدم بتحكمية لقضاة/ قاضيات دون غيرهم/هن، في أمور تتطلب العدالة الاجتماعية، بمنأى عن خلط السلط ولغة التحكم !.
كما أن الإحصاءات الرسمية تأخذ بمفهوم “العائلة”، أكان الأمر يتعلق بعازب أم لا، بوضعية يوجد فيها طفل متكفل به، أم لا ! والحال أن حد القانون يقع على الأسرة، كما هو الأمر في شأن الإرث وهو ما يجعل الكثير من الفوضى تلازم ذوي الحقوق، من دونهم.
والحقيقة أن حجم وشكل وطبيعة الأسر المغربية متعددة في الواقع، وأن صورة العائلة المكونة من أب وأم وأطفال هي صورة مثالية نموذجية لا تتعدى 38 % فقط، (المغرب-المغارب…) لتصل إلى 56 % في شمال إفريقيا وغرب آسيا. والواقع أن هناك أسر لمطلقات وأخرى لأرامل بأطفال ومعلقات وعازبات و”أسر بالفاتحة”، وأن لا أثر قانوني لهذه الوضعيات. وهي وضعيات وأمور وإشكالات تهم كل المكونات الفارقة للأسرة، كما تهم القضاء وتتطلب حوارا وطنيا قَبْلِيًّا موسعا وإعلاماً متحررا مواكبا لكل مُدْخَلاَت الإصلاح (قوانين، دستور، نموذج تنموي…)، ولكل ما آلت إليه التطبيقات مع تطورات الواقع المغربي والعالم(…).
وإذا كان من الضروري من إعلاء لكلمة “الحق” و”القانون” ضمن العدالة والمساواة العائلية[6]، فللعلم فإن 3 % فقط من النساء المعنفات هن من تشتكين علنا، فضلا عن ضعف التمكين و استشراء العنف الاقتصادي والاعتداء الجنسي والاغتصاب (…)، الذي قد يلحق بعاملات الموقف وغيرهن من عاملات المعامل (…) وفي بيت الزوجية (…). وكثيرا ما تجد النساء أنفسهن لـ”وحدهن”، وفي ورطة فساد، ليطولهن عقاب القانون الجنائي، لـ”وحدهن”، كما هو الحال في تفشي سر علاقات رضائية – “ماهي برضائية” !
وقد سمح المجلس السامي للتخطيط/ المغرب (انظر المعطيات) بنتائج الإحصاء العام للسكن والسمنة بالنتائج التالية : تزايد عدد الأسر وتراجع حجمها، ارتفاع نسبها التي تديرها نساء، وتراجع معدل الخصوبة، تزايد عدد المسنين، ارتفاع نسبة التمدن، وتراجع عقود الزواج وارتفاع نسبة التطليق، وتراجع زواج القاصرات وأخيرا وليس اخرا، ارتفاع مستويات الفقر والهشاشة والبطالة.
كلها أمور تعطي طابعا خاصا ومركبا لقضية العدالة الأسرية، وتتطلب تحسيسا وإعلاما وتكوينا كافيا، وحتى تعليما أوليا في القرى قبل المدن، حول التربية الجنسية، مثلا، وتكريس كل ذلك في سلوكات نقاش يومية وتاريخية، لتجاوز العقليات المتحجرة المليئة بتمثلات محافظة كابحة للتطور المجتمعي، خاصة وأن المشاكل البنيوية لا يمكن أن تحل بنصوص قانونية، لوحدها، بالرغم من أهمية التقنين والضبط، فضلا عن مشكل تطبيقها (مشكل التنفيذ والتأويل والتفسير…)، ومن ثمة ضرورة العمل على “تقييد” سلطة القضاء التقديرية.
إن ذلك يعني، أولا وقبل كل شيء، توفير كفاءة واستقلال قضاء وفصل سلط حقيقي بين التشريع والتنفيذ والعدل، يجعله يحسم في قضايا ومشاكل واختلالات وإشكالات العائلة، بكل تجرد ومسؤولية (إرث، المصلحة الفضلى للطفل…)، ولا يعني في شيء أن تقضي في “قضية أسرة” قاضية مستقلة عن الجهاز الحاكم، إذ ستقضي– فضلا عن تقديرها الخاص- بما أنزل القانون – المدونة. وما حكم الضمير؟ إن الأمر في النهاية – تعبير عن درجة ومحرار لموازين قوى اجتماعية ولمشاريع اجتماعية متبارية لطبقات شرائح وفئات، نخب، مقاربة جذرية للنوع، لوبيات، حركة نسائية مستغربة أو عصرية (…).
هكذا وإذا أريد للعدالة أن تكون في صلب الأسرة – قنوات متعددة، فلابد من وضعها في عمق التحليل الاجتماعي-الاقتصادي –النفسي والسياسي، العام، وأي حديث عنها هو حديث عن إمكانية إصلاح أو تغيير، من عدمهما، لتلك العلاقة الأسرية كعلاقة اجتماعية متعددة ومركبة الفرقاء/الأطراف والمستويات والأبعاد القانونية والفلسفية. وعليه، يبدو أن إصلاح مدونة الأسرة هو حديث حول ثوابت قيد التحول – رغم كل المقاومات- أكان في أفق الدمقرطة والتحديث أم لبرلتها وتَذَرِّيهَا وتَشَظِّيهَا، وتفكيك النسيج الاجتماعي والتضامني/ القبلي، دون توفير الدعامات الموضوعية البديلة، الكافية لذلك.
إن ما يطرحه إصلاح مدونة الأسرة -اليوم- هو مدى وجوب تغيير جذري للبراديغم الحاكم للعلاقة الأسرية – الأساس، بحيث يمكن المرور السلس من إبدال لآخر، تجاوزا للخلل والنقائص والحجوزات التطبيقية منها والفكرية- السياسية، استجابة لما يحبل به المجتمع المغربي (منذ استقلال المغرب إلى منتصف الثمانينات والتسعينات، فالانتساب إلى المواثيق الدولية…).
فالتقاطبات التي يتوجب تقديم إجابة عنها تدور حول شبكتان مفاهيميتان أساسيتان متمحورتان حول “التقليد” أو”التحديث”، تجدان صداها في مواضيع متعددة، كـ”حركة الجسد”، خاصة منه “جسد المرأة” و”الطفلة” و” الخنتى” والنسونة والمثلية والعنوسة والعزوبة (…)، فتجريم تزويج الطفلات إلى حدود “الاتجار في البشر”.
(…) فحقوق الأم في الولاية القانونية بالتساوي، و مسألة التعدد والمصلحة المثالية للطفل، وحساسية موضوع الإرث وتصحيح أو تغيير منظومته وتجاوز بعض التوصيفات اللغوية وإعمال الوصية وضرورة تحصين صندوق “الدولة الاجتماعية” لصالح الطفل، ولكل من هن في وضع هشاشة، فتحديد دقيق لمقتضيات النفقة – التقييد المعجل (…).
(…) وحل مشكل التعصيب/الإرث، خاصة وأنه –حسب بعض التأويلات التنويرية – مبني على “حديث ضعيف/لا وصاية لوارث”، وأن لا نص قطعي في التعصيب الموروث (…). كما هو الشأن في موضوع التدبير للأموال المشتركة، فاحتساب “الكد والسعاية”، وإمكانية التوافق على التشارك أو إستقلال ذمة المرأة المالية عند الزواج بالذات (…)، وهي أمور لا تهم الفقراء الذين ليس لهم ما يقتسمونه وما يرثون، إلا عائلات الطبقات الوسطى، فما فوق، فضلا عن قراءات تنويرية تنصف النساء (محمد شحرور)!.
يبدو أن التعامل أيضا مع “حركة الجسد” كمسألة اجتماعية (انظر فوكو ميشيل 2004)، فالتمييز هو نتاج ثقافي – تاريخي مبني على الحيف والظلم. فبالرغم من إصلاح بعض النصوص على طول المسيرة للعشرين سنة الماضية، فلم تقو المدونة على تغيير سلوكات المجتمع وضبط الأسرة. ثم هل هناك من ضرورة مجتمعية لتغيير خلفيتها الفكرية، الإقدام على التعبير العميق والشمولي والنوعي الصريح، بما يعنيه من تفكيك مفهوم الطاعة والقوامة و”العصمة للرجل”، فتبديله بمفهوم المساواة، بما يعنيه إلغاء التمييز على أساس الجنس أو الدين أو الوضعية (…)؟.
ومن الملاحظ إن إلغاء التمييز في المغرب ضل يتأرجح بين النص الوضعي والنص الديني، يروم التأويل المالكي، ولا يقطع نهائيا مع واقع الولاء للعرف والقبيلة والعشيرة، ولو- نسبيا- مقارنة مع الولاء العصري الواجب للدولة، أولا، فيعمل واقع الأمر- وبصعوبة أكثر فأكثر- على إعادة إنتاج توابث الأمة – النظام (إمارة المؤمنين – الاعتدال والتوافق او التلفيق والهجانة (…)، ولانفلات التناقضات الاجتماعية من بين يد السلطة، كتطور اللائكية واحتمال التقويض الحرج لإمارة المؤمنين، في الأمد المنظور.
والحال أن دستور 2011 ينص على المساواة ضمن “الخيار الديموقراطي”، توخيا لتحقيق التنمية والتقدم والكرامة للجميع، مما يسمح به تكافؤ الفرص، والحرص على “العدالة الاجتماعية”. إن اعتبار قضاء خاص بمجال الأسرة لا يكتمل دون القطع مع هيمنة الرجل على المرأة. إننا نولد ذكورا وإناثا لكن نصبح رجالا ونساء، فيما مجتمعات” ما بعد الحداثة” تسمح وتدعو إلى مسح الحدود و” تبادل الأدوار” للأفراد والقدوات(…)، وخطر تسييحها ومسخها…. !.
وهو ما يدفع في أفق إلغاء القوامة، أمر لن يتأتى دون إخراج لتوصيات هيأة الإنصاف والمصالحة لحيز التطبيق، وكذا مأسسة المجلس الاستشاري للأسرة والطفولة والرفع من وثيرة التحسيس والتوعية للإصلاح المجتمعي.
وعلى ما يبدو، فإن الغرض من الإصلاح / التعديل يتمثل في “توطين النسوية” في المغرب، توطينا كاملا، بغض النظر عن ماهي عليه كامل وشامل وتعقد البنيات الاجتماعية (القبيلة – تعدد أشكال العائلات..) الخ، في تغليب واضح للبنية الفردانية ذات المنزع الليبرالي- المتوحش، دون مأسسة كاملة وكافية معممة ! ضامنة لكرامة الإنسان.
ولهذا يستجيب التوطين ذاك لنزعة بنيوية رأسمالية سلعية دولية عولمية ، فكلما تعاظمت النسوانية إلا وتعاظمت المطالب لتعديل المدونة( 1958-1985-1993- 2004- 2024….)، أي لتعديل الحياة الأسرية والزوجية، خاصة. فيمكن الحرص والقول أن الحركة النسوية ذاتها في بلادنا لم تتأسس لدعم الديموقراطية أو لتغيير الشروط الاقتصادية والاجتماعية للنساء ولكن لتوظيف رأسمال رمزي هو بمثابة “العائلة”.
هكذا فبعد قرن من الحركات النسوية في الغرب، خرجت فيه النساء إلى العمل، خاصة بعد الحربين، وبعد صعود حاجيات الرأسمالية الصناعية لذلك، فتم البدئ بفك غلال الحرية الجنسية وغيرها، لتعمل باستمرار على رفع سقف التحرر، إلى اليوم (التحرر من البيت، من الزوج، من الجسد …). ولم تعمل الرأسمالية في هذه الصيرورة، بالذات، إلا على تجديد قدر كافي ومتجدد للعبودية النسائية، وحتى “الرجالية”، بالتوظيف في الإشهار، وغير ذلك.
كما أن الحركات النسوية في الغرب ما فتأت تناضل من أجل رد الاعتبار إلى الجسد الأنثوي / النسائي، أكثر منه من أجل التحرر من الرأسمالية، كعلاقة اجتماعية تاريخية بالذات، مما كان ويجب على قوى اليسار أن تأخذه بالجد في برامجها السياسية.
وعلى أهمية التناقض الأساس في الرأسمالية العالمية، مركزا وهامشا، بين رأس المال والعمل، فهو ليس التناقض الأوحد، كما أن العالم الإنساني أغنى وأعقد من أن يمكن إرجاعه إلى بعد واحد أو استلاب واحد، كما أوضحت ذلك مخطوطات 1844 لماركس، ومن تمة أهمية الأبعاد النفسية والاجتماعية والجنسانية، إلخ.
لقد رأى ماركس في علاقة الرجل بالمرأة الخلاصة المكثفة لاضطهادات الإنسان واستلاباته، وأشار إلى أن الجذر الأول لهذه الاستلابات هو تطور الملكية الخاصة، ولكن نظرا إلى أننا، في العلاقات الجنسية، على صعيد العلاقة بين إنسان وإنسان، فإن ماركس لم يقل البتة أن إلغاء الملكية الخاصة سيؤدي تلقائيا وميكانيكيا إلى تحرير هذه العلاقة من كل مظاهر الاستلاب، فما هو إنساني لا يمكن إرجاعه بصورة آلية وبخط مستقيم إلى ما هو اقتصادي، مع أن تحرير ما هو اقتصادي هو شرط ضروري في التحليل الأخير لتحرير الإنسان، وهذا يعني، بكل بداهة، ان مشكلة العلاقة بين الرجل والمرأة هي مشكلة نوعية، لا يمكن إستلابها، أي إرجاعها إلى مشكلة أخرى أعم منها. (جورج طرابيشي، مقدمة كتاب المرأة والاشتراكية، 1973).
لقد لوحظ إذن انتقال تدريجي من المطالبة بالمساواة في الحقوق إلى النضال من أجل حق المرأة كأنثى، ومن المرأة صنوة الرجل إلى مطلب معكوس، الرجل صنو المرأة، وهو ما يفيد المساواة الجنسية المطلقة بين الجنسين. يبدو أنه تصور معين للصراع بين الذكر والأنثى، وليس صراعا من أجل تمكين المرأة من نفس الحقوق التي يتمتع بها الرجل، أو من أجل تمييزها دون ميز.
إنه الأفق الذي يبدو أن الحركة النسائية تمشي على هديه في المغرب، في تحول واضح من نقاش قانوني لمدونة الأسرة إلى نقاش فلسفي للتعديل، ليتم الانتقال من تعديل فصول الزواج، والإرث إلى الدفع بمفهوم جديد للأسرة، بما يعنيه من اعتماد الحريات الفردية، كتغيير الجنس مثلا، فـ”تأنيث المدونة”، استجابة لمطالب فوق وطنية ولنزعة نسوية إمبريالية عالمية.
[1] – عضو مختبر بحث الضوابط الاقتصادية والذكاء الاستراتيجي، (Reis)، جامعة الحسن الثاني، البيضاء. وهو عضو أيضا بمركز بنسعيد أيت إيدر للأبحاث والدراسات (Cerm)، البيضاء، كاتب عام الاشتراكي الموحد وعضو مجلسه الوطني، المغرب.
[2] – انظر أعضاء لجنة المدونة (2024)، غياب التخصص الكافي والإشعاع والحضور المجتمعي العلمي المتنوع، والأكاديمي، خاصة، مما حوَّلَهَا إلى “لجنة تقنية” تتوخى الحياد – وما هي بمحايدة !expertocratie، واحتقار المثقفين والشخصيات المستقلة، حيث الخبرة ضرورية لكنها غير كافية، مقارنة مع المؤسسة التشريعية للتداول العمومي والحوار الوطني/ المواطن، لجنة نعرف منها في الساحة العلمية الأستاذة المسعودي أمينة والأستاذة نزهة جسوس، والآخرين “نكرة”: قانون عام وعلوم سياسية وتاريخ والإصلاح الدستوري والانتخابات والحكامة والجهوية وعلوم الإحياء وعمالة الأطفال وحقوق المرأة….
[3] – البنك الدولي، محاضرة مراكش، 2023).
[4] – أنظر أعمال اليوم الدراسي حول المداخل الأساسية لإصلاح مدونة الأسرة؛ مؤسسة علي يعته، ليومه 2 دسمبر2023، الرباط. انظر كل الأوراق والاقتراحات التي تقدمت بها كل الأحزاب والجمعيات (…) في إطار تشاركي، قد تكون مخرجاته الأساسية حُددت سلفا. انظر أيضا المذكرة حول مراجعة مدونة الأسرة، المجلس الوطني لحقوق الإنسان ليومه 20 دجنبر 2023 (…).
[5] – انظر الدراسة اليتيمة حول الأسرة التي أصدرتها المندوبية السامية للتخطيط (1995))، فضلا عن بعض الدراسات الجزئية أو الدورية لبعض الجمعيات الجادة (الشعلة…).
[6] – انظر جمعية “ملتقى مسارات نسائية”، المائدة المستديرة للعدالة الأسرية بين الواقع والمأمول، 23 فبراير 2024، سلا.
. المجلس السامي للنخطيط، معطيات احصاءية، 2024، المغرب:
تزايد عدد الاسر، من3 ,7 مليون اسرة سنة 2014 ، إلى 9,2 سنة 2024 إلى7 ,13 سنة 2050.
وتراجع حجمها، في المتوسط، من 4,6 سنة 2014إلى 3,9 سنة 2024 إلى 3,2 سنة 2050.
ارتفاع نسبة الاسر التي تديرها نساء، من 16% سنة 2014 الى 21 سنة2050.
تراجع معدل الخصوبة من معدل 2,2 سنة 2014 الى معدل 1,6 سنة 2050.
تزايد عدد المسنين من 3,2 مليون اسرة إلى10,1 مليون اسرة سنة 2050.
ارتفاع نسبة التمدن من 60,3 سنة 2014 إلى 62,8 سنة 2024 إلى 73,6 سنة 2050.
تراجع عدد الزواح من307,5 الف عقد زواج الى 251 الف عقد زواج سنة 2022.
وارتفاع نسب التطبيق من55,3 الف حالة تطليق سنة 2008 إلى 88,6 الف حالة تطليق سنة 2022.
تراجع زواج القاصرات من 10,1% سنة 2010 الى 5,9سنة 2022.
ارتفاع ميتويات الفقر والهشاشة بسبب الجاءحة او التضخم من ستة 2019 الى سنة 2022، 3,2 مليون مغربي.
مستوى البطالة: 10,2% سنة 2017 الى 11,8% سنة2022 الى 15,8 سنة 2050 في المجال الحضري/ 5,5 في المجال القروي.