بين صناع النصر وصناع الهزيمة -د.محمد أكديد
ماإن تم إعلان وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل، وقبل حتى أن تجف دماء شهداء الحزب ويعود المهجرون من حاضنتهم الشعبية إلى ديارهم في الجنوب، حتى انبرت بعض الأصوات النشاز تخون الحزب وتعاتبه على التخلي عن غزة وتتهمه بالنفعية والبراغماتية خدمة لأجنداته السياسية داخل لبنان، متنكرة لكل التضحيات الجسام التي قدمها الحزب نصرة لغزة وإلى جهوده الكبيرة في مواجهة غطرسة وعدوان الكيان الصهيوني في المنطقة نيابة عن الأمة الإسلامية، بعد أن تخلت دول عربية وإسلامية وازنة في المنطقة والعالم عن نصرة غزة والقضية الفلسطينية، بل سارع بعضها إلى إنقاذ الكيان من الحصار الاقتصادي الذي فرض عليه من طرف محور الممانعة خصوصا من جماعة أنصار الله باليمن، والتي أغلقت البحر الأحمر أمام السفن المتوجهة إلى الكيان الغاصب مهما كانت جنسيتها.
هذه الأصوات هي نفسها التي كانت تكرس طيلة فترة المواجهة مع الكيان المحتل أفكار ومواقف الهزيمة توافقا مع السرديات الصهيونية والمتصهينة التي تتحين كل فرصة لتبخيس جهود المقاومة في المنطقة والطعن في رموزها وقياداتها، بل وتستكثر على من تبقى من الشرفاء والمقاومين داخل الأمة إلحاق الهزائم بهذا الكيان الدموي وإذلاله في عقر داره كما فعلت المقاومة اللبنانية والفلسطينية مرارا، فضلا عن الضربات الإيرانية التي كان الرد الإسرائيلي عليها خجولا باعتراف وسائل إعلام إسرائيلية.
وقد وقع هؤلاء غير ما مرة في فخ أكاذيب هذا الكيان بشأن سلاح حزب الله، بعد أن ادعى في أكثر من مناسبة قضاءه على الجزء الأغلب من ترسانته العسكرية، ليرد الميدان افتراءاته بعد أن باتت الصواريخ التي يمتلكها الحزب تصل إلى وسط تل أبيب، وبعد واقعة الأحد الأسود، والتي أطلق فيها الحزب حوالي أربعمئة صاروخ على الكيان مخلفا صدمة كبيرة وسط خصومه في الداخل والخارج فضلا عن الفيديوهات التي ظل يشاركها طيلة أمد المواجهة للأنفاق التي تحوي صواريخ نوعية بعضها لم يستعمل مما لم تستطع لا إسرائيل ولا أمريكا الوصول إليها.
وعودة إلى الاتفاق الأخير، وردا على من يحاول تصويره كهزيمة لحزب الله، فإن إسرائيل هي من طلبت الجلوس إلى الطاولة والتفاوض بشأنه بعد أن آلمتها ضربات حزب الله. ومن المعلوم أن المتوجس من الهزيمة هو الذي يطلب توقيف الحرب خاصة بعد الخسائر المتراكمة في صفوف الجند والمواقع والمنشآت العسكرية والاستراتيجية التي طالتها صوايخ الحزب في عمق الكيان.
أما اتهام الحزب بالنفعية والبراغماتية فهو اتهام باطل من عدة وجوه، أولها أن الحزب هو الذي اتخذ ومن تلقاء ذاته قرار إسناد غزة وذلك بالتنسيق مع باقي دول وفصائل محور الممانعة في إطار ماسمي بوحدة الساحات، حيث قام بما لم تقم به دول وجماعات سنية لم يكف بعضها عن ترديد شعارات نصرة الأقصى والقضية الفلسطينية منذ سنوات، ولما حانت ساعة الجد آثروا سياسة النعامة.
وثانيها أن ماقدمه الحزب من تضحيات، لم يقدمه أي طرف آخر غير حماس وشعب غزة، بدءا من التفجيرات الغادرة لأجهزة البايجر، واغتيال الصف الأول والثاني من قياداته بما في ذلك أمينه العام الاستثنائي في تاريخ الحزب والمقاومة بالمنطقة الشهيد السيد حسن نصر الله، إلى تهجير حاضنته الشعبية بالجنوب، حيث فقد أغلب جمهوره هناك منازلهم ومصادر رزقهم، فضلا عن أشكال التضييق التي تعرض لها بعض أنصاره من الجمهور الطائفي في لبنان.
من جانب آخر، فإن توقف الحرب في الجبهة اللبنانية لايعني أن المواجهة مع هذا الكيان العدواني قد توقفت، أو أن الحرب انتهت، فالحزب يبقى مجرد فصيل من داخل محور المقاومة الممتد من طهران إلى صنعاء، ولازال اليمنيون يفرضون حصارا بحريا خانقا على السفن المتجهة إلى الكيان فضلا عن تبني الجمهورية الإسلامية لقضية غزة في أي مفاوضات محتملة أو مرتقبة عبر وساطات مع الإدارة الأمريكية الجديدة، خصوصا في ظل رؤية ترامب التي تتجه إلى تهدئة الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط والعودة إلى طرح مشروع صفقة القرن عبر بوابة السعودية، ولإبعاد شبح الصراع مع روسيا في المنطقة مقابل التصعيد ضد الصين، مما يبعث فعلا آمالا لوقف العدوان على غزة خلال الأيام القادمة، خاصة وأن هناك أخبار متداولة بشأن اتفاق بين بايدن و ترامب على إنهاء مرحلة نتنياهو بعد أن بات ورقة محترقة بعد قرار المحكمة الجنائية الدولية بشأنه.
وختاما، يحاول صناع الهزيمة العزف على وتر تفكيك سلاح حزب الله مرة أخرى لتبرير قولهم بهزيمته، وذلك استنادا إلى بعض بنود الاتفاق التي توحي بذلك من خلال تفكيك المنشآت غير القانونية المعنية بإنتاج الأسلحة والمواد المتعلقة بها. وهو نفس ما سبق وأن تعرض له الحزب بعد حرب تموز 2006 دون أن يتم شيء من ذلك في الواقع، بل لقد ازدادت ترسانته العسكرية وتعززت بأسلحة نوعية فتاكة.
وفي المقابل يرفع صناع النصر شارة الانتصار على العدوان الصهيوني بعد منع جيشه من التوغل في لبنان بالرغم من تجنيده لخمس فرق عسكرية خيبت آمال قادتها ودفعت بعضهم إلى الاستقالة، كرئيس أركان لواء غولاني العميد يوآف ياروم، بعد أن كانوا يمنون أنفسهم بالدخول إلى بيروت مرة أخرى، كما خابت آمالهم في عودة المستوطنين إلى ديارهم رغم توقيع اتفاق الهدنة في الوقت الذي سارع فيه جمهور المقاومة إلى العودة إلى ديارهم بمجرد سماعهم باتفاق وقف إطلاق النار في مشهد يحبس الأنفاس ويعيد إلى الأذهان ذكريات نصر تموز 2006.
محمد أكديد-باحث في علم الاجتماع السياسي