ثقافة و فن

الموسيقى اللامقامية بين شونبرغ و سترافنسكي -الدكتور المصطفى عبدون

لقد اعتادت الموسيقى الكلاسيكية الغربية خلال ثلاثة قرون، أن تسير على نظام خاص يقوم على ثلاثة محاور أساسية هي: المحور التونالي والإيقاع والهارموني. يقوم المحور التونالي على نغمة أساسية يسعى العمل الموسيقي دائما استقرار عندها. كانت القطعة الموسيقية تبدأ من سُلَّم معين، وتنتهي بنفس السُّلَّم ضرورة، والمستمع لا يشعر بارتياح نفسي تلقائي إلا ببلوغ هذا الاستقرار، إلا أن الحصار على النظام التونالي ظهر بوضوح مع تجربة الموسيقي النمساوي”آرنولد شونبرغ” “الذي تبلور في منظومته التي عرفت باسم الإثني عشرية “الدوديكافونية” والتي ألغت تماما كل الارتباط بمفاهيم السلالم الموسيقية الموروثة، وحققت نوعا جديدا من “عقلنة” الموسيقى وتجريدها”.(سمحة أمين الخولي، حصاد القرن العشرين في الموسيقى، ص182)

وهكذا ظهرت “ابتكاراتٌ” عديدة في كل ميادين الموسيقى ويتعلق الأمر باللامقامية والاثني عشرية (الدوديكافونيه). فعند “شونبرغ” Schönberg يُقضَى تمامًا على السُّلم الغربي بفرعيه الكبير والصغير، وتزول أهمية الأبعاد بين الأصوات، ويصبح لكل نصفِ صوت من الاثني عشر نصفًا، التي يتكوَّن منها ذلك السلم، نفسُ الأهمية التي للآخر. (فؤاد زكريا، مع الموسيقى ذكريات ودراسات، الأساس العقلي للموسيقى الحديثة، مؤسسة هنداوي، 2017، ص88). إلا أن بعض المؤلفين المجددين لم يقطعوا صلاتهم نهائيا بالماضي، بل احتفظوا ببعض دلائل الإحساس بالمركز التونالي، كما هو الحال في عدد من مُؤلفات “إيغور سترافانسكي”.

  • اللامقامية عند أرنولد شونبرغ

تعني الموسيقى اللامقامية (atonale) القضاء على إحساس المستمع بالمقامات الكبيرة أو الصغيرة، حيث لا مركز ثقل لحني يجذب المستمع، بل قاعدة رياضية تحمل بنية الموسيقى، أي الاستغناء عن الدور الذي تلعبه الأصوات الأساسية للسلالم الموسيقية، والتي تسيطر على العمل الموسيقي، وكذلك القفلات التي تعتمد على الهارمونية للعودة إلى المقام الأساسي وإعطاء الإيحاء بالنهاية أو الاكتمال أو الاكتفاء، وذلك لأن المقامات والأبعاد الموسيقية قد استنفدت أغراضها في العصور السابقة، ولم تعد تساير الزمن الذي يسوده القلق والتوتر والحروب.

أدرك “أرنولد شونبرغ” “أن النظام الدياتونيكي، بديوانه الكبير والصغير، قد أخذ يتحلل ويتفكك طوال ما يربو على خمسة وسبعين عاما، وأن الفلسفة الجمالية للموسيقى الغربية، المبنية على مبدأ المقامات التي يتألف منها الديوانان، قد أخذت تنهار. ذلك لأن التلوين الكروماتيكي الذي حفلت به موسيقى الفترة الأخيرة من القرن التاسع عشر، قد عمل على هدم النظام النغمي الذي كان يكون جزءا أساسيا من مفهوم التركيب المنطقي للموسيقى في الغرب، وهو المفهوم المرتكز على النظام الدياتونيكي”.(جوليوس بورتنوي، الفيلسوف وفن الموسيقى، ص282)

ولقد كتب “شونبرغ” يقول “لقد كانت الضرورة هي التي أملت طريقة التأليف بالأنغام الاثنى عشرية. فخلال المائة عام الأخيرة، طرأ تغير هائل على مفهوم الهارمونية بفضل التلوين الكروماتيكي. وكان أول التطورات هو تحول الفكرة القائلة إن نغمة واحدة أساسية، هي الجدر، تتحكم في تركيب أعمدة التآلفات الهارمونية وتنظم تعاقبها، أي مفهوم المقامية tonalité إلى الفكرة القائلة بالمقامية الممتدة extenty tonality وسرعان ما أصبح من المشكوك فيه أن كان هذا الجدر الهارموني قد ظل هو المركز الذي ينبغي أن يرد إليه كل توافق(هارموني) وكل تعاقب توافقي. كذلك أصبح من المشكوك فيه إن كان لنغمة الأساس، أو الجدر الهارموني حين يظهر في بداية التأليف، أو في ختامه، أو في أي موضع آخر له معنى إيجابي.

اعتبرت “سمحة أمين الخولي” أن الأسلوب التعبيري الجديد مضى في “مسيرة إضعاف اللحن وإفقاره في نفس الاتجاه على يد شونبرغ، فكتب موسيقى متجردة من الارتباط بالمحور التونالي، موسيقى لاتونالية atonale ولم يمض وقت طويل، حتى ألقى بقنبلته التي فجرت اللحن والمحور التونالي حين ابتكر سنة 1922 منظومة جديدة لا تعتمد على أي سلالم بل على صفوف من النغمات يختارها المؤلف من بين الإثني عشر نصف بعد صوت كروماتيكي في الديوان الموسيقي، وفي هذه المنظومة الإثني عشرية أو الدوديكافونية تساوت النغمات وتحولت الألحان إلى نقاط من النغمات المتناثرة. وبهذا التحول التاريخي الجريء، اكتملت دائرة انحسار المحور التونالي، الذي عرفته الموسيقى الغربية منذ عصر النهضة”.(سمحة أمين الخولي، المرجع السابق، ص166)

اعتبر عزيز الشوان أن “الجرأة في التجديد ضرورة ولكن تحطيم القواعد والأصول لا يمكن أن يعطي فناً له بقاء، إنه بدعة سرعان ما تزول دون أن تترك أي أثر. ويخطئ من يتصور أن النظام المقامي قد انتهى عصره بفعل التجديدات الكروماتيكية التي ابتكرها “ريتشارد فاغنر” و”سيزار فرانك” أو بفعل التأثيرية الفرنسية عند ديبوسي ورافيل، كما أن اللامقامية التي ابتدعها أرنولد شونبرغ أو الاثنتي عشرية، التي هندسها في اتجاهات متطرفة عرضت الجمال في الموسيقى للاختفاء أو الزوال، بل أستطيع أن أقول إنها دمرت الجمال والسلاسة والبساطة وقضت عليها تماماً بحجة التعبير عن أحاسيس جديدة تناسب عصر ما بعد الحروب أو عصر القلق. ولتصوير تلك الأحاسيس يستعمل هؤلاء المجددون كتلا صوتية شديدة التنافر أقرب إلى الإزعاج منها إلى الاستمتاع بحجة اكتشاف أشكال جديدة أو الانصياع دون تروٍ لرغبة التجديد حتى لو كانت النتيجة إلى أسوأ”.(عزيز الشوان، الموسيقى تعبير نغمي ومنطق، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب،2005، ص 54)

  • إيغور سترافنسكي بين المقامية واللامقامية

ينفرد “إيغور سترافنسكي” من بين مؤلفي القرن العشرين بمكانة رفيعة، ليس في موطنه روسيا فحسب، بل وفي العالم كله. استطاع أن يغير فيها وجه الموسيقى الغربية بجرأة أسلوبه، التي صدمت العالم الموسيقي، وخاصة في الباليهات القومية المبكرة، لكنها فتحت عيون المؤلفين في هذا القرن على طاقات تعبيرية جديدة ومذهلة لم تكتشف من قبل. “يقف سترافنسكي مع المُؤلف شونبرغ من حيث الخلق البارع والتأثير بصفته واحدا من شخصيتين المهيمنتين في موسيقى القرن العشرين. وفي الواقع كان تأثير أعظم، ففي الوقت الذي كان فيه جهد شونبرغ الرئيسي مُنصبًّا على مواصلة التقليد السيمفوني النمساوي-الألماني، ولع سترافنسكي بالبدائل المتطرفة لذلك التقليد. إن التغيير الجدري لموسيقى القرن العشرين كان ميزة بارزة جدا، كان أكثر من نتاج تطوري”.(ديالي حنانا، إيغور سترافنسكي، الحياة الموسيقية العدد 27، وزارة الثقافة السورية، دمشق 2002، ص 102)

تأمَّل سترافنسكي النظام القديم الذي كان يسير عليه اللحن، وهو أن يستمر في جملٍ وأنصاف جمل موسيقية منتظمة، وينتهي بسكون كما تنتهي الكتابة إلى نقطة، وأدرك أن هذا التوقُّف النهائي والتوقُّف الجزئي المتوسط لا داعي له على الإطلاق؛ “فليس هناك ما يدعو إلى أن يتخذ ختام اللحن شكل النقطة النهائية؛ لأن اللحن ليس جملة، بل هو خط ممتد لا يتطلب قاعدة معينة ينتهي على أساسها، وإنما يتوقف حيثما يشاء مزاج كاتبه. كذلك لم يرَ داعيًا لالتزام ذلك النظام المطرد في الإيقاع، أو التقيد بنفس عدد الضربات داخل الحاجز الموسيقي الواحد، بل يمكننا بتنويع نظام الضربات أن ندفع الملل عن نفس السامعين، ونقدِّم إليهم إيقاعًا يتجدد دوامًا”.(فؤاد زكريا، مع الموسيقى ذكريات ودراسات، المرجع السابق، ص 88)

إن مبدأ الرفض شيء أساسي في أعمال سترافنسكي، “إن غموض فكرة الرفض هو وسيلة إلى الإستطيقية الكلية في هذا الميدان. وقد أكد مُريدو سترافنسكي على ذلك حسب مفهوم “بول فاليري” القائل: إن الفنان ينبغي أن يقيم انطلاقا من مستوى موقفه الرافض”.(علي الشوك، أسرار الموسيقى، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق، 2003، ص180).

ينطلق سترافنسكي من فرضية أساسية وكما يقول: “إني أرى الموسيقى في جوهرها غير قادرة عن التعبير عن أي شيء: مهما كان شعورا، أو موقفا، أو حالة سيكولوجية، أو ظاهرة من الظواهر الطبيعية. إن التعبير لم يكن أبدا خاصة ملازمة للموسيقى. إن سبب وجودها ليس مشروطا أبدا بوجوده، إنه ببساطة عنصر إضافي. وبسبب عُرفٍ مُتَّفَقٍ عليه وجرى تأصيله فقد ألبسناه إياه، أي التعبير، وفرضناه عليها كلصاقة أو كقرار. وباختصار كأسلوب متبع وبحكم العادة أو بشكل غير واع وصلنا إلى خلطه مع جوهرها”. (إيغور سترافنسكي، بيير باربييه، أداء أعمال سترافنسكي، ترجمة من الفرنسية إلى العربية أبان زركلي، الحياة الموسيقية العدد 27، وزارة الثقافة السورية، دمشق 2002، ص150)

 خاتمة

اتبع شونبرغ منذ بداية مسيرته الفنية المبادئ الفلسفية والجمالية للتعبيرية التي يعتبر مؤسسها في مجال الموسيقى، هذه المبادئ التي تنص على التعبير المباشر وغير المجمل لأعمق المشاعر الإنسانية، مخاوفه وآلامه ومعاناته. بالمقابل اتبع سترافنسكي جماليات الفلكلورية والكلاسيكية الجديدة التي تجمعها فكرة التعبير غير المباشر من خلال التقليد والتشبيه والتلاعب بأسلوب التأليف الموسيقي لعصور سابقة أكثر أو أقل قدما.

يتفق إيغور سترافنسكي مع شوبنرغ على أن المقام الدياتونيكي قد استنفد أغراضه، لكنه يرى أن استخدام للأنغام الاثنى عشرة بطريقة مفرطة في التنظيم لا يمكن، على الإطلاق، أن يكون حلا يؤدي إلى بناء نظرية جمالية جديدة. وإنما يعتقد أن لكل قطعة موسيقية خصائصها الفريدة في ذاتها، ولها منطقها الخاص الذي يجعلها مختلفة عن كل القطع الأخرى. اشتهر بالتحولات العديدة في أسلوبه، إلا أن آخر تحولاته الأسلوبية جاء مفاجأة كبيرة حيث بدأ يطرح الأسلوب الدياتونيكي والذي التزم به حتى النهاية على الرغم من كل ما أدخله إليه من إضافات هارمونية كادت تخفي المحور التونالي.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى