قانون الإضراب في ميزان فلسفة التاريخ: انتصار للحكومة أم بداية انهيارها؟-ذ: حسن تزوضى

الفلسفة والفكر ليسا ترفًا ذهنيا ولا اجهادا عقليا ، وليسا اصناما جامدة فاقدة للحياة ، ولا مجرد تأملات معزولة عن الواقع، بل هما أدوات لفهم الأحداث الكبرى التي تشكل مسار التاريخ، فكل واقعة سياسية أو قانونية ليست مجرد إجراء إداري أو تقنية تشريعية، بل هي تعبير عن أحداث كبرى تشكل وجها من أوجه الصراع داخل المجتمع، كما تشكل أيضا مؤشرات دالة عن حركية التاريخ والمسار الذي يسير فيه، لذلك لا يمكن فهم قانون الإضراب الذي صادقت عليه الحكومة المغربية بمعزل عن إطار نظري يساعد على كشف دلالاته العميقة وآثاره المستقبلية، في هذا السياق سأعتمد على تصور هيغل للتاريخ، خصوصًا مفهومه عن “مكر التاريخ”، لإدراك ما يجري لأن هذه الفكرة تكشف كيف أن الأحداث التي تبدو وكأنها انتصارات للقوى المسيطرة قد تتحول إلى عوامل انهيارها.
إذا نظرنا إلى هذا القانون من زاوية مباشرة، سنجد أنه محاولة من الحكومة لخنق الحق في الإضراب، خدمةً لمصالح الباطرونا وأصحاب النفوذ الاقتصادي، إنه قانون يسعى إلى جعل ممارسة الإضراب أمراً شبه مستحيل، من خلال اشتراطات بيروقراطية معقدة، وعقوبات مشددة على المضربين، وتحكم شبه مطلق في توقيت الإضرابات وسيرورتها، بهذا المعنى، يبدو وكأن الحكومة قد نجحت في فرض إرادتها، وإحكام قبضتها على الحركات العمالية والاجتماعية، لكن إذا تأملنا هذا الحدث من منظور فلسفة التاريخ سنكتشف أن ما يبدو انتصارًا للحكومة والباطرونا ليس إلا خطوة أخرى نحو تفككها وانهيارها.
يعلّمنا هيغل أن التاريخ لا يتحرك وفق إرادة الأفراد أو الحكومات، بل وفق منطق داخلي يتجاوزهم جميعًا، وهذا تحديدا ما يطلق عليه “مكر التاريخ” هو هذه القدرة العجيبة التي يمتلكها التاريخ لتحويل أفعال القوى المسيطرة إلى نقيض مقاصدها، أي أن هذه القوى تصبح مجرد أدوات ووسائل في يد التا ريخ ، فالسلطة التي تسنّ قانونًا لقمع الإضرابات تظن أنها تحمي استقرارها، لكنها في الواقع تسرّع انكشاف حقيقتها الاستبدادية، وتدفع المجتمع إلى مزيد من المقاومة والتنظيم، بهذه الطريقة يصبح هذا القانون القمعي جزءًا من الأسباب التي ستؤدي إلى انهيار الحكومة التي سنّته.
لقد كان جون جاك روسو يؤكد دائما أن القوانين التي تخدم فئة محدودة من المجتمع على حساب الإرادة العامة لا تدوم، لأنها تقوض السلم الاجتماعي ومن ثمة تساهم في نهاية الدولة وإن على المدى البعيد ،والحال أن الحكومة في المغرب قد تحولت إلى أداة في يد الباطرونا، وهي اليوم تسنّ القوانين بما يخدم مصالحها، وبالتالي تفقد وظيفتها كممثل للمجتمع، وتتحول إلى خصم له، في هذه الحالة يصبح الاحتجاج ضدها ليس مجرد مطلب اقتصادي أو اجتماعي، بل ضرورة وجودية تاريخية تفرضها طبيعة الأشياء ومنطق الوجود والتاريخ ، لهذا فإن هذا القانون ليس نهاية المعركة، بل بداية مرحلة جديدة من الصراع، حيث سيتحول النضال ضد هذا القانون إلى أداة لفضح الحكومة وكشف ارتباطها الوثيق بمصالح الطبقة المسيطرة.
إن مكر التاريخ يجعل من كل محاولة للقمع خطوة نحو تفكيك السلطة التي تمارسه، فالحكومات التي تسنّ مثل هذه القوانين لا تدرك أنها بذلك تعلن عن أزمتها، لأن القوانين التي تلجأ إليها لا تكون ضرورية إلا عندما يصبح النظام غير قادر على ضبط المجتمع بوسائل أخرى، القانون العادل لا يحتاج إلى القوة ليفرض نفسه، لأنه يجد قبوله الطبيعي داخل المجتمع، أما القانون الظالم فلا يمكن أن يُفرض إلا بالعنف، وهذا هو ما يكشف ضعفه وهشاشته.
إذن بدلًا من أن نرى في قانون الإضراب انتصارًا للحكومة، يجب أن نراه كدليل على ضعفها وخوفها، فلو كانت الحكومة قوية ولها شرعية حقيقية، لما احتاجت إلى مثل هذا القانون، ولما لجأت إلى التضييق المفرط على الحريات، وهذا ما يجعلنا نقرأ هذا الحدث في سياق تطور تاريخي أوسع: فالقوى التي تعتقد أنها تستطيع وقف حركة التاريخ عبر القوانين القمعية، تسرّع دون أن تدري انهيارها، لأن التاريخ، كما يقول هيغل لا يعود إلى الوراء، بل يتقدم دائما نحو تحقيق غاياته حيت الحرية هي غايته النهائية.
إن ما يجري اليوم في المغرب ليس مجرد صراع حول قانون، بل هو حلقة جديدة في مسار طويل من المواجهة بين المجتمع والسلطة التي تضع نفسها في خدمة الباطرونا، وإذا كان مكر التاريخ قد أثبت لنا شيئًا، فهو أن مثل هذه اللحظات التي تبدو انتصارًا للاستبداد، ليست في الحقيقة إلا مقدمات لتحولات كبرى، وأن القوانين الجائرة ليست سوى إعلان عن بداية النهاية.