الحكامة الأمنية التوقعية و إرجاء دور المجلس الأعلى للأمن
رسالة مفتوحة إلى أنصار العدالة الانتقالية التوقعية حول مصير المجلس الأعلى للأمن الذي لم ينصب بعد

تُعَد “الحكامة الأمنية التوقعية” نهجًا استباقيًا لإدارة الأمن والحد من المخاطر قبل وقوعها، حيث تعتمد على استخدام البيانات والتقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة للتنبؤ بالتهديدات الأمنية المحتملة واتخاذ إجراءات وقائية. يتطلب هذا النهج تعاونًا مؤسسيًا قويًا وإطارًا تنظيميًا شاملًا لضمان فعاليته، وهو ما يبرز دور المجلس الأعلى للأمن كمؤسسة دستورية أساسية في إرساء هذه الحكامة.
فإذا كانت مكونات الحكامة الأمنية التوقعية تتجلى في جمع وتحليل كميات كبيرة من البيانات من مصادر مختلفة لتحديد الأنماط والسلوكيات المشبوهة، وكذا التنبؤ بالتهديدات باستخدام النماذج التنبؤية لتوقع الأحداث الأمنية المحتملةو بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي لتحسين دقة التنبؤات. وبتنسيق التعاون بين الجهات الأمنية والمؤسسات الحكومية والمجتمع المدني لتبادل المعلومات والخبرات ؛ من أجل التمكن من وضع خطط استجابة سريعة وفعالة للتعامل مع التهديدات ؛ فإنه يبقى
دور المجلس الأعلى للأمن استراتيجيا وحيويا حاسما في تعزيز الحكامة الأمنية التوقعية ؛ فهو مؤسسة دستورية تلعب دورًا محوريًا في وضع الاستراتيجيات الأمنية الوطنية التي تأخذ في الاعتبار التحديات المستقبلية والتغيرات في البيئة الأمنية ، هذه الاستراتيجيات تشمل اعتماد نهج استباقي يعتمد على الحكامة الأمنية التوقعية؛ وهي الضامنة يضمن للتنسيق الناجع والفعال بين مختلف الأجهزة الأمنية، بما في ذلك الشرطة والجيش وغيرها من الجهات المعنية بحفظ النظام العام وإنفاذ القانون ؛ هذا التنسيق الواجب والضروري لتحقيق الاستجابة السريعة والفعالة للتهديدات المحتملة، فهو يقوم ( أي المجلس ) بتقييم المخاطر الأمنية المستقبلية بناءً على تحليلات متعمقة للبيانات والتهديدات المحتملة ، هذا التقييم يساعد في اتخاذ إجراءات وقائية استباقية، وهو جوهر الحكامة الأمنية التوقعية.
وتجدر الإشارة إلى أن الحكامة الأمنية لا تقتصر على التنبؤ بالتهديدات فقط، بل تشمل أيضًا ضمان حقوق المواطنين وحماية خصوصياتهم؛ وبذلك فالمجلس الأعلى للأمن يضمن أن تكون السياسات الأمنية شاملة ومتوازنة، مع مراعاة الجوانب القانونية والأخلاقية؛ وابذي لا يعني سوى أن يلعب المجلس دورًا رئيسيًا في الموافقة على تطبيق التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الحساسة والمعطيات الضخمة، والتي تعد أدوات أساسية في الحكامة الأمنية التوقعية.
علاقة المجلس الأعلى للأمن بالحكامة الأمنية التوقعية:
الإطار القانوني والتنظيمي : يفترض في أن المجلس الأعلى للأمن هو من يضع الإطار القانوني والتنظيمي اللازم لحماية المواطنين وتحديد الاستراتيجيات الأمنية طويلة المدى، مما يدعم تطبيق الحكامة الأمنية التوقعية؛ ولذلك فقد كان أمر تأسيسه من أقوى توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة ؛ ولذلك تم التنصيص عليه ودسترته ضمن وثيقة 2011 ؛ وهو بهذه المكانة والصفة أوكل له العمل على تعزيز التنسيق بين مختلف القطاعات الأمنية، مما يعزز قدرة الدولة على استباق التهديدات والاستجابة لها بشكل فعال ؛ وبهذه الدستورية مخول له ضمان شمولية الحكامة الأمنية ، بحيث تشمل كافة الجوانب الأمنية والقانونية والاجتماعية، مع تحصين حقوق المواطنين وحماية خصوصياتهم.
فلماذا التعثر والتردد في تنصيب المجلس الأعلى للأمن ومحاولة انزياح الصلاحية نحو أجهزة أخرى (بديلة وغير ممأسسة دستوريا لهذه الغاية ) ؟؟ ؛ خاصة وأن الفصل 54 من الدستور المغربي ينص على إنشاء لمجلس الأعلى للأمن كهيئة دستورية تهدف إلى تعزيز التنسيق بين مختلف الأجهزة الأمنية والعسكرية تحت إشراف الملك، الذي يرأس هذا المجلس؛ و يُفترض أن يكون هذا المجلس إطارًا مؤسسيًا شاملًا يضمن التنسيق الفعال بين جميع الجهات المعنية بالأمن الوطني، بما في ذلك الأجهزة الأمنية والعسكرية والضبطية / القضائية. ومع ذلك، فإن التردد في تنصيب هذا المجلس منذ إقرار الدستور الجديد في عام 2011 يطرح تساؤلات حول أسباب هذا التأخير وآثاره على الحكامة الأمنية في المغرب ! وفي ظل غياب المجلس الأعلى للأمن، تظهر الاتفاقية بين المديرية العامة للأمن الوطني والوكالة القضائية للمملكة ؛ وكذلك اتفاقية سبق إبرامها مع المجلس الوطني لحقوق الإنسان ، كمحاولة لتعويض هذا الفراغ المؤسساتي ، هذه الاتفاقيتين تعزز التنسيق بين الأجهزة الأمنية والوكالة القضائية والمجلس الوكني بشكل ثنائي، دون الحاجة إلى إطار دستوري شامل مثل المجلس الأعلى للأمن. هذا الانزياح قد يعكس رغبة في الحفاظ على مركزية رقابة القرار الأمني في يد أجهزة محددة، بدل تفويضه لمجلس دستوري قد يفرض شفافية أكبر وتوزيعًا أوسع للسلطة؛ أليس المجلس الأعلى للأمن مؤهلا لحماية موظفي الأمن ؟ أليسوا موظفين عموميين سواسية مع كافة الموظفين المغاربة المكلفين بإنفاذ القانون وحفظ النظام ؟
في غياب المجلس الأعلى للأمن، يبقى التنسيق بين الأجهزة الأمنية محدودًا باتفاقيات ثنائية أو تعددية، مما قد يؤدي إلى نقص في التكامل والشمولية في إدارة الأمن الوطني، ولربما قد يعتبر التصخم في توفير الحماية خارج مبدأ تكافؤ الفرض ، وبطريقة تجعل ” العناية القصوى ” نوعا من انزياح السلطة العمومية ، في ضوء الإتفاقية مثلا ؛ وبحكم وفرة الدوريات والمناشير الداخلية تمنح إمتيازا قضائيا غير مؤطر تشريعيا ، قد يؤدي إلى تركيز سردية تفوق اعضاء السلطة الأمنية في؛ مما قد يحد من الشفافية ويضعف المساءلة.
لكن ومع ذلك فإن الاتفاقية بين المديرية العامة للأمن الوطني والوكالة القضائية للمملكة يمكن أن تُعتبر محاولة لتعويض غياب المجلس الأعلى للأمن من زاوية مهمة خلق التوازن بين الحق في الأمن والنظام وبين الحريات ؛ وعلى عكس ما يوحي به سياق وحدث توقيع هذه الاتفاقية، فإنها لا تعدو تعزز التنسيق بين الأجهزة الأمنية والوكالة القضائية، وهي أكثر من مهمة الدفاع ؛ فهي تشمل مجالات مثل الوقاية من المخاطر وتبادل المعلومات ؛ فيما بين المؤسستين ؛ ومع ذلك، فإن هذه الاتفاقية تبقى محدودة مقارنة بالإطار الشامل الذي يمكن أن يوفره المجلس الأعلى للأمن لفائدة المواطنين وكافة الموظفين العموميين والمكلفين بإنفاذ القانون . ليبقى السؤال حول الخلفية الحقيقية وراء الإتفاقية ؛ خاصة في ظل النقاش العمومي المفتوح حول تعديل قانون مهنة المحاماة في العلاقة مع باب توسيع مجال الدفاع عن الدولة والمؤسسات العمومية ؛ فهل من حقنا أن نتساءل علنيا ودون مواربة : اليست توقيع الإتفاقية تراجعا عن صرخة السيد الوكيل حول حق الدولة ومؤسساتها في تجويد المؤازرة والدفاع بعد كبوات قضايا “” المال العمومي ” المكلفة ، أمام المحاكم ؟
مصطفى المنوزي
رئيس المركز المغربي للديموقراطية والأمن