ثقافة و فن

تضاريس ومنعرجات الطريق نحو الحقيقة والحرية بريشة الفيلسوف الألماني لودفيغ فويرباخ (الجزء الأول)

أحمد رباص

بادئ ذي بدء، يجدر التنبيه إلى أن مسندنا ومرجعنا خلال هذه المحاولة لن يتحدد سوى في مقال للفيلسوف الألماني لودفيغ فويرباخ كتبه ونشره سنة 1848 تحت عنوان: “الطريق نحو الحقيقة والحرية، ملاحظات حول جوهر الإيمان بحسب لوثر”. والجدير بالذكر أن فويرباخ اختتم بهذا النص إحدى أكثر الفترات إنتاجية في حياته الفكرية. وإذا كانت انتقادات اللاهوتيين والظروف السياسية تفسر تحول فويرباخ إلى دراسة لوثر، فإن الحقيقة تظل أن أهميتها تكمن في الحوار مع من يسميه “الإنسان الأول”: بالنسبة إلى فويرباخ كقارى للوثر، فإن الله الموجود لأجل الإنسان ألغى نفسه كإله في ذاته عندما أصبح محسوسا في المسيح، وأظهر، بإدراكه كمحبة، التكامل بين محبة الذات ومحبة الآخر. هكذا نجح فويرباخ، وهو يواجه المسيحانية اللوثرية، في تحقيق التوليف بين ماديته الحسية واختزاله الأنثروبولوجي لجوهر الله في جوهر الإنسان.
في نص منسوب منذ فترة طويلة إلى ماركس، نُشر عام 1843 في كتاب “حكايات عن الفلسفة الألمانية الجديدة” لأرنولد روج بعنوان “لوثر حكما بين فويرباخ وشتراوس”، يصع فويرباخ لوثر مقابل اللاهوتيين مثل شتراوس، وتتم مماثلته مع الفلاسفة التأمليين، ويتمثل نفسه كشرط لإمكانية الخلاص:
“أيها المسيحيون، اخجلوا، وأنتم المسيحيون الٱخرون المثقفون والعوام، المتعلمون والجهلاء، اخجلوا من التزام مناهض للمسيح بأن يظهر لكم جوهر المسيحية في شكلها الحقيقي المكشوف! وأنتم، أيها اللاهوتيون والفلاسفة التأمليون، أنصحكم بتحرير أنفسكم من مفاهيم وأحكام الفلسفة التأملية القديمة إذا كنتم تريدون الوصول إلى الأشياء كما هي، أي إلى الحقيقة. بالنسبة إليكم ليس هناك طريق آخر إلى الحقيقة والحرية إلا عبر جدول النار. فويرباخ هو مطهر الحاضر”.
هذا ما أعطى مقياس تأويل فويرباخ للوثر والأهمية التي كان يوليها له. في ختام أحد أكثر مراحل فويرباخ إنتاجية، في الوقت الذي كان يتم فيه تجميع كنابي “جوهر المسيحية” (1841 و 1843) و”مبادئ فلسفة المستقبل” (1843)، كان من المقرر أن يظهر لوثر في عام 1844، في نهاية الفترة التي انجذب فيها إلى راديكالية الشباب الهيجليين، ولا سيما من خلال اتصالاته مع جورج هيرويغ وأرنولد روج. لكن فويرباخ ليس مؤلفا سياسيا، ولا يريد أن يكون ثوريا، وبالرغم من أنفه تقريبا، ألقى دروسا حول جوهر الدين خلال الفترة من دجنبر 1848 إلى مارس 1849، بناءً على طلب من هايدلبرج وأمام جمهور متنوع. في غرفة بفندق مدينة هايدلبرغ، بعد أن رفضت الجامعة أن تفتح له مقراتها. وهذه المحاضرات، حسب رأي فويرباخ نفسه، هي “نشاطه العام الوحيد خلال هذه الفترة الثورية”. غير أنه كان من الصعب الانطلاق في التفكير النظري لنقد اللاهوت والدين دون الشعور بالعواقب السياسية على الفور، ولا سيما من خلال نشاط الرقابة. وبعبدا عن كونه ثوريا، أراد فويرباخ مع ذلك أن يكون مصلحا. تحمل العديد من كتابات الأربعينيات هذا الادعاء في عناوينها، وهي تردد بوضوح صدى لوثر.
في هذا السياق ظهر “جوهر الإيمان عند لوثر” كتكملة ل “جوهر المسيحية”. لماذا العودة إلى أطروحات “جوهر المسيحية” وتقديم تحليل “جوهر الإيمان عند لوثر” باعتباره “تكملة” له؟ في كتابه “جوهر المسيحية”، اعتقد فويرباخ أنه قد انتهى من كتاباته اللاهوتية، وكان يأمل في أن يتحول أخيرا إلى ما كان يهمه في ذلك الوقت، أي دراسة العلاقة بين الروح والطبيعة. هل أراد ببساطة أن يوضح مرة أخرى أطروحة مدعومة جيدا بالفعل أم أنه اكتشف شيئا جديدا من خلال التعمق في أعمال لوثر؟
في مقاربة أولى، يجب علينا بلا شك أن نرى في هذا الكتاب واللجوء إلى لوثر انعكاسا للوضع السياسي في ذلك الوقت، حيث ينضم الكفاح ضد الرقابة إلى تحديد اللاهوتي والسياسي. وهذا ما أظهره جون جلاس بشكل مقنع، والذي يمكن تلخيص حججه على النحو التالي: بالتركيز على لوثر، (1) يرد فيورباخ على انتقادات اللاهوتيين البروتستانت، وفي المقام الأول منهم لا بد من ذكر يوليوس مولر و (2) يمكر بالرقابة.
إن الانتقادات القادمة من اللاهوتيين البروتستانت، ولا سيما يوليوس مولر، تدعو إلى مبررات. تعرض فويرباخ لانتقادات خاصة لأنه ليس لديه فهم جيد للأفكار الكاثوليكية واللوثرية والكالفينية، ولخلطه بينها. كما تم انتقاده لأنه لم يستند إلا إلى “عدد قليل من اللاهوتيين من العصور الوسطى، ولا سيما المتصوفة” على حساب اللاهوتيين المعاصرين. في مقدمة الطبعة الأولى ل”جوهر المسيحية”، أكد فويرباخ أن المسيحية الحديثة ليس لديها ما تضيفه إلى المسيحية القديمة. في رده على يوليوس مولر، الذي رأى فيه “العدم المطلق، وبؤس اللاهوت”، يقدم فويرباخ ما سيكون أطروحة لوثر الرئيسية: “أصبح اللاهوت منذ زمن طويل كريستولوجيا، والأخيرة ليست سوى الأنثروبولوجيا الدينية الموحى بها”. ولهذا السبب لا يوجد سوى شخصية عالمية واحدة في البروتستانتية، وهي لوثر “صاحب الإصلاح، وذلك لأنه كان في تاريخ الديانة المسيحية الإنسان الأول”. ولم يعد لاهوتيًا. ولذلك نفهم أنه من خلال اتباع هذه الأطروحة العامة، انغمس فويرباخ في قراءة لوثر الذي سيكون حضوره قويا جدا منذ الطبعة الثانية ل”جوهر المسيحية”.
لكن الاهتمام بلوثر هو أيضا نتيجة لعلاقة فويرباخ بالرقابة. كان فيلسوفنا مصدوما، من بين أمور أخرى، بسبب الحظر المفروض على عمله في النمسا، والصعوبات التحريرية التي يواجهها الشباب الهيجليون، والحظر المفروض على “أطروحاته المؤقتة”، وهي واحدة من أكثر التعبيرات المباشرة عن فلسفته، وهو يفكر في ما تعنيه هذه الرقابة وما العمل لأجل الالتفاف عليها. هناك رسالة من عام 1842 إلى أرنولد روج بليغة في هذه النقطة. فيها يسلط فويرباخ الضوء على الأهمية السياسية لانتقاده للدين. فهو يرى في قطيعته مع المسيحية “قطيعة، بالمعنى الدقيق للكلمة، ليس مع الكنيسة، بل مع الدولة نظرا لأن الأخيرة ظلت مرتبطة ببعض المظاهر الكنسية الخارجية”. بالنسبة إلى الدولة، “الكتابات التي تحتوي على حقائق ليست علمية، بل عصيانية”. ولهذا السبب، كما يقول: “كان ينبغي لنا أن نكون أكثر حرصا وحكمة – ليس لأنفسنا، بل للقضية. المكر والحكمة هما أيضا جزء من الاستراتيجية. علينا ببساطة ألا نسمح بفرضها علينا. يجب أن نتقدم على العدو. […] ألمانيا لا تدعم بعد الإعلانات .” ولذلك يوصي فوبرباخ باستراتيجيات، مثل استبدال كلمة “الإلحاد” بكلمة “الألوهية الأنثروبولوجية” (anthropothéisme).:وهناك استراتيجية أخرى تتمثل، كما يوضح جلاس، في الإشارة إلى شخصية لوثر، هذا البطل الألماني الذي لا جدال فيه. وبالفعل، فقد مرت الطبعة الثانية، المعززة باقتباسات من لوثر، لكتاب “جوهر المسيحية” بسهولة على الرقابة.
(يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى