إمانويل رينو: تضامن العقلانية الشكلية والتجريبية عند هيجل (الجزء الأول)

أحمد رباص
في إطار توزيع المهام بين أعضاء الفريق الذين انتدبوا أنفسهم لقراءة “فينومينولوجيا الروح”، كان من نصيب ايمانويل رينو مقدمة الفصل الخامس والقسم (أ) منه، وجاءت مساهمته تحت عنوان: “التضامن بين العقلانية الشكلية والتجريبية” مشكلة الفصل السابع من هذا المؤلف الجماعي الحامل لهذا العنوان: “قراءة كتاب ‘فينومينولوجيا الروح لهيجل'”.
عندما أعاد هيجل صياغة تحليلات “فينومينولوجيا الروح” في “الموسوعة” (وفي المدخل)، اقترح نسخة مختصرة تتوافق بدقة مع الفصول الأربعة الأولى من الكتاب الذي ألفه عام 1807، ولكننا لا نجد فيها شيئًا عن التطورات التي نقلت القارئ من الفصل الخامس إلى الفصل الثامن. أكيد أن القسم الأخير من “فينومينولوجيا الموسوعة” يحمل كعنوان “العقل”، وفي كلتا الحالتين يشير مفهوم العقل إلى التوليف بين الوعي والوعي الذاتي، ولكننا مع ذلك ندرك فروقاً كبيرة في الدلالات والوظائف المنسوبة إلى هذا المفهوم.
في الموسوعة، تم تعريف العقل بأنه “الحقيقة في ذاتها ولذاتها” و”الهوية البسيطة لذاتية المفهوم وموضوعيته وكونيته” (الموسوعة III الفقرة 438). ويقال أيضا إنه “الحقيقة باعتبارها معرفة”. ذلك أن له هنا كتحديد الخاص، كصورة داخلية، المفهوم الخالص الموجود لذاته، والأنا، اليقين بالذات باعتباره كونية لا نهائية ( الموسوعة III الفقرة 439).
إن هذا التعريف يتوافق بدرجة أقل مع “العقل” كما هو مفهوم في الفصل الخامس من “فينومينولوجيا الروح” مما يتوافق مع “المعرفة المطلقة”، أي العرض في شكل مفهوم المعرفة التي تعرف نفسها بأنها مطابقة لموضوعها. سوف يؤكد هيجل بالفعل في الفصل الثامن أن في المعرفة المطلقة، أو “المعرفة التي تتصور”، ” لا تكون الحقيقة فقط مساوية تماما لليقين في ذاتها، بل يكون لها في ذاتها أيضا شكل اليقين، أو مرة أخرى، تكون […] بالنسبة إلى الروح التي تعرف، في شكل معرفة بذاتها” (881/427-428). في عام 1807، كان مفهوم العقل يعني شيئا مختلفا تمامًا عن “المعرفة المطلقة”، والتي تم تأجيل عرضها بعد ثلاثة فصول، مما يبدو أنه (التأجيل) ينطوي على شكل معين من أشكال التقليل من قيمة العقل، وهو أمر متناقض في مؤلف حدد دائمًا المعرفة التأملية بالمعرفة العقلانية بامتياز. ولكن المعرفة العقلانية في شكلها الحقيقي ليست هي التي تخضع للنقد في الفصل الخامس، بل ما يسميه هيجل في نهاية مقدمة هذا الفصل “المفهوم المجرد للعقل” (321/137)، والذي يهدف من خلاله إلى تصور مغلوط للمعرفة العقلانية، يشترك فيه حسب رأيه كانط وفيخته وكذلك التجريبية العلمية، ويجد نظيره في مختلف التصورات غير المتاسبة للعقلانية العملية.
وبما أن تجانس هذه المفاهيم المختلفة للعقلانية النظرية والعملية بعيد كل البعد عن الوضوح، فإن وحدة الفصل الخامس تشكل تحديًا يتعين على الشراح رفعه.
في ما يلي من سطور، سوف ندرس المقدمة التي تنتقد المفهوم الصوري للعقل، والقسم (أ)، “العقل الملاحظ”، الذي يندد بمختلف التصورات غير المواتية لدعن الملاحظة العقلانية للطبيعة. هناك استمرارية قوية بين هذا المقدمة وهذا القسم (أ) اللذين يحددان على النقيض من ذلك متطلبات التوصل إلى تصور أكثر كفاية للعقلانية، واللذين يعلنان بالفعل عن الفصل الثامن، “المعرفة المطلقة”. إن القسمين (ب)، “التحقيق الفعلي للوعي الذاتي”، و(ج)، “الفردية التي هي واقعية في ذاتها ومن أجل ذاتها”، اللذين سيتم تحليلهما في الفصل التالي، يشكلان انتقالاً إلى إشكالية الفصل السادس، “العقل”. يميز هيجل نفسه القسم (أ) عن القسمين (ب) و(ج) من خلال توضيحه، في التطوير التمهيدي للقسم (ب)، أن القسم (أ) أعاد صياغة الفصول من (1) إلى (3) في عنصر العقل، وأنه ما يزال يتعين إعادة صياغة محتوى الفصل الرابع في نفس هذا العنصر (431/293).
العقل والمثالية (مقدمة الفصل الخامس)
من الفهم إلى العقل
إذا كان من غير المشكوك فيه أن هيجل يفهم هنا، كما هو الحال في بقية النسق، معنى مفهوم العقل من خلال التمييز الكانطي بين الفهم والعقل، فيبقى مع ذلك أن هذا التمييز لا يفهمه كانط وهيجل بنفس المعنى. عند الأول، يعني الفهم والعقل، كما الحساسية، ملكات العقل التي يتأكد استقلالها من خلال أنواع التمثلات الخالصة التي تنشأ عنها: حدوس خالصة للمكان والزمان للحساسية من ناحية، مفاهيم خالصة للفهم من ناحية أخرى، وأفكار العقل أخيرا. إن الأمر يختلف تمام الاختلاف مع هيجل، الذي ينتقد مفهوم “ملكات العقل” نفسه، لأن الأخير يفترض أن العقل يشبه شيئا يتمتع بخصائص مختلفة مستقلة عن بعضها البعض، في حين أن العقل هو في الأساس نشاط، وما نعتبره خطأً ملكات مستقلة ليس سوى لحظات النشاط نفسه. إن هذا الرفض لسيكولوجيا الملكات يجد أحد أكثر صياغاته إثارة للانتباه في مقطع من قسم “العقل الملاحظ” حيث يلاحظ هيجل ساخرًا أن “سيكولوجيا الملاحظة […] يجد كل أنواع القدرات والميول والعواطف […] بحيث نندهش من أنه في العقل، كما في الحقيبة، يمكن لأشياء محتملة بهذا التنوع والتباين الكبير أن توجد جنبًا إلى جنب” (383/169).
إن التمييز بين الفهم والعقل لا يشير إلى نوعين من الملكات، بل إلى نوعين من المعرفة يجب التمييز بينهما من خلال وجهتي نظر متميزتين سنسميهما، من أجل التبسيط، ظاهرياتية ومنطقية: وجهة النظر الظاهرياتية تتعلق بعلاقة المعرفة بالموضوع، ووجهة النظر المنطقية تتعلق بالهيكلة الداخلية للمعرفة. من وجهة نظر منطقية، يشير الفهم إلى المعرفة المبنية على إخضاع الظواهر لأفكار كونية لا يمكن تفسيرها إلا جزئيًا في محتواها المنطقي، والتي تحافظ على علاقات خارجية مع بعضها البعض: يتم وضعها في علاقة مع بعضها البعض لتفسير شيء آخر غير نفسها، ألا وهو الظواهر. بهذا المعنى تؤكد مقدمة “الفينومينولوجيا” أن الفهم “لا يصل بالتأكيد إلا إلى الأفكار التي هي في حد ذاتها تحديدات معروفة وثابتة وساكنة” (105/27): “معروفة” ولكن لم يتم توضيح محتواها الفكري؛ “ثابتة ومستقرة” وليست في علاقة متأصلة مع بعضها البعض. على العكس من ذلك، فإن فكرة العقل تشير إلى الحركة الذاتية للمفهوم بقدر ما هي تفسير للمحتوى المنطقي لأفكار الفهم والعلاقات الداخلية التي تحافظ عليها مع بعضها البعض. بهذا المعنى، يعتبر العقل في هذه المقدمة نفسها بمثابة “تحويل للأفكار الثابتة” (107/28) بحيث يحولها إلى “مفاهيم”: “بواسطة هذه الحركة، تصبح الأفكار الخالصة مفاهيم ولا تكون بعد ذلك إلا ما هي عليه في حقيقتها، حركات ذاتية” (108/28).
إذا كان المعنى المنطقي للتمييز بين الفهم والعقل يسود في المقدمة، كما في النسق الموسوعي، يففي سيرورة “الفينومينولوجيا”، يأخذ التمييز بين الفهم والعقل (اللذين يظهران كليهما في عنوان الفصلين الثالث والخامس) معنى فينومينولوجيا يتعلق بعلاقة المعرفة بالموضوع. في الفصل الثالث، يعني مصطلح “الفهم” تصورا عن المعرفة قائما على الاعتقاد بأن هناك حقيقة أكثر في الفكر مما في الإدراك لأن الفكر وحده مؤهل لإدراك الجوهر كمبدإ دينامي (قوة) ظاهرته، أي موضوع الإدراك، ليس شيئا آخر غير التخارج. إن حقيقة الأفكار تتوقف على مدى ملاءمتها لشيء في ذاته (عالم فوقحسي) موجود بشكل مستقل عن الفكر. ومن هنا جاء عنوان الفصل الرابع: “القوة والفهم”.
إن حقيقة الأفكار تتوقف على مدى ملاءمتها لشيء في ذاته (عالم فوقحسي) موجود بشكل مستقل عن الفكر. ومن هنا جاء عنوان الفصل الرابع: “القوة والفهم. الظاهرة والعالم الفوقحسي”. على العكس من ذلك، تعني فكرة العقل في الفصل الخامس أن اليقين بأن في معرفة الشيء يتمكن هذا الشيء من الولوج إلى حقيقته، بحيث يفقد التعارض بين المعرفة والشيء في ذاته معناه: لا ينبغي البحث عن حقيقة الظواهر في عالم فوقحسي ينبغي للفكر أن يلم به، ولكن في العقلانية المحايثة للظاهراتية، التي، باعتبارها كذلك، لا توجد في أي مكان آخر غير الفكر العقلاني للظاهراتية. بهذا المعنى يؤكد هيجل: “العقل هو يقين الوعي بأنه كل الحقيقة” (313/133) أو “اليقين بكونه كل الحقيقة” (315/134). وفي أشكال الوعي التي تمت دراستها في الفصل الخامس، نجد التعبير عن القناعة، حسب هيجل الحقيقي، بأن العقلانية الحقيقية هي العقلانية المحايثة للظاهراتية، وأنها قابلة لان تكون معروفة. سيتم صياغة هذه القناعة في “مبادئ فلسفة الحق” (ص: 129)، ثم في الموسوعة (الجزء III، الفقرة 6) في شكل التأكيد المزدوج الشهير الذي يحدد أحد التوجهات الأساسية في الفلسفة الهيجلية: “كل ما هو عقلاني هو واقعي، وكلما هو واقعي هو عقلاني”. أحد التحديات التي يواجهها الفصل الخامس هو توضيح معنى ذلك التوجه على وجه التحديد. إن دراسة سلسلة جديدة من تجارب الوعي سوف تجعل من الممكن ان نطرح جانبا عددا معينا من المغالطات المتعلقة في نفس الوقت بكل طرائق المعرفة العقلانية يالواقعي وطبيعة الواقعية.
إن العيب الأول في هذه الأشكال من الوعي التي تم جمعها في الفصل الخامس يرجع إلى طبيعة المعرفة العقلانية المحايثة للواقعية. القناعة المشروعة بأن العالم عقلاني وقابل للمعرفة كما هو تتوافق في تلك الأشكال مع اعتقاد خاطئ بأن مبادئ الفكر الشكلي تسمح لنا بمعرفة هذه العقلانية المحايثة. تتميز هذه العقلانية الشكلية في المقدمة والقسم (أ) بالإحالة المزدوجة إلى المثالية المتعالية لكانط وفيخته وإلى ممارسة العلوم التجريبية. تقترح الفلسفة المتعالية مفهوما صوريا للعقلانية بقدر ما تجعل مبادئ معرفة الطبيعة تعتمد على تشكيل المحتوى المحسوس من خلال الأشكال الفكرية الخالصة لموضوع. تفترض علوم الملاحظة أيضًا تصورا شكليا للعقلانية بقدر ما تختزل المبادئ العقلانية إلى مبادئ تنظيم الملاحظات والتنظيم العقلاني للملاحظات إلى تصنيفات وقوانين.
ما ليس كافيا في أنماط المعرفة التي درسناها في الفصل الخامس يكمن في كونها عقلانية بالمعنى الفينومينولوجي للتمييز بين الفهم والعقل، دون أن تكون عقلانية بالمعنى المنطقي للعقلانية النظرية. إنها في الواقع تتعهد بمعرفة العقلانية المحايثة للواقعية من خلال الإحالة إلى تصور شكلي لعقلانية المعرفة، صادر عن عقلانية الفهم، في حين أن معرفة العقلانية المحايثة للواقعية تثدر عن نوع آخر من الفكر العقلاني، وهو الفكر التأملي أو “المعرفة المطلقة”.
العيب الثاني لهذه الأنماط من المعرفة يكمن في تصورها للواقعية. دعونا أولاً نتذكر معنى مفهوم الواقعية (Wirklichkeit) المحدد لموضوع هذا الشكل من الوعي والحاضر في كل ثنايا هذا الفصل. حدد قبلا موضوع الفلسفة في المقدمة (119/34)، وسوف يقوم أيضا بأداء هذه الوظيفة في الموسوعة (الفقرة 6 وما يليها). ستعرف الموسوعة الواقعية بأنها تجاوز لثنائية الجوهر ومظهره، أو الداخل والخارج (الجزء الاول، الفقرة 142) . تعني الواقعية كذلك الواقع الظاهري بقدر ما تلبي المتطلبات النظرية والعملية للفكر العقلاني ( الموسوعة، الجزء الأول، الفقرتان 6 و38). لكن مطلب تجاوز ثنائيات الداخل والخارج من جهة، والعقلاني والظاهراتي من جهة أخرى، ظهر في الفصلين السابقين. في الفصل الثالث، لا يستطيع الفهم أن يلبي مطالبه النظرية إلا في فكر عالم فوقحسي، بينما في الفصل الرابع، لا يستطيع الوعي الذاتي أن يلبي مطالبه العملية إلا في فكر عالم آخر. وكما أن ضرورة تجاوز ثنائية الجوهر، أو الداخل، والظاهرة، أو الخارج، تم تحقيقها في نهاية الفصل الثالث، فإن انتقال الوعي الشقي إلى العقل يؤكد ضرورة تجاوز ثنائية العقلاني والواقغي. بهذا المعنى يكتب هيجل أن الوعي الذاتي “يكتشف العالم باعتباره عالمه الواقعي الجديد الذي له مصلحة في ثباته، تماماً كما لم يكن له في اللحظة السابقة مصلحة إلا في اختفائه” (312-313/132-133).
إذا كانت المعارف التي تمت دراستها في الفصل الخامس تتميز بتصور موضوعها باعتباره الواقعية، فإنها مع ذلك تعاني من تصورات غير مناسبة حول ما يشكل الواقعية. إن استخدام شكلانية التصنيفات والقانون مرتبط بتصور عن الطبيعة والعقل كما هو مكون من تحديدات ثابتة ومستقلة نسبيا، بحيث لا يمكن أن تكون علاقاتما إلا خارجية بالنسبة ألى بعضهما البعض. وسوف نرى على وجه الخصوص، التعارض بين الداخل والخارج يظهر على السطح (في معرفة الحياة العضوية وكذلك في معرفة الروح الفردية). لقد أكدت المقدمة بالفعل على البعد الإجرائي للواقعية من خلال تعريفها بأنها “الميلاد والاختفاء الذي لا يولد ولا يختفي ولكنه موجود في ذاته” (120/35). سيكون قسم “العقل الملاحظ” فرصة للتأكيد على البعد الإجرائي الأساسي، أي البعد العلائقي والدينامي، للطبيعة والعقل، والتأكيد على أن الفكر الإجرائي وحده، أي “الحركة الذاتية” (131/40) للمفهوم والتي هي أيضا “محايثة ذاتيا للمحتوى”، يمكنه أن يعرفه بشكل مناسب. سيؤكد هيجل في الموسوعة أن “الفكرة هي إجراء بالأساس” (§ 215)، وبالتالي يدعم أطروحة عدم الفصل بين الأنطولوجيا والإبستيمولوحيا الإجرائيتين، التي، كما سنرى، تشكل أساس العديد من التطورات في قسم “العقل الملاحظ”.
(يتبع)