ثقافة و فن

المثقفون: لويس بودان-المصطفى عبدون

غالبا ما يحدث التباس كبير لدى الكثير ومنهم طبقة ” الأنتليجنسيا” أنفسهم في تحديد مفهوم المثقف ومعايير تحديده وعلاقته بالثقافة وعن مدى ارتباط المثقف بالتعليم، هذا بالإضافة إلى أسئلة أخرى لازالت تستأثر اهتمام الباحثين والدارسين بهذا الموضوع منها: هل يمكن اعتبار كل منتج للثقافة بمثابة مثقف؟ وهل كل متعلم مثقف؟

قام “لويس بودان” Louis BODIN بنشر أول عمل “المثقفون” “Les intellectuelles”، اعتبر بالريادي ضمن سلسلة “ماذا أعرف” سنة 1962، ساهم بشكل كبير في تحويل اهتمام بعض مؤرخي السياسة إلى عالم التاريخ الثقافي، في إطار مقاربة سوسيو-تاريخية محاولة تعريف مفهوم “المثقف”، حيث قام باستشكال الموضوع قصد الإجابة على سلسة من الأسئلة للوصول إلى إجابات تضع أمام القراء بعض التصورات والأفكار المتعلقة بهذا الموضوع. فقام في البداية بالبحث في الجذور التاريخية لاستخدام مصطلح المثقف.

تعددت التعاريف واختلفت المرجعيات والمقاربات في تحديد مفهوم “المثقف”، إلا أن الكاتب كان عارضا بأقصى ما يمكن من الوضوح لهذا الموضوع حيث قام بجرد موضوعي وشامل لمختلف التعاريف والتصورات التي تروم وضع تعريف لهذه الفئة الاجتماعية مبينا محدوديتها وأحيانا طابعها الذاتي.

  • جذور مفهوم المثقف

يعتبر لويس بودان أن “المثقف” كمفهوم هو حديث العهد، اكتنفه في بداية تحديده وتثبيته غموض والتباس في أوساط رجال الفكر والإعلام، حيث طغى على تعريفه الطابع الإيديولوجي على حساب المقاربة السوسيولوجية، حيث تم إغفال الخلفية التاريخية والوضعية الاجتماعية والبعد الثقافي. إذا كانت اللغة الانجليزية استعملت مفهوم المثقف بالمعنى الماهوي (substantif)، فإن المعاجم والقواميس والموسوعات الفرنسية لم تقم بإدماجه إلا في نهاية القرن التاسع عشر.

 فمفهوم المثقفين (Intellectuels) حديث نسبيا، ولكن قبل استعماله الشائع والأعم، كان هناك تنويه دائم بوجود الخاصة، أكثر حكمة وعلما وثقافة من عامة الناس، وبالأخص من فئاتهم الوسطى. هؤلاء الخاصة كانوا يسمونها (الإكليروس) في القرون الوسطى، وفلاسفة في عصر الأنوار. والحال فإن –المثقفين- الحديثين ورثوا تقاليد مناقضة تنضاف إلى تركيب زمرتهم الشديدة التنوع والاختلاف.

والمؤكد أن مفهوم المثقف في الغرب ارتقى بعد ميلاد قضية «ألفريد دريفوس» إلى معنى أقوى وأكثر تحديداً لدوره الريادي في المجتمع كصاحب رأي وقضية، وذلك عندما كتب المفكر الفرنسي “إميل زولا” مقالته الشهيرة: «إني أتهم»، والذي أدى بدوره إلى ظهور بيان حمل توقيع «المثقفين» في فرنسا على وثيقة تطالب بإعادة محاكمة المتهم «ألفريد دريفوس» بقضية تجسس لصالح ألمانيا، وذلك بعد ظهور أدلة تشهد ببراءته ومحاولة الحكومة اليمينية طمس الأدلة الجديدة على براءته. رسمت تلك القضية معايير جديدة للمثقف أو المفكر ترتكز على شرطين: أحدهما رغبته وإصراره على كشف الحقيقة، والشرط الآخر أن يكون شجاعاً، وأن يكون مستعدا للذهاب بالنقد إلى أبعد مدى، وأن يحدد ويحلل ويعمل من خلال ذلك على المساهمة في تجاوز العوائق التي تقف أمام بلوغ مجتمع أكثر إنسانية.

بعيدا عن الارتماء في محاولة إعطاء تعريف خارجي وثابت للمفهوم والذي تم مراكمته عبر بيانات ألفاظ المعاجم والقواميس والموسوعات من أنواع مختلفة والمقترحات النهائية التي تخدم إلقاء الضوء على هذه فئة، فإن الكاتب عمل على جمع وجهات النظر الاجتماعية والتاريخية التي من شأنها إنارة الدروب حول المفهوم ضمن منظور سوسيو-تاريخي يسلط الضوء على أنماط “التجميع الاجتماعي” “Agrégation sociale” التي ساهمت في نشأة المثقفين. يهرب المؤلف من خلال الخطاب المعتاد على المثقفين إلى نبرة تجاذبية غالبا ما تكون معيارية مشيدة بوضوحهم ومتأسفة على عماهم.

ظل الكاتب بعيدا عن النقاش والسجال الدائر حول كيفية معالجة علم الاجتماع وتاريخ المثقفين لهذا الموضوع، باتخاذ موقف ارتيابي وتشكيكي من المقاربات والتصورات المتداولة، متخذا موقفا أكثر قوة وجرأة مستلهما تصوره من ملاحظات وتصريحات “فيليكس غاتاري” Guattari “هذا المفهوم الفكري الذي أواجه هنا أكثر من أي وقت مضى، أصبح بدون توقف يزعجني “ما هو المثقف”؟ ليس هو ذلك الشخص الذي انتخب في المجال الاجتماعي لتمثيل وظيفة اجتماعية، بل إنني أفضل أن نتحدث عن روح ثقافية تخترق وتعبر المجتمع بأسره”.

يفضل لويس بودان، وبشكل كبير، أن نتحدث عن شيء آخر وهو تحويل الأنظار إلى مزيد من التركيز على أساليب وأنماط تشكل وضع المثقف بتحويل الانتباه نحو الجامعة، والمهن الفكرية والممارسات والسياسات الثقافية التي تساهم في إدماج ومشاركة المثقفين. هذه المقاربة ستساهم في انتزاع تاريخ المثقفين والتاريخ الاجتماعي للممارسات الثقافية من التاريخ السياسي الذي سيطر على الدوام، الأمر الذي سيجعل تاريخ المثقفين يفهم بنظرة جديدة وإعطاء التاريخ السياسي بعدا آخرا.

  • مفهوم المثقف: المقاربة السوسيو-تاريخية

لم يخفي لويس بودان صعوبة تناول موضوع “المثقفين” والتعامل معه من جميع الزوايا. فأمام معارك التعاريف، يفضل صاحب الكتاب الانطلاق من التعريف الذي وضعه “ريمون آرون” والذي جعل جماعة المثقفين تنطوي على فئات ومستويات مختلفة: “الكتاب والباحثون والخبراء” و”أولئك الذين يبدعون وينتجون الثقافة والذين يعملون على توزيعها والذين يخرجون الثقافة إلى الوجود والفضاءات التداولية”.

يضع لويس بودان نفسه ضمن مقاربة تاريخية وسوسيولوجية: “لا يمكن تعريف المثقف بشكل صحيح ودقيق إلا داخل المجتمع وحسب الثقافة، والمهنة التي تقدم عموما نوع من الوساطة بين المصطلحين”. الثقافة والمجتمع والمهنة هي الأبعاد الثلاثة الموجهة نحو الأغراض والأهداف المتوخاة. في القرون الوسطى، تشكل المثقف داخل الجامعات التي أدت بشكل شامل إلى توحيد الثقافة وتكوين هيئة حقيقية من المثقفين في مجتمع يتميز بالهرمية والتراتبية، كان من نتائجها ظهور أنواع جديدة من الرجال: آبيلار Abélard، أول أستاذ مثقف وغوليار Goliards، من العينات الأولى من المثقفين الانسياقيين conformistes. ويرفض بودان، وبشكل متسرع، وجود مثل هذه الظواهر في العصور القديمة.

في العصور الوسطى ومع ظهور الكتاب، أصبح المؤلف أكثر انفرادية وانطوائية على الذات، مركزا كل جهده على امتلاك وحيازة مهنته وتطوير تجاربه. أدى هذا العزل إلى تكريس ثقافة تميل إلى تشكيل عالم خاص ومتفرد ومنغلق وأكثر أرستقراطية. أما القرن السابع عشر، فهو قرن الأدب بامتياز. فاللحظة الأنوارية، يمكن اختزالها في مجموع معارف محددة ومفيدة لتحرير الإنسان، أحدثت دمقرطة معينة أثناء عملية الخلق والإبداع وانتشار هذه المعارف.

سيتشكل، من خلال التطور التاريخي الثقافي وبإيجاز، نوعان أساسيان: المثقف المدرس والمثقف الكاتب. ولمعالجة التعالق بين المثقفين والمجتمع، فإنه ليس من الضروري أن نتساءل كثيرا عن طبيعة الفئات التي يمثلونها. فلا يمكن أن يطبق عليه المفهوم الماركسي للطبقة الاجتماعية، فتجانس هذه “الطبقة” يعد وهميا، فمفهوم “المثقف” يتميز بالتنوع والتعدد. إن مشاركة المثقف في الحياة العامة همت جميع المستويات، من المشاركة في الوظيفية التعليمية البحتة كالمدرس أو الصحفي الذي يقوم بمهامه إلى الالتزام النشيط في الحياة السياسية. يقترح المؤلف تصنيف مثير للاهتمام يتكون من ثلاثة أنواع من المثقفين:

– المهندسون والمسؤولون في أوسع معانيهم من خدام الدولة والاقتصاد.

– الأخلاقيون والمعارضون وهم الذين نطلق عليهم عادة بالمثقفين، فهم محرضون يهيئون ويخلقون ظروف وشروط الحركات الاستيائية والاحتجاجية ويعملون على تأجيجها وتغذيتها وتنظيمها وتوجيهها وترجمتها مباشرة على أرض الواقع.

– أما النوع الأخير ويتمثل في الثوريين ورجال السياسة، فالثوري يشكل استثناء. بالنسبة ل”لنين”، ليس هناك وجود تعارض بين العمل الفكري والمهنة السياسية.

 إن المثقف الحديث يندمج في البيئة الاجتماعية والثقافية من خلال مهنته، فالتوزيع المهني يتم حسب درجات التنمية الاقتصادية. أما عن مستوى عيش المثقفين ونمط حياتهم، فقد تم دراستها بشكل مقتضب وفي بضعة أسطر، فقط حالة الأطباء هي التي تم التطرق لها بإسهاب هنا. فيطرح الكاتب الوضعية الحياتية للمثقفين في قالب تسائلي: ماذا يخبئه المستقبل لهم؟ هل سيكونون ضحايا أو مستفيدين من التوحيد الثقافي والحركية الاجتماعية؟ ألا يؤدي الدعم التي قد يقدم من قبل الدولة لعدد متزايد منهم على احتوائهم؟

يمكن للمرء أن يحكم على تنوع القضايا التي يحتضنها هذا الكتاب الصغير، ولكن سيكون من السخافة أن نلومه على عدم معانقة ومقارعة وملامسة كل المستويات والجوانب. فهذا يحمل، حتى الآن، بذرة السجالات الجدلية والأفكار والتصورات الأولى حول تحديد مفهوم “المثقفين”، بالإضافة على أنه يضع بين أيدينا ببليوغرافيا شاملة.

خلاصة

حتى الآن، على الرغم من تعدد زوايا معالجة هذا الموضوع، نشعر وكأن المشكلة لم يتم حلها حقا وبشكل نهائي. فلا زال الغموض والالتباس موجود بقوة وحاضر بشكل مكثف وباعتراف صريح من المؤلف نفسه. فالمفقود هو البعد النفسي وتحديد عقلية المثقف. فمن الصعب اقتراح مفهوم واحد ومتفق عليه من طرف الجميع، نظرا لاختلاف المرجعيات والمقاربات وتعدد الخلفيات النظرية والإيديولوجية.

من ناحية تعريف المثقف والإجابة على هذا السؤال، يرجح غالبا أن تعريف المثقف ليس بالإجراء النظري السهل لأنه عملية تتخذ كموضوع لها حقلا متغيرا حركيا خاصا بالأفكار والأيديولوجيات التي ترتبط بصفة غير مباشرة ومقنعة بمصالح موضوعية ومادية. كما أن موضوع المثقف والحديث عنه يأخذ أبعادا عدة وتشعبات كثيرة أولها ما يتعلق بتحديد مفهوم المثقف وتصنيفاته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى